غسان شربل
ماذا سيقول حين يخونه العمر؟ وحين يُستدعى إلى الفندق البعيد. إلى محاكمة في قاعة صارمة. يعرف المنتظرين هناك. ديفيد بن غوريون وليفي أشكول وغولدا مئير وإسحاق رابين وشمعون بيريز ومناحيم بيغن وآرييل شارون وغيرهم. هل يذكرهم بأنه صاحب الرقم القياسي في الإقامة في مكتب رئيس الوزراء؟ وماذا لو عاجلوه بالقول إنه الرجل الذي افتضحت في ظله هشاشة الردع.
لن يجرؤ على الإجابة. كيف يبرر غفلة أجهزة الاستخبارات؟ كيف يبرر غفلة الجنرالات وغفلة الأوسمة على صدورهم؟
لم يكن يتوقع نهاية من هذا النوع. هذه المرة ليست التهمة تقبل هدايا واستغلال منصب. إنها أخطر بكثير. إنها تهمة التفريط بهيبة القلعة المسلحة حتى الأسنان. منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي يستيقظ فيجد كأس السم في انتظاره.
كل الخيارات صعبة. ومؤلمة. وانتحارية. يشعر بالخجل أمام عيون ذوي الرهائن. يشعر بما يشبه العار أمام سخرية الجنود الذين استدعاهم لتفادي الكارثة. يكاد لا يصدق ما حدث.
هزّ المهاجمون المستوطنات واقتلعوا المستوطنين. اقتادوهم رهائن إلى الأنفاق. أمطروا المدن والبلدات بالصواريخ. لن يقبلوا بأقل من إطلاق جميع الأسرى الفلسطينيين. يطالبون بمكافأة كبرى على طعنتهم القاتلة.
قصته مع السم قديمة. تذكر الكأس الأولى. كان ذلك في يونيو (حزيران) 1976. عادت إلى المنزل جثة شقيقه الضابط جوناثان نتنياهو.
خطف رجال القيادي الفلسطيني الدكتور وديع حداد إلى عنتيبي في أوغندا طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية على متنها 77 إسرائيلياً. يومها كان اسم رئيس الوزراء الجنرال إسحاق رابين. رفض الرضوخ لمطالب حداد و«الجبهة الشعبية».
أرسل الوحدات الخاصة إلى نقطة تبعد 4 آلاف كيلومتر فقتلت الخاطفين وحررت الرهائن، لكنها عادت بجثة وحيدة هي جثة شقيقه. ومنذ ذلك اليوم، قرر أن ينتقم كثيراً وطويلاً.
بعد مروره في الدبلوماسية في واشنطن ونيويورك، عاد إلى إسرائيل ملاكماً في صفوف تكتل «ليكود». سيهزم بيريز وسينافس شارون. لاعب ماكر وخطيب مفوّه. في 1996 ستسقط رئاسة الحكومة في يده. أول رئيس وزراء ينتخب بالاقتراع المباشر.
وأول رئيس للوزراء وُلد على أرض الكيان بعد ولادته.
في 1997 كان نتنياهو يحلم بجائزة كبرى. وضع «الموساد» على طاولته اقتراحاً مثيراً. اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل الذي يحمل الجنسية الأردنية.
اختار «الموساد» تفادي المتفجرات والرصاص بسبب وجود علاقات دبلوماسية بين الأردن وإسرائيل. الاغتيال بالسم وبمادة لا نجاة منها.
وفي 25 سبتمبر (أيلول)، انتظر نتنياهو في مكتبه نتائج العملية المثيرة. رشق مشعل بالسم، لكن المنفذين اللذين جاءا بجوازي سفر كنديين اعتُقلا. تحولت العملية كارثة.
غضب الملك حسين واتصل بالرئيس بيل كلينتون وهدد بإغلاق السفارة الإسرائيلية. لم يكن أمام نتنياهو غير تجرع السم.
