طارق أبو السعد
كاتب مصري
اتفق المسلمون، علماؤهم وعوامّهم، أنّ التجسس وتحسس الأخبار ومحاولة الوصول للأسرار وكشف عورات الناس وهتك المستور من الرذائل والآثام، ويحرص الدعاة أن يحذروا المسلمين من الوقوع في تلك الخطايا، وقبل كل شيء يحذرون أنفسهم وأهليهم من الوقوع فيما نهون الناس عنه، وأن يتعففوا عن السقوط في البذاءات التي يستخدمها غيرهم.
حسن البنا كان يرى نفسه داعية إسلامياً، بل داعية كبيراً وزعيماً يقوم بدور الوعظ والإرشاد للناس جميعاً، ويدعوهم للانضمام الى جماعته؛ لأنّها في عرفه هي الوحيدة التي ستسير بهم إلى طريق الجنة، وفي خطبه ومقالاته لطالما حث الناس على حسن الخلق، ونهى عن الكذب والتجسس والغيبة والسخرية من الآخرين، وكان من المفترض أن يكون نموذجاً لما يأمر الناس به.
بالبحث في سيرة الجماعة ومؤسسها نكتشف أنّ البنا كثيراً ما سقط في إثم التجسس، مع قدرة عجيبة على تبرير تلك الفعلة المحرمة شرعاً والمنبوذة مجتمعياً، حسن البنا الداعية تجسس بالفعل على أتباعه، وتجسس على الأحزاب المختلفة، وتجسس على بعض رموز الدولة مثل الملك، وتجسس حتى على حلفائه ومناصريه من أصحاب الفكرة الإسلامية.
ففي الإسماعيلية وبعدما اشتدت الخلافات بينه وبين الكثير من أهلها وبعض من أعضاء جماعته، قرر الانتقال إلى القاهرة، وظهرت معضلة من يخلفه في قيادة الجماعة والجمعية في الإسماعيلية، وكانت الآراء كلها تسير نحو شيخ أزهري ذي علم ودين شهد له الجميع بحسن أدبه وعلمه، لكن حسن البنا لم يكن يرغب في شيخ يزاحمه الثقافة الدينية بعلم أعلم منه، أو يتمتع بوجاهة اجتماعية أرقى منه، بل يريد رجلاً يسمع له ويطيع، فاختار رجلاً طيب وخلوقاً لكنه كان ضعيف العلم.
واشتدت معارضة بعض أعضاء الإخوان لحسن البنا، وكان من رأي هؤلاء الأعضاء أنّ الأمر شورى، وأنّهم وحدهم من يختار من يرأسهم، وهم قد اختاروا الأعلم، شعر حسن البنا بالخطر لو أنهم فرضوا عليه الشيخ العالم، فقرر أن يتلصص عليهم ليعلم ماذا يقولون وماذا يدبرون، ولنقرأ ما كتبه حسن البنا بنفسه عن هذه اللحظة في مذكرات “الدعوة والداعية”، يقول: “قد أرِقت ليلة فخرجت لصلاة الفجر بالمسجد العباسي قبل الوقت بنحو ساعة أو أكثر، ومررت في الطريق على بيت أحدهم فإذا هو مضاء ونوافذه مفتحة وهناك أصوات في نقاش استرعت انتباهي، فإذا الشيخ جالس وهم حوله، وهو يرسم لهم طرائق الكيد والخصام”.
قد نصدق أنه قد أَرِق وأن الوقت كان قبيل الفجر بساعة وأن الطريق يمر ببيت أحدهم، لكن من الصعب أن نصدق أنّ النوافذ كانت مفتوحة وأنه تمكن من سماع الحوار كاملاً بل ومشاهدة الجالسين بالترتيب الذي وصفه دون أن يراه أحد! إلا إذا كان يتخفى ويتجسس عليهم عمداً، العجيب أنّ أتباع حسن البنا يرددون هذه الحكاية بكل فخر دون أن يهتز لهم جفن بأنّ مرشدهم كان يتجسس على أتباعه ولا يخجل من أن يعترف بذلك.
قد تكون تلك الحكاية ملتبسة على البعض، فيبرر التجسس أنه لم يكن مقصوداً في ذاته، لكن إذا ضممنا تلك الواقعة الى ما أورده محمود عساف رئيس قسم المعلومات الذي انشأه حسن البنا (أو المخابرات الإخوانية كما يحلو للبعض وصفها) في كتابه “مع الإمام الشهيد حسن البنا” صفحة 18، نرى أنّ البنا كان يستخدم جواسيس في أكثر الأماكن حساسية، وأنّه اكتشف ذلك عندما رفع أحد البحارة العاملين على يخت الملك فاروق تقريراً لحسن البنا كتب فيه تقاصيل رحلة الملك، بداية أسماء الموجودين على ظهر اليخت، وأين ذهبوا ومع من تقابلوا، كما تضمن التقرير وصفاً لاجواء المرح التي وصفها عساف بأنها مَساخر، مما يعني أن التجسس لم يكن فعلاً عارضاً بل سلوك متجذر في حسن البنا.
