د. معتز الخطيب
في سياقِ الحربِ التي تُشنّها إسرائيلُ على قطاعِ غزّة، استدعى بنيامين نتنياهو رئيسُ الحكومة الإسرائيليّة – في أحد خطاباته – نصًّا دينيًّا، قائلًا: “يجبُ أن تتذكّروا ما فعله عماليقُ بكم، كما يقول لنا كتابُنا المقدّس. ونحن نتذكّر ذلك بالفعل، ونحن نقاتل بجنودنا الشجعان وفرقنا الذين يقاتلون الآن في غزّة وحولها وفي جميع المناطق الأخرى في إسرائيل.
إنّهم ينضمّون إلى سلسلة من الأبطال اليهود، التي بدأت قبل 3000 عام مع يشوع في لبنان، واستمرَّت من خلال أبطال عام 1948، وحرب الستة أيام، وحرب أكتوبر 73، وجميع الحروب الأخرى في هذا البلد. جنودُنا البواسل لديهم هدف أسمى واحد هو هزيمة العدو القاتل تمامًا، وضمان استمرار وجودنا في هذا البلد”. تستحقُّ هذه الإحالة الكتابية (biblical) المجملة إلى “عماليق” (Amalek) التوقّفُ؛ لأنّها تصلح مدخلًا لتفسير جانبٍ من السلوك الإسرائيلي الحربي الجاري في غزة حاليًّا، وتكشف عن أُسسه الدينية، وما سمّاه بعضهم: “قيم التوراة” في الحرب؛ بالرغم من الاستعلاء الإسرائيلي والصلف الذي يبديه المسؤولون الإسرائيليون حين يتعلّق الأمر بأخلاقيات الحرب، وانتهاكات إسرائيل القانونَ الدوليَّ الإنساني.
ترِد كلمة “عماليق” -في العهد القديم من “الكتاب المقدس”- بصيغ مختلفة، منها “عماليقي”، وتحيل إلى قومٍ من البدو الرحّل سكنوا شبه جزيرة سيناء وجنوبي أرض كنعان (فلسطين اليوم). ويبدو أنَّ هؤلاء القوم كانوا يخوضون حربًا مع بني إسرائيل، كما يتّضح من بعض فِقرات العهد القديم. وثَمّة قراءات مختلفة لحرب عماليق على بني إسرائيل، بعضها يرى أنّها كانت حربًا معادية للديانة اليهودية وضد يهوه نفسه، بينما يرى آخرون أن هجوم عماليق كان ضد اليهود شعب الله المختار، وأنها كانت حربًا ظالمة لسببَين:
الأول: أن هدفها كان تدمير الشعب اليهودي
والثاني: أن الوسائل المستخدمة في الحرب كانت غير أخلاقية.
ولكن مدلول “عماليق” -في التقليد اليهودي- بات أوسع من مجرّد الإحالة إلى واقعة محددة هي نفسها محل إشكال من الناحية التاريخية؛ فعماليق باتت ترمز إلى “الآخر”، وعماليق والقبيلة البدوية باتت تمثل – في الثقافة اليهودية -“ذِروة الشر الجسدي والروحي” بحسَب جيرالد كرومر (Gerald Cromer).
وربما يفسّر هذا الأمر سعةَ استخدام “عماليق” للتعبير عن الشعوب التي تُهدِّد الوجود اليهوديّ، سواء من قِبل حاخامات أمّ سياسيين، لعل آخرهم نتنياهو الذي افتتحْنا بكلامه هذا المقال. ويأتي هذا الاقتباس المجمل لعماليق من قبل نتنياهو؛ بهدفِ تنشيط الذاكرة الإسرائيلية اليهودية من جهة، ويعني أنّ عماليق حيّة في المعهود الديني والثقافي اليهودي من جهة أخرى. فلولا أنها حيّة في الذاكرة لما كان لهذه الإحالة – في خطاب يوجهه رئيس حكومة إلى شعبه وفي سياق حرب – أيُّ معنى. ومما يؤكد ذلك – أيضًا – أن “تَذَكّر عماليق” تحوّلَ إلى شعار لمنظمة صهيونيّة مهمتها البحث عن المقاومين الفلسطينيين؛ بدعوى “مراقبة القاتل” وتقديمه إلى المحاكمة.
