أحمد الديباوي
كاتب مصري
إذا كانت الليبرالية، كأيدولوجيا سياسية وفلسفة اجتماعية وتوجُّه اقتصادي، ترتكز على مبادئ وأركان متعددة، مثل: سيادة القانون والتعدّدية وقبول الآخر والمساواة والعلمانية واقتصاد السوق، فإنَّ الحرية تأتي كأحد أهم أركان وركائز الليبرالية على الإطلاق؛ ذلك أنّ مصطلح الليبرالية، ذاته، مشتقّ من الكلمة اللاتينية Liber، وتعني (حُرّ)، الأمر الذي يجعل الحرية أساساً فاعلاً للاتجاه الليبرالي عموماً، ولعلّ هذا هو ما يجعل أعداء هذا الاتجاه، في عالمنا العربي، يتكئون على رفضهم النظام الليبرالي لارتكازه على الحرية، فيأخذون في التشهير والتشنيع عليه، والادّعاء بأنّه اتجاه فوضوي، يدعو إلى الحرية والتحرر بشكل منفلت، دون أن يحاولوا فهم دلالات الحرية؛ اللغوية والاصطلاحية، وأنواعها واتجاهاتها، ومدى إفادة الفرد والمجتمع منها؛ لذلك لم يكن مستغرباً أن تعاني الليبرالية من سُوء السُّمعة في العالم العربي.
الحرية حجر الأساس للفكر الليبرالي
منذ نشأة الليبرالية مع النهضة الأوروبية، وتطورها بعد ذلك، عبر أربعة قرون، وصولاً إلى العصر الحالي، كانت الحرية حجر الأساس والمكوِّن الرئيس لها، بحيث يمكننا القول مع المفكر عبدالله العروي: إنّ الليبرالية ترى أنّ الحرية هي المبدأ والمنتهى، الباعث والهدف، الأصل والنتيجة في حياة الإنسان.
الحرية تعني التحرر من كل تسلُّط سياسي أو اجتماعي؛ فالأول يعني استبداد الدولة وتسلّطها السياسي، والآخر يعني استبداد الجماعة وتسلّط المجتمع، وإن يكن هذا المعنى مما درجت عليه الليبرالية الكلاسيكية، بيْد أنّه يصلح بوجه من الوجوه في الوقت الحالي، خصوصاً أنّ الليبرالية، في جوهرها، تعارض المؤسسات السياسية والدينية التي تحدُّ من الحرية الفردية، وتطالب بحق الفرد في حرية التعبير، وتكافؤ الفرَص، والثقافة الواسعة، على حدّ تعبير منير البعلبكي في موسوعة (المورد العربية)، وهذا لا يتنافى ولا يتعارض مع تطور مفهوم الليبرالية خلال العقود الماضية، وتجزّئها إلى ليبرالية سياسية واقتصادية وأخلاقية.
الحرية الفردية حق ما دامت السيادة للقانون
يستند المعارضون للحرية، في النطاق الليبرالي، إلى تعريف عالِم الاجتماع الفرنسي، ألكسي فيكل، وهو أحد أقطاب الليبرالية: “إنّ معنى الحرية الليبرالية الصحيح هو أنّ كل إنسان نفترض فيه أنّه خُلق عاقلاً، يُحسِن التصرف، ويملك حقاً لا يقبل التفويت في أن يعيش مستقلاً عن الآخرين، في كل ما يتعلق بذاته، وأن ينظِّمَ كما يشاء حياته الشخصية”، فيدّعون أنّ الحرية في النطاق الليبرالي منفلتة، لا حاكمَ لها ولا رابط، فهي تجعل الإنسان كائناً معزولاً غيرَ اجتماعي؛ لأن تفكيرَه ينحصر في دائرة ذاته واهتماماته الشخصية، دون أن يتأثر بأحد أو يؤثر على أحد، ولا يعني غيره ما يفعله هو، وهذه بالطبع قراءة متعسّفة؛ إذ إنّ حرية الفرد ما دامت داخل دائرته الخاصة، دون اعتداء على حرية الآخرين، أو الانتقاص من حقوقهم، مهما كانت، فهي مسألة تخصّه وحده، ويكفلها له المجتمع، فمن حق الفرد أن يحيا حراً، مختاراً، معترفاً لغيره بحريته، متسامحاً معه، قابلاً لاختلافه عنه، ما يعني أنّ الحرية والاختيار هما اللبنة الأساسية في الفلسفة الليبرالية، دون أن يُحدِثَ هذا انفلاتاً أو تفسُّخاً أخلاقياً، ما دامت السيادة للقانون، وما دامت منسجمة مع حريات الآخرين.