لم يقف نشاط التجسس عند حسن البنا على أبتاعه أو الملك، بل وصل إلى الحزب الشيوعي؛ يقول عساف أيضاً: “عندما اشتدت الشيوعية في مصر، دَفَعنا هذا إلى زرع أحد الإخوان المتعاطفين (وهو الآن أستاذ جامعي) وكان يتقاضى خمسة جنيهات شهرياً مقابل إمداد الإخوان بأخبار الشيوعيين وذلك عام 1946، هذه الأخبار منها ما كان يعرض في مجلة الكشكول الإخوانية، ومنها ما كان يعرض على حسن البنا ليأخذ بها علماً، ومنها ما كانوا يخطرون به مدير الأمن العام وكيل الداخلية المرحوم أحمد مرتضى المراغي”.
الأمر لا يحتاج إلى تفسير أكثر من هذا عن الجهة التي كانوا يتجسسون لصالحها، ولا يزعم أحد أنّ هذا كان عملاً وطنياً، ولا يدّعي أحد أنّ الإبلاغ عن الشيوعيين كان من أجل معتقداتهم، بل كان من أجل معارضتهم للحكومة وقتها.
ومن المتواتر عند الإخوان حكايات الحاج فرج النجار الذي زرعه حسن البنا في الحزب الشيوعي إلى أن وصل الى منصب مهم في فرع الحزب بالغربية، وأنّه كان ينقل لهم أخبار الحزب، وقراراته ومواقفه السياسية من الحكومة ومواعيد المظاهرات، كما يتحدث الإخوان عن حكايات فرج النجار كأنها أساطير وكيف تملص من دعوة رفقاء الحزب له لشرب الخمر ومخالطة النساء، وكيف أبطل مؤامرتهم في إفشال مؤتمر الإخوان في الغربية، وكيف غرّر بشباب الحزب الشيوعي لينالوا “علقة” ساخنة على أيدي شباب الإخوان.
قد يكون من المتوقع أن يبرر الإخوان لأنفسهم اقتراف مرشدهم خطيئة التجسس المنهي عنها في كتاب الله، تحت الزعم أنّه كان يتجسس على الشيوعيين “الكَفَرة”، وعلى الملك الفاسد، لكن ما حجتهم وهم يتجسسون على رمز إسلامي ومناضل كان يناصرهم هو أحمد حسين، فما قولهم وهم يتجسسون ويزرعون رجلهم في جمعية كانت تشاركهم الفكر الإسلامي هي جمعية مصر الفتاة!
في نفس كتاب محمود عساف يذكر ذلك تفصيلياً، فيقول “كان أحمد حسين رئيس جمعية مصر الفتاة رجلاً وطنياً ينفجر حماساً وحبّاً لمصر، ولهذا كان تأثيره بالغاً على أتباعه”، العجيب أنّ هذه الوطنية والالتزام الديني لم تشفع عند حسن البنا، فطلب من أمين جهاز المخابرات الإخواني أن يتجسس عليه، يبرر عساف هذا بقوله: “نُفاجأ في يوم من الأيام بمقال في مجلة مصر الفتاة يقول فيها محرره، حانت خاتمة الدجل والشعوذة، الإخوان يتعاونون مع كل الأحزاب بلا مبدأ ويتحالفون مع الكل حتى الإنجليز الذين يسخرونهم لمحاربة الشيوعية والوطنية، ويفتحون لهم الشُعب في السودان وفلسطين وغيرها”.
ثم يبرر عساف تجسسهم على أحمد حسين بأنّها ضرورة؛ فالإخوان يجب أن يتعرفوا على ما يدور في أدمغة قادة مصر الفتاة، فقرروا زرع أحدهم في صفوفه العام 1945 فيقول “فكلفنا أحد الإخوان بالانخراط في الجمعية وهو المرحوم أسعد السيد أحمد الذي انضم إليهم وبرز فيهم سريعاً لنشاطه الملحوظ”، وعندما اكتُشف أمره في العام 1948 علم أعضاء مصر الفتاة واعتدوا عليه بالضرب.
من الواضح أنّ علاقة حسن البنا بالسلطة وبرجال الأمن كانت قوية لدرجة أنّ عساف يقول إنّ حسن البنا كان يكتشف الجواسيس الذين يرسلهم الملك أو الذين يعملون في القلم السياسي إلى دار الإخوان فقد كانت له مصادره الخاصة! وهذا اعتراف آخر له ما بعده فمصادر البنا لم يكن يعرفها رجل المعلومات الأول في الجماعة.
المثير أنّ حسن البنا استخدم سياسة توظيف الجواسيس، في نقل ما يريد إلى القلم السياسي مقابل مال يدفعه الإخوان لهم، وهذه الأخبار كان يكتبها ويقدمها محمود عساف مرتين في الأسبوع للجواسيس المكتشفين تتضمن أخباراً عامة ودون الدخول في التفاصيل التي كان يبحث عنها القلم السياسي وقتها.
إنّ تاريخ مؤسس الإخوان المسلمين يجب أن يُدرس بدقة لفهم العوامل المجتمعية والسياسية التي جعلته يتبنى خيارات متناقضة مع بعضها البعض ومتضادة مع أصل دعوته، مما شكل ارتباكاً كبيراً في رصد حالة هذه الحركة.
نقلاً عن حفريات