وقد أثار “تَذَكُّر عماليق” -في كلام نتنياهو- الجدلَ بين بعض الغربيين على صفحات تويتر، ولكن ثَمة أسئلة عدة تجب إثارتها هنا من قبيل: هل المراد مجرّد التذكر؟ وأي فائدة من التذكر في سياق حرب يعلنها رئيس حكومة قد شكّل لتوّه حكومة حرب لا تزال تقصف غزة – بمدنييها – كل يوم منذ 7 أكتوبر 2023؟ تحقق هذه الإحالة -في الواقع- أغراضًا عدة دينية وسياسية؛ منها طمأنة الجمهور الإسرائيلي بوعود دينية وسياسية، وأنّهم سيسحقون عدوَّهم وسيستقرّون في أرضهم المزعومة. ومنها أن عماليق اليوم هم الفلسطينيون (وربما العرب جميعًا)، وخاصةً أن الهدف الأول المعلن للحرب على غزة هو سحق حماس الذي لن يتم إلا بتدمير غزة وأهلها وتهجير من سيبقى منهم؛ فنتنياهو يعطي بهذا غطاء دينيًّا وتسويغًا أخلاقيًّا لإبادة عماليق اليوم الذين يجسّدون “ذِروة الشر”، وهو ما لا يملّ الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيليّ والصهيونيّ عامةً من ترديده.
وإذا قرأنا الفِقرات التي تتحدث عن عماليق في العهد القديم فسنجد أنها لا تكتفي بالتذكّر فقط؛ إذ إن “عماليق” قد تحوّلت – كما سبق – إلى رمز للشرّ من جهة، وتتطلب عملًا قتاليًّا من بني إسرائيل من جهة أخرى. فمجرد التذكّر لا يتلاءم مع هذَين الأمرَين، كما أن مجرد التذكّر لا يجلب الطمأنينة التي بات يفتقدها الكثير من الإسرائيليين الذين يؤرّقهم مستقبل إسرائيل، ومن ثم جرى استدعاء “تذكّر عماليق” التي تعد ببقائهم واستقرارهم وسحق عدوهم.
فالتذكر هنا مصحوب بوعد بالتمكين وإفناء عماليق معًا. في سفر التثنية – مثلًا – نقرأ الآتي: “اذكر ما فعله بك عماليق في الطريق عند خروجك من مصر. كيف لاقاك في الطريق وقطع من مؤخَّرك كلّ المستضعفين وراءك، وأنت كليل ومتعب ولم يَخَف الله. فمتى أراحك الربُّ إلهُك من جميع أعدائك حولك في الأرض التي يعطيك الربّ إلهُك نصيبًا لكي تمتلكها، تمحو ذكر عماليق من تحت السماء. لا تنسَ” (25: 17-19). وفي سفر الخروج نقرأ الآتي: “فقال الربّ لموسى: اكتب هذا تَذكارًا في الكتاب وضَعْه في مسامع يشوع؛ فإني سوف أمحو ذكر عماليق من تحت السماء” (17: 14).
وفي سفر العدد نقرأ: “ثم رأى عماليق فنطق بمثله، وقال: عماليق أوّل الشعوب، وأما آخرته فإلى الهلاك” (24: 20). وفي سفر صموئيل الأوّل نقرأ: “فالآن اذهب واضرب عماليق وحرِّموا كلَّ ما له، ولا تَعْفُ عنهم؛ بل اقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحِمارًا” (15: 3). وفيه أيضًا نقرأ: ” وأرسلك الربّ في طريق وقال: اذهب وحرّم الخطاة عماليق وحاربهم حتى يَفنوا” (15: 18).
