منتصر حمادة
كاتب مغربي
لا يبدو أن أحداث “طوفان الأقصى” سوف تمرّ على الساحة النظرية داخل وخارج المنطقة العربية، دون أن تكون لها تبعات نظرية عنوانها الانخراط في مراجعات بخصوص عدة مفاهيم وقضايا وملفات.
لا نتحدث هنا عن خطاب يمكن تصنيفه في خانة الردة الفكرية، والذي يذهب إلى الحديث عن “أفول الغرب” و”أفول الحداثة” دون أدنى تدقيق في هذه المفاهيم، مع أن بعض مروجي هذا الخطاب النظري الاختزالي، كانوا بالأمس القريب يتحدثون عن “أسلمة الحداثة” في سياق الاشتغال على “أسلمة المعرفة”، فهذا موضوع خارج دائرة الاشتغال في هذه المقالة.
ما يهمنا هنا أكثر وقفة أولية حول القراءات الجديدة التي من المفترض أن نعاينها في المشتغلين على قضايا “التطرف العنيف” على الخصوص، أو ما كان يُصطلح عليه سابقاً بـ”الإرهاب باسم الدين”، خاصة بعد أحداث نيويورك وواشنطن، قبل صدور قرار أممي ابتداءً من 2016 يروم الابتعاد عن اللبس الذي يُثيره الخوض في موضوع الإرهاب وربطه بالدين، في ما يُشبه تفعيل قاعدة “الإرهاب لا مِلّة له”، ومن هنا الاتفاق على استعمال مصطلح أو وصف “التطرف العنيف”، أياً كانت مرجعية هذا التطرف؛ دينية أو غير دينية.
في الحالة الإسلامية؛ أي التي تهم محور طنجة جاكارتا، غالباً ما كان الحديث عن ظاهرة “التطرف العنيف” يُقصد به ما يصدر عن الإسلاموية الجهادية بالتحديد، وهي فرع من فروع الإسلاموية، بما يقتضي التذكير بأهم هذه التفرعات:
ــ الأول يهمّ حركات إسلامية دعوية، غير معنية بالعمل السياسي المباشر، بما في ذلك العمل الانتخابي، ولا بالأحرى العمل القتالي أو المسمى إسلاموياً بالعمل الجهادي، ويمكن أن نذكر من بين الأمثلة في هذا الصدد، جماعات “الدعوة والتبليغ” أو التيارات السلفية في نسختها العلمية عند البعض أو التقليدية عند البعض الآخر، من قبيل سلفية الإسكندرية، على الأقل قبل أحداث 2011، الذي جعلت نسبة منها تتحول أو تتجه نحو العمل السياسي والحزبي.
ــ أما الثاني، فيهم الحركات الإسلامية المعنية بالعمل السياسي والحزبي، وفي مقدمتها الحركات والأحزاب الإخوانية، وبدرجة أقل “حزب التحرير” وإن كان هذا الأخير أقلية تنظيمية في المشهد الإسلامي الحركي بشكل عام، لكن يبقى المشروع الإخواني أهمّ نموذج في هذا الاتجاه، بدليل حضوره في المشهد السياسي الحزبي منذ عقود في العديد من الدول العربية.
ــ بخصوص النموذج الثالث، فواضح أنه يهم الحركات الإسلامية القتالية أو الجهادية؛ أي الحركات التي تنهل من أدبيات عمر عبد الحكيم ومحمد المقدسي وأبو قتادة وأبو بكر ناجي واللائحة تطول، ولعلّ الثنائي تنظيم “القاعدة” وتنظيم “داعش”، يوجد في مقدمة هذا النموذج الثالث.
نقول هذا بصرف النظر عن وجود قواسم مشتركة وإن كانت نسبية بين هذا الاتجاه وآخر، كأن نجد حركة إسلامية دعوية في مرحلة الكمون، لكن خطابها يتحول إلى العمل السياسي والحزبي بشكل أو بآخر في مرحلة الاستحقاقات الانتخابية، من قبيل معاً نعاين مع الثنائي حركة “التوحيد والإصلاح” وحزب “العدالة والتنمية” في المغرب، أو حركة وحزب “النهضة” في تونس، ضمن نماذج أخرى، بما يُفسر مثلاً، انخراط هذه النماذج، ومنها النموذج الإخواني الفرنسي، في الترويج لأطروحة فصل السياسة عن الدعوة خلال السنوات الماضية، وتحديداً من سنة 2017.
