أنجيل الشاعر
كاتبة سورية
الاستلاب هو فعل ذاتي، بموجبه يضع الإنسان خصائصه الإنسانية في قوة خارجية، يمنحها حياة رمزية، ويمتثل لمشيئتها، كالقوة المادية، أو القوة الطبيعية، أو القوة الدينية، وهو، بالتعريف، اغتراب ناتج العمل عمن ينتجه واغتراب المنتج عن ذاته؛ إذ “تتحول العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين المنتجين إلى علاقات مادية بين أشياء، وتصير العلاقات بين الأشياء علاقات اجتماعية”، حسب تعبير كارل ماركس.
وقد شغلت هذه العلاقات حيّزاً كبيراً من فكر الفلاسفة وعلماء الاجتماع، فأطلقوا عليها أسماء الاستلاب والاغتراب والتشيؤ. وكان لكل من هيغل وفويرباخ وماركس الفضل الأكبر في نحت هذه المفاهيم وتحليلها إنسانياً.
فقد ذهب فويرباخ إلى أنّ الاغتراب هو علَّة ظهور الدين، ورأى ماركس، إضافة إلى ذلك، أنّ الاغتراب نفسه هو علَّة ظهور الملكية الخاصة.
ومن تواطؤ الكهنوت والملكية الخاصة نتج استعباد النساء، ونشأت العبودية بوجه عام.
لاحظ “إريك فروم” في فلسفته الإنسانية أنّ استلاب الإنسان في المجتمع الاستهلاكي، قد استولى على عقله، وسخّر عبقريته لصالح الرأسمالية العالمية، وأطلق عليه “الاستهلاك غير الواعي”؛ الذي يوقع الإنسان في فخ الامتلاك، ليصبح هو نفسه بضاعةً تباع وتشترى، فيقوده ذلك إلى تقديم مبدأ الامتلاك على مبدأ الوجود الإنساني.
(الإنسان المستلب وآفاق تحرره، إريك فروم، ترجمة الدكتور حميد لشهب)، فيصح الإنسان مستغِلاً للإنسان ومستغِلاً لنفسه في الوقت ذاته.
فلم يعد يعني البلدان الرأسمالية من تطوير الصناعة إلا الربح والقيمة الزائدة بتعبير ماركس، فقد عملت على “تأليل” الإنسان، (تحويله إلى آلة)، أكثر من إغناء إنسانيته بالمقومات التي ترتقي به إلى المستوى الإنساني البحت، فقد وضعت العولمة حداً فاصلاً بين الإنسان والطبيعة، وبين الفرد ومحيطه الاجتماعي، وأكبر مثال على ذلك التقنيات الإلكترونية التي أضعفت التواصل الطبيعي بين أفراد المجتمع، وكذلك التسوق عن طريق الإنترنت جعل من الفرد (ذكراً وأنثى) شخصاً مستهلِكاً ومستهلَكاً في الوقت ذاته، وقد تكون النساء أكثر استلاباً واستهلاكا لأنفسهن وأكثر اغتراباً عن ذواتهن بخضوعهن للعنف المبرمج الذي تولده آليات السوق الرأسمالية؛ يليهن الشباب، الذين اخترعت لهم العولمة “رضاعة التسلية” وعالماً افتراضياً مشحوناً بالعنف والجنس، يمارسون فيه حريتهم الوهمية. والهدف من ذلك كله هو الربح.
إذن كان “فروم” محقاً في ملاحظته، التي مضى عليها نصف قرن من الزمن: “تقديم مبدأ الامتلاك على مبدأ الوجود”، لأن ما يجري اليوم داخل المجتمعات العالمثالثية، ليست إلا ردود فعل عنيفة على مبدأ الامتلاك في سبيل تحقيق الذات، التي هُدرت حسب تغيرات الزمن.
وهذا ما عبّر عنه المتطرفون في جميع أنحاء العالم تعبيراً سلبياً، سواء عن طريق الجماعات الإرهابية أو عن طريق أفكار نظرية متطرفة تعبّر عن أيديولوجيا متمركزة حول الذات، فيصبح الإنسان مغترباً عن ذاته وعن العالم.
