إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
كانت الحياة وراء أسوار المدينة تقوم على أساس مشترك راسخ رسوخ العلم ذاته؛ إذ إنّ المدينة لم تكن إلا موطن إله قوي قادر، ولولا القوى المقدّسة التي كان يحتويها القصر وحرم المعبد، لكانت المدينة القديمة بلا هدف ولا معنى، ذلك أنّه ما إن أقام الملك دعائم هذه القوى واتسع نطاق الاتصالات وتوحدت آداب السلوك بحكم القانون حتى ازدهرت الحياة في المدينة على نحو لم يكن هناك أمل في إدراكه في أيّ مكان آخر، وما بدأ في شكل سيطرة انتهى إلى إخاء وتفاهم على أساس من التعقل والروية.
وبدون ما كان للمدينة من قوى دينية فإنّ السور وحده ما كان ليتسنى له النجاح في تكوين خلق أهل المدينة وكذلك في السيطرة على وجوه نشاطهم، ولولا الدين وما صاحبه من الطقوس الاجتماعية والمزايا الاقتصادية؛ لكان السور قد حول المدينة إلى سجن لا مطمع لنزلائه إلا القضاء على حراسهم والنجاة بأنفسهم.
أفضى نمو الوعي في المدينة إلى ظهور بداية السلوك الأدبي الناجم عن التدبر والروية، ومع ازدياد انشغال المجتمع بسبب اتساع آفاق التجارة والصناعة باطراد أصبح الدور الذي كانت المدينة تقوم به بوصفها موئل القانون والعدل والحق والمساواة مكملاً للدور الذي تؤديه بوصفها مظهراً دينيّاً يمثل الكون، ومن ثم أصبح يتحتم على من يريد التظلم من عادة لا يبررها العقل، أو من عدوان لا يقرّه القانون، أن يلجأ إلى ساحة القضاء في المدينة، ومع ازدياد الشعور بخيبة الأمل في الداخل ازداد الاتجاه نحو مضاعفة أعمال العدوان في الخارج، فإنّ شعور الاستياء من الحاكم الجائر كان يمكن الإفادة منه بتوجيهه ضد العدو الخارجي.
يقول روسو: “المنازل تؤلف بلدة، لكنّ المواطنين يؤلفون المدينة”، وفي ذلك فإننا نحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت مضى لنراجع طويلاً علاقتنا بالمدن التي نعيش فيها لأسباب كثيرة؛ منها التحديات والتحولات الكبرى المؤثرة في علاقة المواطنين بالموارد والأمكنة وتنظيمها وإدارتها، مثل ارتفاع نسبة التحضر التي تزيد في الأردن ومثله دول أخرى على 90% من السكان؛ والتحولات الكبرى في الشبكية والنقل والاتصالات التي تغير شكل المدن وتصميمها ودورها، لكن في جميع الأحوال فإننا لا نستغني عن تنظيم علاقاتنا بالمدن وأماكن الإقامة على النحو الجوهري الذي تشكلت حوله المدن بغض النظر عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وهكذا فإنّ التحدي كيف نحافظ على مدننا وأماكن إقامتنا ملاذاً اجتماعيّاً وروحيّاً، وكيف تظلّ المدن ديمقراطية تشاركية، بمعنى أن يشارك الناس جميعاً في الولاية عليها وفي إدارتها وتنظيمها، وبطبيعة الحال كيف تكون خدماتها ومرافقها مفيدة لجميع الناس وعلى أفضل مستوى من العدالة والمساواة والكفاءة؟