تتحدّث المقاطع السابقة – بوضوح – عن “محو” عماليق و”إهلاكهم” و”تحريمهم” أي إبادتهم، بل إن الفِقرة (3) من سفر صموئيل الأول تتحدث – صراحة – عن قتل الجميع من رجال ونساء وأطفال ورضّع وحيوانات، الأمر الذي نجد له نظائر أيضًا في سفر يشوع؛ إذ أمر يشوع – عند اقتحامه أرضَ كنعان مع بني إسرائيل – قائلًا: “حرِّموا كل ما في المدينة – من رجل وامرأة، من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير – بحدّ السيف” (6: 21).
وهذا يعني – مجددًا – إباحة الإبادة الجماعية التي تشمل الإنسان والحيوان. وكان بعض اليهود قد استشعر الإشكال الأخلاقيّ الذي تثيره آية سفر صموئيل الأول المبيحة لإبادة عماليق كليًّا، فحاول تسويغ ذلك بالقول: إن الإبادة يمكن تبريرها في حال مواجهة “مجموعة من العصابات التي لا تفهم معنى الإنسانية”، وعماليق كانوا يمثّلون الشر و”يورِّثونه” لأطفالهم الذين لو عاشوا لسلكوا مسلك آبائهم!. بل من اللافت هنا أنّ بعض الاعتذاريين قد ضرب المثل بداعش التي تقدم – من وجهة نظره – أبرز مثال على عماليق اليوم، والنتيجة أن إفناء عماليق – كما تفيده الفِقرة السابقة – كان “حربًا أخلاقية إنسانية”، وفي هذا السياق، يغدو، مفهومًا، سعْيُ إسرائيل الحثيث إلى تشبيه حماس بداعش منذ اليوم الأوّل من الحرب؛ لاستباحة كل شيء: البشر، والحجر، والحيوانات.
وإذا كان النقاش السابق يسعَى إلى إيجاد مسوغات تزيح وجهَ الإشكال عن نصّ الإبادة ليبدو مفهومًا من وجه النظر الأخلاقيّة اليوم، فإنّ الحاخام الصهيونيّ مانيس فريدمان (Manis Friedman) تحدّث عمّا سمّاه “قيم التوراة” أو “الطريقة اليهودية” في الحرب الأخلاقية؛ رافضًا ما سمّاه “الأخلاقيات الغربية” في الحرب. تقوم هذه الطريقة اليهودية على “تدمير الأماكن المقدسة للفلسطينيين، وقتل رجالهم ونسائهم وأطفالهم ومواشيهم”. فهذه الطريقة هي – بحسَب فريدمان – “الرادع الوحيد والحقيقي للتخلُّص من ثبات الفلسطينيين ومقاومتهم المستمرة”. فالعيش وَفق “قيم التوراة” سيجعل الإسرائيليين هم “النور” الذي سيشعّ على الأمم التي تعاني من الهزيمة؛ بسبب الأخلاقيات المدمّرة التي اخترعها الإنسان والتي تنهى عن قتل المدنيين والأطفال وتدعو إلى تجنّب قصف أماكن محدّدة كالأماكن المقدّسة وغيرها. ويرى أنّ أول رئيس وزراء إسرائيلي سيعلن أنه يتبع العهد القديم سيجلب السلام إلى المنطقة.
ويبدو أنَّ هذه الفكرة أو ما سُمي هنا “قيم التوراة” سكنت العديد من المسؤولين والسياسيين الإسرائيليين، فديفيد بن غوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأوّل قال: إنه “لا بد من وجود استمرارية من يشوع بن نون إلى جيش الدفاع الإسرائيلي”. ويشوع – كما سبق – مارسَ الإبادة بحسَب نصّ العهد القديم، ونتنياهو وضعَ الحرب على غزة في سياق تاريخي يمتدّ إلى 3000 سنة!.
