غسان عبدالخالق
كاتب أردني
لا نبالغ إذا قلنا إنّ (إخوان الصفاء) هم الجماعة الوحيدة في الثقافة العربية، التي تنافس جماعة (فرسان الهيكل) في الثقافة الغربية، من حيث الغموض في الأفكار والأدوار.
علماً بأنّ جماعة فرسان الهيكل قد استأثرت في القرنين السالفين، بما لا يعد ولا يحصى من المقاربات التاريخية والأدبية والسينمائية التي لم تزدها إلا أسطرة.
يعود الفضل في إماطة اللثام عن رسائل إخوان الصفاء وعن أسماء بعض منظِّريهم، إلى أبي حيان التوحيدي (ت414هـ) الذي لم يدخر وسعاً للتعريف بهم في كتابه العتيد (الإمتاع والمؤانسة)، بناء على طلب الوزير ابن سعدان (ت375هـ). وعن أبي حيان التوحيدي نقل القفطي (ت646هـ) ترجمته لهم في كتابه الذائع (أخبار الحكماء).
إذا عدنا إلى كتاب أبي حيان التوحيدي، يمكننا التخمين بأنّ الرسائل كتبت في منتصف القرن الرابع الهجري (350هـ)، وشارك في كتابتها عدد من أعضاء الجماعة. لكن أبا سليمان المقدسي – على الأرجح- هو من تولّى تنسيقها وصياغتها وتحريرها ونشرها بين الناس، بدليل أنّه انخرط في مناظرة حامية الوطيس دفاعاً عنها مع بعض المشتغلين في الفلسفة بسوق الورّاقين في بغداد؛ أي إنّ الرسائل كانت قد أصبحت قيد التداول، كما أنّ المقدسي كان قد نصّب نفسه ناطقاً إعلامياً باسم الجماعة.
وإذا كانت الرسائل – وعددها (52) رسالة- تؤكد على نحو لا يحتمل الشك، أنّ الجماعة شيعية إسماعيلية، فإنّها على صعيد منطوقها الظاهر تفصح عما يلي:
أولاً: إعادة الاعتبار إلى التربية الأخلاقية بوجه عام.
ثانياً: الإعلاء من قيمة الصّحبة والصداقة.
ثالثاً: العمل على التقريب بين الدين والفلسفة.
لكن التعمّق في مضمرها الباطن يكشف ما يلي:
أولاً: توظيف النزعة الأخلاقية لغاية أيديولوجية تتمثل في الدعوة إلى المذهب الإسماعيلي.
ثانياً: توظيف التفسير الديني لنقض مقولة عودة المهدي المنتظر التي ينادي بها خصومهم الألدّاء من أتباع المذهب الإمامي الاثني عشري، وللتقرّب من أتباع المذاهب السنية.
ثالثاً: توظيف ضرورة وصل الشريعة الإسلامية بالفلسفة اليونانية، لفتح باب الجدل في ثوابت العقيدة.
ومع أنّ مجال الاستنباط على هذا الصعيد، يمكن أن يتسع لإبداء المزيد من الاستنتاجات، إلا أنّ خلاصة القول تتلخص في أنّ الرسائل تمثل تكتيكاً فكرياً خالصاً لتحقيق غاية استراتيجية سياسية، طالما حلم دعاة المذهب الإسماعيلي بإنجازها.
ولعل أطرف ما يمكن التنويه به بخصوص الردّ على رسائل إخوان الصفاء، يتمثل في أنّ من تصدّى لنقض أطروحاتهم شكلاً ومضموناً، هو أبو سليمان السجستاني شيخ مدرسة بغداد الفلسفية، التي تجمع بين الأفلاطونية المحدثة على الصعيد الأخلاقي والأرسطية الصارمة على الصعيد المنطفي؛ فأكّد من حيث الشكل قصور الرسائل عن بلوغ مرتبة التفلسف الحقيقي لأن مُنشئيها أكثروا الحزّ وأخطأوا المفصل. كما أكّد من حيث المضمون استحالة وصل الدين بالفلسفة؛ لأن الدين نقلي ومرجعه الوحيد هو الله فيما أنّ الفلسفة عقلية ومرجعها الوحيد هو الواقع، فضلاً عن أنّ النبي مستغنٍ عن الفيلسوف دائماً فيما أنّ الفيلسوف لا يستغني عن النبي أحياناً. ولست بحاجة لتذكير القارئ بأنّ أبا سليمان الفيلسوف والمنطقي العتيد، قد وفّر على الفقهاء مؤونة الردّ على أطروحة إخوان الصفاء، مع أنّ كونه فيلسوفاً ومنطقياً بارعاً، يرشّحه للتعاطف مع هذه الدعوة البريئة ظاهراً لتجسير الشقّة بين الدين والفلسفة، بحيث يفيد الدين من أدوات الفلسفة العقلانية، وتفيد الفلسفة من يقينيات الدين الروحية، لكنه بمثاليته الأفلاطونية ومنطقيته الأرسطية، أدرك أنّ الهدف الحقيقي لهذه المناورة يتمثل في استهداف الشريعة الإسلامية عبر الشروع في مراجعة ثوابتها، بدعوى رفدها وتصليبها بالفلسفة، فهي إذن كلمة حق يراد بها باطل!
لقد استرعى الإلحاح على البنية التنظيمية المحكمة للجماعة، انتباه السجستاني وزاده اقتناعاً بوجهتها الأيديولوجية السياسية، على نحو يذكّرنا بالعديد من الجماعات الدينية المعاصرة، الإسلامية وغير الإسلامية، والتي اقتحمت عالم السياسة من بوابة الأخلاق، حتى إذا تكاثرت أعداد المخدوعين بأدبياتها التهذيبية، كشفت عن أهدافها الحقيقية التي لا تتجاوز: الحصول على السلطة واحتكارها، والتدخل في كل صغيرة وكبيرة من حياة الناس، وقسرهم شكلاً ومضموناً على التصرّف والاعتقاد، وفقاً لكتالوغ سياسي واجتماعي حامد وغير قابل للنقاش.
ورغم أنّ جماعة إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء، لم تدّخر وسعاً لتأكيد مشروعيتها التاريخية، من خلال الزعم بأنها وُجدت منذ عهد الرسول، صلى الله عليه وسلّم، لكن الظروف السياسية اضطرت أعضاءها للتخفّي بعد ذلك، إلا أنّ ادعاءَاتها الساذجة لم تنطل على أحد، وحتى السواد الأعظم من الشّيعة، فاندثرت دعوتهم وتوارت رسائلهم التي قيّض لها حديثاً أن تُنشر وتُحقّق.
على أنّ ما تقدم، لا يلغي حقيقة الجدل المحتدم الذي قام لاحقاً بين التيار السنّي الأشعري الصوفي ممثلاً بالغزالي (ت505هـ) الذي صكّ (تهافت الفلاسفة) والتيار السنّي الأشعري المتفلسف ممثلاً بابن رشد (ت595هـ) الذي صكّ (تهافت التهافت) ثم أتبعه بـ(فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) ممهداً الطريق لابن خلدون (ت808هـ) الذي أكّد في (مقدّمته) انتفاء الحاجة للفلسفة وعلم الكلام في ضوء انتشار الإسلام واستتباب رقعته الجغرافية التي باتت تتطلّب التعمق في علم العِمْران أو علم الاجتماع، بوصفه البديل المعرفي الواقعي للميتافيزيقا كلّها.
نقلاً عن حفريات