لكن الشاهد هنا إجمالاً، أنّه ثمة فوارق جلية بين الحركات الإسلامية الدعوية والسياسة والقتالية: لا يمكن لتنظيم “القاعدة” أن يزعم المشاركة في العمل السياسي والانتخابي، ولا يمكن لجماعة “الدعوة والتبليغ” الإعلان عن الانخراط في اعتداءات ضد مصالح حكومية، داخل وخارج محور طنجة جاكارتا، وهذا ما جرى به العمل مع أغلب التنظيمات المحسوبة على التنصيف الثلاثي أعلاه.
ما كشفت عنه مآسي غزة، في شقها القتالي بالتحديد، والخاص بدول المنطقة، أن المقاومة تنتمي إلى مرجعية إسلامية حركية، مُجسدة في كتائب عز الدين القسام، وهي الجناح العسكري لحركة حماس الإسلامية، وهذا معطى يكرس قاعدة الاستثناء التي كانت تميز الحركة في مرحلة سابقة بخصوص الاتجاه الذي يمكن أن تُصنف فيه، والمقصود بالاستثناء أنها من الحركات الإسلامية النادرة التي تجمع بين أداء الفروع الثلاثة: العمل الدعوي والعمل السياسي والعمل القتالي.
الشاهد هنا أن الخوض المستقبلي في قضايا التطرف العنيف، سواء في المنطقة العربية أو في مجالات جغرافية مغايرة، من قبيل المجال الأوروبي، سوف يفرض على المعني بها الخوض استحضار المستجدات المرتبطة بأحداث غزة بخصوص عدة محددات، منها على الخصوص محدد الازدواجية الغربية في التعامل مع القضايا العربية المصيرية، والنموذج هنا مع أحداث غزة، إلى درجة أنه يصعب معها حصر الأمثلة، أقلها الازدواجية الأوروبية مثلاً في التعامل مع قصف منشآت مدنية، في كل من أوكرانيا وغزة: القصف الروسي مدان بخلاف التعامل مع القصف الإسرائيلي، ضمن أمثلة أخرى.
صحيح أن القضية الفلسطينية تبقى حالة خاصة في المشهد الإسلامي الحركي، بدليل وجود حالة خاصة منها تجمع بين الفروع الثلاث سالفة الذكر، لكنه في المقابل، لا يمكن فصل تداعيات الأحداث في فلسطين عن مواقف باقي الحركات الإسلامية المصنفة في خانة “التطرف العنيف”، وليس هذا حسب، لأن هذا المعطى كان قائماً حتى قبل اندلاع أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فالأحرى ما سوف نعاين لاحقاً.
في خاتمة كتاب صدر لنا منذ عقد ونيف، كان مُخصصاً للاشتغال على الإسلاموية الجهادية، تحت عنوان “نحن وتنظيم القاعدة”، أحلنا حينها على عدة خلاصات استشرافية بخصوص مواجهة الظاهرة، بما في ذلك استشراف مجموعة من الأسباب التي سوف تساهم في تغذية الخطاب الإسلاموي الجهادي حتى لو انخرطت مجمل دول المنطقة العربية في مشاريع تجديد الخطاب الديني والتنوير وتفعيل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ضمن أسباب أخرى، وهي المحددات الأكثر تداولاً عند أغلب الباحثين كلما تعلق الأمر بالخوض في أسباب الإسلاموية، بما فيها الإسلاموية الجهادية.
من بين الأسباب التي أحلنا عليها، معضلة التعامل الغربي الأوروبي والأمريكي على الخصوص ــ مع مجموعة من القضايا العربية المصيرية، وفي مقدمتها اليوم القضية الفلسطينية.
صدر الكتاب في سنة 2008، أي حوالي ست سنوات قبل الغزو الأمريكي للعراق، بتواطؤ مع المحور الإيراني، ويعلم الجميع اليوم، دور هذه العوامل المركبة (سياسياً وطائفياً) في تغذية وانتشار خطاب ومشروع تنظيم “داعش”، داخل وخارج المنطقة، بحيث لا يمكن الحدث عن أسباب الظاهرة أبو مصعب الزرقاوي دون استحضار نتائج الغزو الأمريكي للعراق ودور المحدد الإيراني.
هذا عن قضية عربية واحدة وحسب، فالأحرى مع قضايا أخرى، ولا شك أن ما يجري في فلسطين يُعتبر أحد الأسباب المغذية لديمومة الإسلاموية الجهادية، موازاة مع تغذية الأحداث نفسها لمراجعات نظرية.
نقلا عن حفريات