ومن هنا يظهر مصطلح (المسؤولية)؛ ذلك أنّ حرية الإنسان وتفرّده في اختيار طريقة حياته، معناه أنّه أضحى مسؤولاً عن تصرفاته كلها، فلا حرية دون مسؤولية، ويقيناً هذا من الإسلام؛ قال تعالى: “وكلّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه” (سورة الإسراء13)، ويقول عز وجل أيضاً: “ولا تزروا وازرة وزر أخرى” (سورة فاطر18).
أحمد لطفي السيد.. وجذور نظرية الحرية
على الرغم من أنّ الحرية، بمعناها الواسع الحديث، ليس لها وجود في تراث العرب والمسلمين، كما ليس لها دلالات لغوية أو اصطلاحية متعددة في المعاجم القديمة، بيْد أنّنا مع بعض التأصيل والبحث في المتن الرشدي نستطيع استخلاص شبه نظرية رُشدية، خصوصاً فيما يتعلق بالجانب السياسي لدى الفيلسوف العربي ابن رُشد، ومن العبث الادعاء بأنّنا قادرون على استخراج نظرية للحرية في المدوَّنات العربية القديمة والوسيطة، لكننا على أي حال لا نجد حرجاً من الاعتراف بوجود جذور فكرية لنظرية الحرية في المحيط العربي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهو إرث فكري لا محالة، ويبرز اسم أستاذ الجيل، أحمد لطفي السيد، كأحد أبرز المفكرين المصريين الذين أصّلوا لمفهوم الحرية، وبيّنوا أهميتها للفرد والمجتمع على السواء، حتى إنّه قال في أحد مقالاته عام 1912، “لو كنا نعيش بالخبز والمال، لكانت عيشتنا راضية وفوق الراضية، ولكن غذاءنا الحقيقي الذي به نحيا ومن أجله نحب الحياة، ليس هو إشباع البطون الجائعة، بل هو غذاء طبيعي أرفع درجة، هو إرضاء العقول والقلوب، وعقولنا وقلوبنا لا ترضى إلا بالحرية”.
وفي مقال آخر له، العام 1913، تحت عنوان “الحرية الشخصية”، يشير إلى أنّ الإنسان خُلق حراً حرية غيرَ محدودة، وما وجود الحكومة، أيّاً كان شكلها، إلا ضرورة من الضرورات؛ فعملها وتدخلها ينبغي أن يكون داخل دائرة محدودة بحدود الضرورة، فليس من الصواب التوسع في تطبيق هذه الضرورة، وإلا فإنّ الإنسان يخسر بذلك أعز ما وهب الله تعالى في هذه الدنيا، وهي الحرية.
ويفرّق لطفي السيد بين مذهب الحريين أو الفرديين، وهو ما ذكرناه آنفاً، ومذهب الجماعيين، الذين يعدون الفرد بلا وجود ولا راحة ولا سعادة؛ لأنه جزء من المجموع، وفي النهاية يختار أستاذ الجيل مذهب الفرديين، فيراه أنفع لمصر، حتى لا تتسلّط الحكومة على الأفراد، وتُضيّق عليهم، فلا تحترم حريتهم ومصالحهم، وضرب الرجل مثالاً بقانون المطبوعات الذي فرضته الحكومة آنذاك، قائلاً: “ما ذنب أفراد الأمة يقادون بقانون يحدّ أعلى مظهر من مظاهر الحرية الشخصية، وهي حرية القلم وحرية الرأي؟”.
فهل نوافقه على ذلك الرأي بعد مرور 106 أعوام؟
نقلاً عن حفريات