بل إنه يزعم – في تصريح له في سياق الحرب الحالية على غزة – أنَّ الجيشَ الإسرائيلي “هو أكثر جيش أخلاقي في العالم”؛ فهو “يفعل كل ما في وسعه من أجل تجنّب إيذاء غير المتورّطين في الحرب”، واتهم “هؤلاء الذين يجرؤُون على اتهام جنودنا بارتكاب جرائم حرب” بأنهم “مشبّعون بالنفاق والأكاذيب، ولا يمتلكون ذرّة من الأخلاق”، وكان من اللافت أن برونو ريتايو – قُدم على أنه باحث ومجند إسرائيلي سابق – قد طالب بوقف إطلاق صواريخ تحذيرية لسكان غزة؛ لأنه لا يوجد “سكان” في غزة، وإنما نحو 2.5 مليون إرهابي بزعمه، وهو ما تكرّر على لسان أكثر من إسرائيلي بالصوت والصورة!.
والمتتبع لسلوك جلعاد أردان السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة سيجده متطابقًا مع تلك الصورة الأخلاقية التي يدّعيها الإسرائيليون لأنفسهم؛ لدوافع دينية وأخلاقية تمثّل في نظرهم “قيم التوراة” أو “الطريقة اليهودية”. فحين اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا طالبت فيه بـ”هدنة إنسانية فورية” في غزّة قال السفير: “إن الأمم المتحدة لم تعد تتمتّع ولو بذرّة واحدة من الشرعية أو الأهمية”، وإن مكان هذا النص “في مزبلة التاريخ”، معتبرًا أن إسرائيل تقوم بمهمة أخلاقية في “الدفاع عن نفسها” و”تخليص العالم من شرّ حماس”.
وكان أردان نفسه قد مزَّق في 2021 تقرير مجلس حقوق الإنسان الذي أدان إسرائيل بارتكاب انتهاكات ضد الفلسطينيين، وخاصةً في قطاع غزة. وقد اتهم أردان – حينها – مجلس حقوق الإنسان بأنَّ لديه “هوسًا بإسرائيلَ” دفعه إلى أن يوجّه اللوم والإدانة إليها 95 مرةً في قراراته، ولذلك فـ “المكان الوحيد الذي يستحقّه هذا التقريرُ هو سلّة المهملات”. لنتأمل أننا هنا أمام شخصيّة “دبلوماسيّة” تتعامل بمثل هذا الصلف ولا تقبل بأن تُساءَل وَفق أي معيار؛ لأن لديها اليقينَ التامَّ بأن فعلها هو الذي يحدّد المعايير الأخلاقية لا العكس.
تقدّم إسرائيل إذن- سواء من خلال خطابَيها الديني والسياسي، أم من خلال ممارساتها الفعلية في الحرب على غزة- نموذجًا فجًّا للتوحّش الذي يدّعي – في السياق اليهودي – استعادة “قيم التوراة”، ويزعم – في السياق الدولي – أنه لا يخالف القانون الدولي الإنساني. ورغم أن الأحكام والتقويمات الأخلاقية بحاجة – دومًا – إلى تعليل وتسويغ، وأن سلوك الدول والأفراد هو محلّ للمساءلة النقدية والتقويمية؛ فإنَّ السمة الأساسيّة للخطاب الإسرائيلي هي أنه هو نفسه المعيار، ولا يخضع لأي معيار، بل يُقدم نفسَه على أنَّ أخلاقيته من الوضوح بحيث لا تقبل النقاش (self-evident). وقد تجاوزت حصيلة شهداء القصف الإسرائيلي على غزة حتَّى كتابة هذه السطور 9 آلاف، وتجاوز عدد الأطفال منهم 3 آلاف حتى اعتبرت اليونيسيف غزة “مقبرة للأطفال”، واقترب عدد النساء من ألفين، فضلًا عن قصف المستشفيات والمرافق الصحيّة التي بلغت نحو 100، الأمر الذي دفع بعض الجهات الدولية إلى الحديث عن “إبادة جماعية” تقوم بها إسرائيل في غزَّة، والله المستعان.
نقلاً عن الجزيرة نت