إنّ تحول الأغلبية الكبرى من السكان إلى أهل مدن يعني مجموعة من الحقائق والتحديات، وهي كيف يجب أن تتحول الثقافة والسلوك والعلاقات لتلائم المدن في طبيعتها وتنظيمها وروحها؟ وكيف تعوض المدن ما تخسره أيضاً من موارد وأعمال وسلع وخدمات كانت تؤديها القرى؟ أو كيف يعاد تنظيم إنتاج وتوزيع السلع والخدمات التي كان يؤديها الريف؟ وكيف تستوعب المدن الأعداد الهائلة من القادمين إليها من الريف؟ وكيف يعاد تخطيط المدن اجتماعيّاً وتنظيميّاً وعمرانيّاً لتستوعب الوظائف والتحولات الجديدة؟ وما الأدوار الجديدة للمدن، وما الأدوار المستغنى عنها؟
لقد بدأت المدن وظلت على مدى آلاف الأعوام مركزاً لمجموعة من البلدات والقرى المحيطة ووحدات الجوار أو الأحياء السكنية، يمثل مكاناً للقاءات الجماعية والموسمية وتسويق وتخزين وتبادل المنتوجات والسلع، وإدارة وتنظيم وحماية السكان والموارد والأملاك. لكنّ الأماكن اليوم كلها صارت مدينة، كأنّ البلد كله مدينة واحدة، بل كأنّ العالم كله مدينة واحدة، وفي ذلك تغيرت علاقة الناس بالأماكن والمرافق، وتغير أيضاً أسلوب الحياة والعمل، وتغيرت اتجاهات النقل والتحرك للناس باتجاه أعمالهم ومصالحهم وإقامتهم، وتتغير بطبيعة الحال العلاقات الاجتماعية والأدوار والعمليات التنظيمية المتعلقة بحياة الناس وأعمالهم وأسواقهم وخدماتهم.
اليوم، ونحن نتأمل في موجات التدين والتطرف والعنف والجريمة والانتحار والحوادث والضغوط النفسية والاجتماعية، أو ضعف وتراجع المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية والماء والكهرباء والاتصالات، وعجزها عن استيعاب المواطنين والمقيمين وخدمتهم، والضغوط التي تتعرض لها الطرق والأرصفة والمباني والساحات والحدائق والأسواق، والسلوك الاحتكاري للشركات والبنوك، والضعف والرداءة في الخدمات التي تقدمها الأسواق، والتيه والإذعان في علاقة المواطنين بموردي السلع والخدمات والتحالف الفظيع بين السلطة والتجارة، وتسليع الأرض والمعرفة والتعليم والصحة والثقافة والفنون والرياضة على نحو يحرم منها معظم المواطنين أو يصنفهم في طبقات اجتماعية واقتصادية معزولة تتنامى بينها الفوارق والكراهية؛ فإنّ مبتدأ الحلول هو العودة إلى المدينة بما هي ابتداء الساحة/ الجورة (agora) أو زارا التي يلتقي فيها الناس للتقاضي والبيع والشراء والصلاة والمتعة والترفيه والتعارف والتزاوج والتبادل والتعاون والتنافس واللعب والرياضة والشعر والموسيقى والفنون والتشاور… والإبداع.
هناك الكثيرون ممّن يؤيدون التطرف ينطلقون من أسس غير موضوعية أو غير متصلة مباشرة بالتدين والفهم المتطرف للدين، مثل البحث عن المعنى والجدوى والشعور بالخواء والندم، والشعور بالتهميش الاقتصادي والاجتماعي بالنسبة إلى أفراد أو فئات اجتماعية أو مهنية أو اقتصادية، أو الشعور بعدم العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
لقد شكّلت دعوات العنف والتعصب والشعور بالتميز الديني أو العرقي أو الاشمئزاز والكراهية تجاه الآخر، أو المختلف دينياً أو عرقياً أو ثقافياً، مورداً أساسياً ومهماً لصعود القادة والجماعات. وفي ذلك، فإنّ الإصلاح يواجه مأزق وجودي محرج، ففي سهولة الغوغائية والدعوة إلى تمجيد الذات القومية أو الإثنية أو الدينية أو الدعوة إلى الكراهية والتحريض ضد الآخر، تكون المنافسة السياسية أو الانتخابية تعمل لصالح العنف والتطرف!
نقلاً عن حفريات