د. عمار علي حسن
كاتب وباحث في علم الاجتماع السياسي
ما إن انطلقتْ عمليّة “طوفان الأقصى” حتى انفلتت ألسنةُ مسؤولين كثيرين في الغرب، في مقدّمتهم الرئيسُ الأميركي جون بايدن، بوصف المقاومة الفلسطينيّة، بأنّها “تنظيم إرهابي”، يتطابق تمامًا مع “داعش”، ولذا فلا بدَّ من التصدّي له، ومعاقبة المنضوين تحت لوائه، بل إنهاء وجوده تمامًا، حتى لو تطلب هذا حرق الأرض، وقتل مَن عليها، وتهجير بقيّتهم وتشريدهم، بلا تحسّب ولا هوادة.
وتصرّ بعض الأقطاب السياسية والثقافية في الغرب إلى وصْم حركات المقاومة بالإرهاب، متناسيةً أمرَين أساسيَين؛ الأول هو طبيعة الوضع على الأرض في الأماكن التي تشهد حركات المقاومة، والثاني هو إغفال أو تناسي حركة المقاومة في الغرب نفسه، حين واجهت بعض دوله الاستعمارَ، مثل المقاومة الفرنسية التي تصدّت للاحتلال النازي.
لكننا رأينا في الغرب نفسه، كثيرًا من المثقّفين والفنّانين، وأتباع الحركات الاجتماعية، والتجمعات السياسية، ترفض هذا المنطق، الذي يبرّر القتل والتخريب، وقاد هؤلاء تظاهرات في الشوارع انضمت إليها الملايين في مدن أوروبيّة وأمريكيّة عدّة. بل وجدنا من بين المتظاهرين كثيرًا من اليهود، وهم إما ينتمون إلى طائفة من أتباع هذا الدين يعتبرون قيام “دولة إسرائيل” خطيئة دينية وسياسية، وإمّا يرفضون، من منطلق إنساني رحيم، إفراطَ الجيش الإسرائيلي في القتل والتدمير لقطاع غزة، ومحاولة تهجير سكانه إلى الشّتات.
انقاذ المشروع الغربي
وهؤلاء الرافضون للخلط بين المقاومة المشروعة والإرهاب، على كثرتهم- وإن كانوا بعيدين عن دوائر صنع القرار واتخاذه- إلا أنّهم يشكّلون حالة ظاهرة من الاتّساق مع الذات، ويعملون في خطابهم وتصرّفاتهم، إلى إنقاذ “المشروع الغربيّ” كلّه، بعلاج الفِصَام الذهني الذي يصيبه في مقتل، وهم إن واصلوا الاحتجاج، فسيؤثرون، دون شكّ، على القرار الرسميّ الغربيّ، ولو بالقدر الذي يهذّب تحيّزه التامّ، وتعصّبه الأعمى لإسرائيل.
إنَّ موقف الخالطين بين المقاومة والإرهاب، يتغافل عمدًا وقائعَ التاريخ الفلسطينيّ، وبنود القانون الدوليّ، سواء في شِقّه المتعلّق بمشروعية مقاومة الاحتلال، أو في مسؤوليّة المحتل عن السكّان الذين يقبعون تحت سلطانه، ويرسفون في أغلاله. كما يناقض التجربة الأوروبية نفسها، في صورتها القديمة، التي تتعلّق بالاحتلال النازي، أو صورتها الحديثة التي تتمثّل في إقرار حقّ الأوكرانيين في مقاومة الروس، وما بينهما من تجارب عديدة.
فوقائع التّاريخ تبين بجلاء أنّ الفلسطينيين يعيشون في سجن دائم، بالضفة الغربية وقطاع غزّة، يمارس فيه السجّان، دون سند من قانون أو أخلاق، كلَّ أصناف القهر، بدءًا من التضييق في الرزق، وانتهاء بالاغتيال، مرورًا بالخطف والارتهان والسجن والقضم المتتابع للأرض، علاوةً على التشويه المنظّم ومحاولة طمس الهُوية والتاريخ والحقّ.
أمّا القانون الدوليّ فإنه يقرّ، ابتداءً، حقّ الغضب المشروع من زاوية ثقافية، مثلما فعلت اليونسكو في تفريقها بين “التسامح” و”التساهل” أو “عدم الاكتراث” و”اللامبالاة”، عبر إعلان مبادئ صدر عام 1995. كما يقرُّ هذا القانون “حقّ الاسترداد” الذي يعني مسؤولية الاحتلال عن ردّ كل ما يستولي عليه عَنوة أو غفلة من أملاك الغير، سواء كانت أموالًا أم سلعًا عينية أو بيوتًا أو أرضًا.
وفي إطار أوسع يقرّ القانون الحرب العادلة التي تنبع من أساس أخلاقي، عبَّر عنه القديس والفيلسوف توما الإكويني بقوله: “يجب ألا يعرض الإنسان حياته للخطر إلا من أجل العدالة.”، أو إقراره التدخل في الحروب بعدالة القصد، وتقديم المساعدة الإنسانية، وَفق إدراك أن الحرب تكون، أحيانًا، خيارًا لا بدّ منه لإنهاء الظلم والعدوان.
