شادي عبد الحافظ
بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي مؤخرا محاولاتها لاختراق غزة بريا بشكل محدود في عدة مناطق من جهتين أساسيتين؛ الشمال، بالقرب من بيت لاهيا وبيت حانون، والشرق، جنوبي حي الزيتون، كانت تلك المناطق فارغة تقريبا إلا من أراضٍ زراعية في غالب مساحتها، ويدخل كلٌّ منهما إلى القطاع بعمق عدة كيلومترات وهي ما توصف أمنيا بالمناطق المحروقة، وبالتالي فإن ذلك يسمح لقوات الاحتلال بالانتشار دون أي عوائق حضرية أو كمائن يمكن أن تُمثِّل خطرا شديدا.
لكن بمجرد اقتراب قوات الاحتلال من المناطق الحضرية، مثل شارع صلاح الدين الذي يقسم قطاع غزة بالطول إلى نصفين تقريبا ويربط شمالها بجنوبها، قوبلت فورا برد فعل نيراني كثيف من قِبَل المقاومة، ما أخرج قوات الاحتلال من الشارع ومحيطه سريعا، حيث لم تتحمل الثبات في مواقعها الجديدة، بحلول مساء الاثنين 30 أكتوبر/تشرين الأول. فما الذي تستخدمه قوات المقاومة لردع قوات الاحتلال وإبعادها عن المناطق الحضرية؟
قذائف الياسين
من أجل تنفيذ الاجتياح البري، فإن هناك عدة أدوات تستخدمها أية قوة مُهاجمة، مثل الدبابات والمركبات المدرعة، إلى جانب المدفعية الكثيفة التي تكون عادة في خلفية القوات المهاجمة أو ضربات الطيران، التي يمكن في مجموعها، وبفضل القوة النارية والقصف المتواصل، أن تمهد الطريق أمام المهاجمين.
ولا يمكن تحقيق أي اختراق على الأرض من دون الدبابات والمركبات المدرعة بشكل أساسي؛ المركبات المدرعة تنتشر على الأرض وتحمل الجنود داخلها للتعامل مع المشاة من المدافعين وتحاول تحييد صواريخهم المضادة للدبابات والخارقة للدروع وبالتالي تحمي الدبابات، أما الدبابات فتخترق الثغرات في خطوط المدافعين لدعم دخول المدرعات في المقام الأول، وهكذا بالتبادل.
لكن المُدافع (وهو هنا جنود المقاومة) يمتلك أدوات لوقف تقدم هذه القطع العسكرية البرية أيًّا كان نوعها، وأولى هذه الأدوات بالنسبة للمقاومة الفلسطينية هي قذائف الياسين التي أعلنت عنها حماس بعد عدة أيام من نجاح عملية “طوفان الأقصى”، وفي مساء الاثنين 30 أكتوبر/تشرين الأول أعلنت أنها باغتت العدو بقذائف من النوع نفسه. قذائف الياسين من عيار 105 ملم، وعيار القذيفة يُمثِّل قُطر عبرودها، وهو رأس القذيفة الذي ينطلق من السلاح، ويضرب الهدف، ويكون أعلى الظرف الفارغ.
لم تكشف المقاومة الكثير من المعلومات عن الياسين، لكن كما يبدو من شكل القذائف يتضح أنها ذات رأس حربي ترادفي (1)، وهو نوع من الأجهزة المتفجرة التي تحتوي على مرحلتين من التفجير (أو أكثر في بعض الحالات)، وبالتالي فهو مُصمَّم لاختراق أنواع مختلفة من الدروع أو الهياكل، بما في ذلك المدرعات والدبابات الإسرائيلية.
المرحلة الأولى من هذا الرأس الحربي عادة ما تكون عبارة عن شحنة متفجرة صغيرة تهدف إلى صنع ثقب في الطبقة الخارجية للهدف، أو تنشيط الدرع التفاعلي للهدف، وهو نوع من الدروع التي تنفجر للخارج لمواجهة القذيفة القادمة، فيتمكَّن من توجيه كامل قوة القذيفة الانفجارية إلى الخارج وليس إلى داخل الدبابة أو العربة المدرعة.