في القرن الماضي انتشر مفهوم “الإمبريالية العالمية” انتشاراً واسع النطاق، وكان يعني تحكم الدول القوية في الدول الضعيفة والسيطرة على ثرواتها ومواردها وقوة عمل شعوبها، كما يعني حسب الموسوعة الحرة (وكيبيديا) “سعي الدولة (القومية) إلى توسيع سلطتها ومجال تأثيرها عن طريق الاستعمار العسكري والسياسي والثقافي والاقتصادي”، وإخضاعها لمنطق السوق الرأسمالية في المقام الأول، وقد اتسمت بهذه السمة الإمبريالية معظم الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
ورد اليساريون جميع أشكال الشقاء الإنساني إلى الإمبريالية الرأسمالية، وكان للثورة الاشتراكية وحركات التحرر القومي أثر كبير في تعميق العداء للإمبريالية والنظام الرأسمالي معاً.
ولكن الثورة الاشتراكية لم تقدم نموذجاً بديلاً من الرأسمالية؛ إذ تحول الاتحاد السوفييتي السابق والدول التي كانت تدور في فلكه إلى أنظمة تسلطية، تدهورت في ظلها الحياة الإنسانية وتعمق استلاب الإنسان واغترابه، على نحو أدى إلى سقوط “المنظومة الاشتراكية”، بانتهاء الحرب الباردة.
ومنذ ُمطلع الثمانينيات تراجع مفهوم الإمبريالية، إلا في خطاب بقايا اليسار، وبرز مفهوم “العولمة”، الذي يدل على عملية اقتصادية تخدم مصالح السوق الرأسمالية التي سيطرت على العالم بكافة مجالات الحياة؛ الاجتماعية والثقافية، والأهم من ذلك كله التحكم بسياسة العالم واقتصاده، والمستهدف الوحيد في هذا المفهوم العملي هو الإنسان، وعلى وجه التحديد إنسان العالم الثالث الذي أصبح يواجه كل أنواع الاستلاب والسيطرة عليه، والتحكم بعقله ورغباته عن طريق إغوائه بالامتلاك والاستهلاك وانتشار العلوم المزيفة والصناعات المترفة واللهو في التكنولوجيا الحديثة.
فقد استباحت الدول الرأسمالية الوعي البشري بوسائل الإنتاج المرتبطة بالتقدم العلمي والتقني، ليستقر هذا التقدم في اللاوعي ويصبح مشروعاً، كما يصبح الفرد خاضعاً لتلك الوسائل، وهذا ما دفع “هابرماس” إلى التمييز وبشكل موسع بين العمل (بمعنى إنتاج السلع والخدمات) وبين الفعل التواصلي، أو التفاعل؛ وعقلنة السوق الرأسمالية التي أيدها قبله هربرت ماركيوز، ويؤكد على لغة الكلام للفعل التواصلي بين الأفراد بدلاً من لغة السلعة: “لا يمكن عقلنة الفعل التواصلي، لا من الجانب التقني للوسائل المختارة، ولا من الجانب الإستراتيجي لها، بل من الجانب الأخلاقي، العملي، للمسؤولية الشخصية الذاتية الخاصة بالذات الفاعلة، والطابع الذي يمكن أو لا يمكن الدفاع عنه لمعيار الفعل”، ويقصد بذلك أن التفاعل هو ممارسة اجتماعية أخلاقية تبادلية؛ أي إن العلاقات الإنسانية يجب أن تبقى إنسانية بحكم العقل والأخلاق، وفي مكان آخر يقول: “إنّ التقنية تحول الإنسان نفسه إلى وسائل وأدوات، فتقمع طاقاته الإبداعية والتحررية”، وهذا ما نراه اليوم يطفو على جسد العالم بأدلة واضحة وصريحة، والدليل الأكثر وضوحاً هو التسلح والتجارب النووية، ونشوب الحروب والقتال المتفشي على جسد العالم بسبب الشركات المصنعة للأسلحة الذكية التي لا تهتم لموت البشرية بقدر ما تهتم للربح.
نحن الآن أمام إشكالية في غاية الأهمية من حيث خطورتها على العقل البشري، الإنسان أغنى عالم السلع وأفقر نفسه؛ فقد بات هذا العقل يعيش صراعاً بين قبول للتطور التقني ورفصه له. لذلك يبقى السؤال ملحاً: ما السبيل إلى جعل التطور يصب في مصلحة الإنسان، لا في مصلحة الربح أو السلعة التي هي من صنعه؟
نقلاً عن حفريات