الحق في مقاومة الاحتلال
في ركاب هذا كلّه أعطى القانون الدوليّ حقّ مقاومة الاحتلال، إذ أقرّت اتفاقية جنيف لسنة 1949 هذا، ووضعت له شروطًا منها، أن يكون لحركة المقاومة تنظيم هرميّ محدّد القوام، وأن يميّز المقاومون المسلحون أنفسَهم عن السكان المدنيين بزيّ خاصّ، ثم جرت تعديلات طرأت عليها عام 1977، لتبين أنه في بعض النزاعات المسلحة، قد لا يتمكّن المقاتلون من تمييز أنفسهم عن السكان المدنيين بطريقة ظاهرة، ويكون عليهم في هذه الحالة أن يستعيدوا مظهرَهم كمقاتلين ما داموا قد حملوا أسلحتَهم علانية خلال الاشتباكات العسكريَّة.
لا يتنكّر الأوروبيون الرافضون حقَّ مقاومة الاحتلال للقانون الدولي، ولا للتاريخ الأوروبي نفسه فحسْب، بل إنّهم يقعون في تناقض ظاهر، لا أعرف كيف لا يخجلون منه، حين يصير كلُّ من يعمل لصالحهم مناضلًا، ومن يعمل ضدهم إرهابيًا، حتى لو كان عمله مشروعًا، يوالي فيه مصلحة بلاده.
فقد رأى أبناء جيلي- على الأقل- كيف كان الأوروبيون ينظرون إلى أي حاملي سلاح يدورون في فلكهم، ويعملون لأجلهم، ويحقّقون مصالحهم، أو يقاتلون خصومهم، على أنّهم مقاومون ومناضلون وطلاب حريّة أو حتَّى مجاهدون، مثلما تعاملوا مع مقاتلي الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وهم أنفسهم الذين صاروا “إرهابيين” مع طالبان حين وقفوا ضدّ الغرب.
وهي مسألة تعلو من التنظيمات إلى الدول، فقد رأينا الغرب يمدح جوزيف ستالين، ويصفه بـ “العمّ جو” حين كان في حاجة إلى أن يشاركه الاتحاد السوفيتي التصدّي لأودلف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، لكن حين وضعت الحرب أوزارها، وظهرت موسكو منافسًا للولايات المتحدة، سرعان ما عاد ستالين ليكون الدكتاتور الدمويّ المتوحّش.
الغريب أنّ الغرب استغلّ تنظيمات إرهابيّة، على رأسها داعش، في تحقيق مصالحه، وزوّد التنظيم بالمال والخطط والسّلاح، فيما وجدنا بعض الباحثين الأوروبيين مثل فرانسوا بورغا وجيل كيبيل يصرّون على وصف الإرهابيين حقًا بأنهم “مناضلون” ضد الظلم والقهر والإكراه، دون الالتفات إلى مضمون رسالتهم المغلقة المفعمة بكراهية الآخر، واستحلال عرضه وماله ودمه، ولا الوقوف عند ما كانوا يرتكبونه من جرائم القتل والتخريب. وكان مبرر هؤلاء أنّ التنظيمات الإسلامية المسلّحة تعيش في ظلّ أنظمة حكم قمعية فاسدة.
ولو أنّ هذا المعيار الذي ارتضى به باحثون ومفكّرون غربيون تم تطبيقه على التنظيمات الإسلامية التي تعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة لكان، وحده، كافيًا لقبول حمل أتباع هذه التنظيمات السلاح، لاسيما أنّ ما يقوم به الجيش وأجهزة الشرطة والأمن الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة يتجاوز كثيرًا وبعيدًا وعميقًا ما تفعله أنظمة الحكم في العالم الإسلاميّ بالتّنظيمات المسلّحة.
ما يدعو للأسى
وهنا يثار تساؤل أمام المؤسّسات البحثية والأكاديمية الغربية: أليس الأولى تفهّم، إن لم تكن مناصرة، قيام تنظيمات، مهما كان انتماؤها بمقاومة الاحتلال؟ إنّ كثيرًا من الباحثين والكتّاب والمفكرين المسلمين، تصدوا بأقلامهم وحناجرهم للتنظيمات المتطرفة والإرهابية، التي آذت المسلمين أكثر من غيرهم، لكن أغلب هؤلاء يفرقون جيدًا بين الإرهاب والمقاومة المسلحة.
إنّ ما يدعو للأسى والأسف معًا أنّ الموقف الأوروبي من أهل غزة خصوصًا، والقضية الفلسطينية عمومًا، جاءَ في وقت كان العالم قد قطع فيه شوطًا على درب إقرار الحقوق الإنسانيّة، وتعزيز مسار المجتمع المدني، وهدم بعض مداميك جدار الصّراع الحضاري، بعد إطلاق حوار بين أتباع الثقافات والأديان والمُعتقدات.
في ضوءِ ذلك أقول بوضوح: إنّه لن تكون لحوار الحضارات والثقافات وأتباع الديانات والمنحازين إلى “الإرث الإنساني المشترك” والمصير أو المستقبل البشري كله، مصداقيةٌ، ما دامَ أنَّ هذا الدمج المتعمَّد بين “الإرهاب” و”المقاومة” مستمرٌّ، والتي تجعلها القوانين الدولية والشرائع السماوية والتجارب والممارسات الإنسانية عملًا مبررًا وشرعيًا، بل ونبيلًا وجديرًا بالاحترام والتقدير، وذلك على العكس من “الإرهاب” الذي هو عمل عدوانيّ أعمى، لا يمكن أن يحظى بأي تعاطف أو تقدير.
من الأفضل بالطبع أن يعيش العالم في سلام، وأن تدفن الحروب إلى جانب الديناصورات، لكن ما دام أنَّ غريزة العدوان تلهب نفوس الأشرار فيعتدون على غيرهم، فالعدل والإنصاف يقتضيان ألا نشجّع المعتدين، وألا نتخلّى عمّن يقاومهم.
نقلاً عن الجزيرة نت