أما المرحلة الثانية من هذه القذيفة فهي عبارة عن شحنة متفجرة أكبر تتبع الأولى، وتستغل الاختراق أو الفجوة التي حدثت في الدرع التفاعلي، ثم تفرغ كامل قوتها إلى داخل العربة المدرعة أو الدبابة، مما يسبب المزيد من الضرر للطبقة الداخلية للهدف أو مكوناته، وبالتبعية يعطل المركبة عن العمل ويصل إلى ركابها من الجنود، فيوقف تقدمها.
مع ضرب القذيفة (2)، وبعد 10 أمتار، يشتعل المحرك الصاروخي الداخلي لها وتنفتح أربعة زعانف تثبيت تمنح المقذوف استقرارا في أثناء رحلته ناحية الهدف، وسرعة قصوى تبلغ 300 متر في الثانية، لتضرب الهدف خلال مسافة قدرها عادة 200 متر، وفي هذا النطاق من المقدَّر أن يكون لدى الصاروخ الترادفي من هذا النوع فرصة بنسبة 50% تقريبا لإصابة هدف متحرك (وليس ثابتا)، ما يعني أن إطلاق 20 منها سيحقق 10 إصابات ضاربة.
عادة ما ينطلق هذا النوع من الصواريخ من قذائف “آر بي جي-7” الروسية، وهي قاذفة صواريخ تُحمل على الكتف لأنها عديمة الارتداد، عادة ما يكون تشغيلها بواسطة شخصين، الأول مدفعي حامل للسلاح، والثاني مساعد يحمل طلقات إضافية ويدافع عن المدفعي من الهجوم.
نتحدث ببساطة عن إحدى التحف الفنية للحروب، وهي أشهر قاذفة صواريخ مضادة للدبابات ابتُكرت على الإطلاق منذ طرحها في عام 1961. “الآر بي جي-7” قوي وبسيط، وأُنتِج من هذه القطعة العسكرية إلى الآن أكثر من 9 ملايين وحدة، وتواصل الخدمة في أكثر من 40 دولة، بالإضافة إلى عدد كبير من التنظيمات العسكرية غير النظامية، وإلى جانب دقته وقوته فإن هذا السلاح رخيص الثمن، يتراوح سعره بين 500-2000 دولار للقاذفة.
قوة الكورنيت
في عملية طوفان الأقصى ظهرت صواريخ (3) “كورنيت” بوضوح، حيث استُخدمت في تدمير مدرعات “نامر” الإسرائيلية، وسُجِّل استخدامها في مشاهد من الهجوم الأخير على غزة لاستهداف مدرعات من النوع نفسه، ويبدو أننا أمام إضافة ممتازة لقوات المقاومة الفلسطينية على صعيد مقاومة التقدم البري.
“كورنيت” هو صاروخ روسي موجَّه مخصص للاستخدام ضد دبابات القتال الرئيسية الأثقل في ترسانة الحرب البرية والمزودة بدروع تفاعلية متفجرة، وهو نظام من الجيل الثالث طُوِّر ليحل محل أنظمة الجيل الأول والثاني مثل “فاجوت” و”كونكورس” في الجيش الروسي، وهي أيضا أنظمة تمتلك حماس نسخا منها.
يستخدم “كورنيت” صواريخ شديدة الانفجار مضادة للدبابات (4) (تسمى اختصارا “هيت” (HEAT))، تعمل هذه الصواريخ عبر ما يسمى “تأثير مونرو”، وهو ظاهرة تحدث عندما يكون للعبوة المتفجرة قطع مجوف أو فارغ في مقدمتها، مما يؤدي إلى تركيز طاقة الانفجار في اتجاه معين دقيق، الأمر الذي يزيد من اختراق المادة المتفجرة للهدف عن طريق إنشاء نفث عالي السرعة من المادة المتفجرة، وبالتبعية يكون فعالا في حالة الدروع الكثيفة.