تسليم الجانب الأردني الترياق الذي ينقذ مشعل من التسمم القاتل والإفراج عن مؤسس «حماس» الشيخ أحمد ياسين وعدد من الأسرى. وبعد 26 عاماً يطل مشعل بعد عملية «طوفان الأقصى» مطالباً نتنياهو بإطلاق جميع الأسرى الفلسطينيين في مقابل إطلاق الرهائن المحتجزين في غزة. قتل أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي ويحيى عياش وصلاح شحادة وآخرين لم يقتل «حماس».
قبل محاولة اغتيال مشعل، وتحديداً في أكتوبر (تشرين الأول) 1995، اكتشف «الموساد» أن الرجل المار في مالطا حاملاً جوازاً ليبياً باسم إبراهيم الشاويش ما هو إلا فتحي الشقاقي مؤسس حركة «الجهاد الإسلامي في فلسطين».
اغتاله وبعد 28 عاماً على الاغتيال تطلق «الجهاد» من غزة صواريخها على تل أبيب ومن دون أن تنكر علاقتها العضوية مع إيران.
ماذا سيقول نتنياهو للمتحلقين في القاعة في الفندق البعيد. هل يعاتب إسحاق رابين لأنه صافح ياسر عرفات في حديقة البيت الأبيض وانزلق إلى سلام أوسلو؟ هل يبلغه أن عرفات أعاد علم فلسطين وعاد معه وأن هذه الأرض ضيقة لا تتسع لعلمين وشعبين ودولتين؟
يتذكر نتنياهو لقاءه الأول مع ياسر عرفات. كان اللقاء من قماشة تجرع السم. حاول أن يملي على عرفات أجندة اللقاء ليوحي لاحقاً للإعلام أنه حاصره. راح الزعيم الفلسطيني يخلط الأوراق ويغير الموضوع ويوحي بأن لديه أوراق قوة.
هل يقول لرابين وبيريز إنهما أعادا إلى الأرض عرفات الذي ذهب الجيش في 1982 إلى بيروت لإخراجه منها وليهرم مع قضيته في المنفى؟ هل يقول إن مرونة عرفات كانت جزءاً من خطته لإعادة ربط المصيرين الفلسطيني والإسرائيلي وبحيث لا تنعم إسرائيل بالأمن إلا إذا عاش الفلسطينيون في دولتهم المستقلة؟
يفتح نتنياهو يديه على شكل سؤال. الأيام الحالية أيام السم. والأيام المقبلة تشبهها وأدهى.
لا يمكن محو «حماس» من دون محو غزة. وجمر غزة رهيب ويلوح بالتطاير إلى خرائط أخرى.
لا المنطقة تستطيع احتمال حرب طويلة ولا العالم يقبل. كأن الهجوم الخارج من الأنفاق أدخل إسرائيل في نفق ما أصعب الخروج منه.
كأن القصة من أولها قصة أنفاق بسبب الرهان على شطب الآخر وإنكار الحقائق والحقوق. يعرف أنهم سيرفعون الصوت غداً ويقولون إن ما فعله باتفاق أوسلو وإطلاق الاستيطان على مصراعيه أدخل إسرائيل في نفق مظلم لن تخرج منه إلا بتجرع سم الدولة الفلسطينية المستقلة.
ما أصعب أن يشعر لاعب مدمن أن الرحلة انتهت. وأن ختامها صعب ومؤلم ومريع. حين تصمت المدافع والطائرات ستشكل اللجان.
تحقيقات واستفسارات وتبادل اتهامات. المزيد من القتل لن يحل المشكلة. نقتلهم ولا يموتون. تشطب جيلاً فيخلفه جيل أشد شراسة. تشطب رجلاً وتتجرع السم لاحقاً على يد من هم أقسى منه. ما أصعب أن يدفعك أعداؤك إلى النفق.
نقلاً عن “الشرق الأوسط” اللندنية