يُعد الرأس الحربي من النوع “هيت” بقُطر 152 ملم واحدا من أقوى الأسلحة الموجهة المضادة للدبابات التي بُنيت على الإطلاق، يمكنه اختراق الدروع بعمق يصل إلى 1000-1200 ملم، والأهم من ذلك أن الصاروخ يمتلك توجيه ليزر نصف آلي، ويطير على طول خط الرؤية للاشتباك مع الهدف وجها لوجه.
ويستمد كورنيت سُمعته المخيفة في ساحات المعارك من مداه الأقصى كذلك، الذي يتجاوز بكثير معظم الصواريخ الحالية المضادة للدبابات، على سبيل المثال يمكن لصاروخ “جافلين” إطلاق رأس حربي على مسافة 2.5 كيلومتر فقط، في حين أن المدى الأقصى لصاروخ كورنيت يصل إلى 5.5 كيلومترات.
الحرب الحضرية
ما سبق كان أمثلة فقط لتوضيح آلية مواجهة هجوم المركبات البرية، كل هذا ولم نتحدث بعد عن ترسانة حماس من العبوات الناسفة وقذائف الهاون والصواريخ قصيرة المدى والأسلحة الخفيفة، بما في ذلك بنادق القنص التي تضاعف قوة المقاتلين على الأرض، وقد استخدمتها حماس من قبل في استهداف جنود الاحتلال، وأعلنت كذلك أنها استخدمتها يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول عبر قناتها على تلغرام، لكن بعيدا عن القطع العسكرية المستخدمة، يجب توضيح أن الدفاع هو الموقف التكتيكي الأقوى في الحرب الحضرية، لأن المهاجمين (وهم هنا دولة الاحتلال الإسرائيلي) معرضون دائما للخطر، وكما يشير المحللون في هذا الصدد، فأن تصل إلى المنطقة المستهدفة شيء، وأن تبقى فيها شيء آخر تماما، فالبقاء أكثر صعوبة وخطورة من مجرد الوصول.
التضاريس الحضرية دائما ما ستوفر نقاط قوة فورية ذات جودة عسكرية ممتازة بالنسبة للمقاومة، بحيث يكون مجرد عبور الشارع هو مهمة خطيرة جدا على أيٍّ من جنود دولة الاحتلال، بل وأيٍّ من الجيوش الأكثر تقدما في العالم عموما، لذلك عادة ما يستخدمون قنابل خارقة للخرسانة بحيث يمرون من منزل إلى منزل.
موقف المدافع داخل الحرب الحضرية يكون دائما أفضل، وبحسب الخبراء في هذا النطاق (5) فإن الحفاظ على المدن بالنسبة للموجودين داخلها أسهل دائما من الاستيلاء عليها من قبل المهاجمين، حيث تتميز التضاريس الحضرية بأنها معقدة وديناميكية، وتساعد المقاومة على ابتكار تكتيكات مرنة يمكنها استغلال مزايا التضاريس الحضرية، ليس أقل تلك المزايا أن المباني تحجب عن المهاجم أعمال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع وقدرتهم على الاشتباك عن بُعد.
حماس في النهاية تعرف أنها الطرف الأضعف بمقياس العتاد المادي، لكنها تستغل ما تمتلك من عتاد وموقف على الأرض ومناورات سياسية (عبر عنصر الأسرى مثلا) بحرفية شديدة، وتتعامل مع القوات على الأرض بهدف إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في جيش الاحتلال الإسرائيلي ورفع فاتورة التوغل، وفي كل مرحلة يطور فيها الإسرائيليون هجومهم فإن حماس تتكيف مع الوضع القائم وتستخدم تكتيكات جديدة تبطئ من تقدم الإسرائيليين، ما يحقق بدوره ضغطا شديدا على صناع القرار السياسي في دولة الاحتلال، خاصة في ظل حالة التخبط الكبير التي تنتابهم في الوقت الراهن.
المصدر : الجزيرة