أدونيس غزالة
كاتبة سورية
لا يمكن أن يُتّخذ قرار، إلّا إذا كان هناك من يستشرف خياراً متاحاً بين العديد من الاحتمالات الممكنة، يقرر على ضوئه ما يريد وما يفعل، لذلك يمكن أن نقرأ بيسرٍ خلف اتخاذ القرار الإرادةَ التي ينطوي عليها هذا الفعل، ولكن كي تتعيّن الإرادة، تحتاج إلى الفرد الحرّ الذي يعيّنها، فنحن لم نسمع عبر التاريخ عن عبدٍ اتخذ قراراً وبقي عبداً، ممّا يعني أنّ الحريّة لا تنفصل عن قدرة الفرد على اتخاذ القرار، فمن دون هذه القدرة لا تنتج الحريّة، ولكن ماذا لو كان ما نعتقد أنّه قرارنا، أو ما نعتقد أنه دليلٌ على حريتنا، ليس في الحقيقة سوى فهمنا الخاطئ للقرار، ومحصلة ما نتوهمه عن حريتنا؟
يبدو اتخاذ القرار خطوة جيدة لمجرّد كونه يُفصح عن الإرادة أو يشي بها، فالإرادة هي أحد أوجه الحرية، التي تقتضي وعي الممكنات المحتملة وغير المحتملة التي تواجه اتخاذ القرار، وهذا ما يجعل الإرادة ترتبط بالمسؤولية ارتباطاً مباشراً؛ إذ يجب على الإرادة أن تتحمّل كل ما يُسفر عن قراراتها من نتائج، وهنا يمكن أن نطرح صورتين لما يبدو أنّه قرار: الصورة الفردية التي تكررت في حوادث انتحار الأب السوري بسبب عجزه عن تأمين احتياجات ومتطلبات أسرته، بالتأكيد إنّ العائلة ستدفع نتائج القرار كاملاً على المستويين المادي والنفسي خاصةً الأطفال؛ فالانتحار هنا وجه من أوجه الهروب من الواقع، يُفاقم المشكلة فقط، وهو إن دلّ، فسيدل على غياب الحس بالمسؤولية الناتج عن فقدان الوعي والإدراك ومن ثمّ العجز، بينما الصورة الثانية ترتبط بالقرارات التي تتخذها السلطة في مجتمعاتنا؛ فقراراتها المفصولة عن الواقع، تُتخذ فقط لتكريس سلطة الأمر الواقع القائمة على قهر الأفراد وإقصائهم، وهي بالتالي تؤسس للصورة الأولى.
إن صيغة (إمّا/ أو) لا تصنع قراراً، فصناعة القرار تحتاج البدائل والممكنات حتى يتمّ الاختيار، وغياب البدائل والممكنات في مجتمعاتنا يجعل الصيغة السابقة (إمّا/ أو) هي الطريقة الوحيدة لإنتاج الحلول، ما يجعل أيّ قرار قراراً متعسفاً يُفرض بالقوة؛ فالقرارات التي نتخذها هي ما كان الواقع قد فرضها علينا مسبقاً، كقرار الانتحار الناتج عن تردّي الوضع المعيشي، أو قرار الطالب في دخول فرعٍ جامعيٍ تقرّره سلفاً العلامة التي نالها، أو حتى النظرة الاجتماعية لتراتبية الفروع الجامعيّة وجدواها الاقتصادية فيما بعد، وربما قرار القبول أو الامتناع عن أخذ لقاح كوفيد 19، يحاكي هذه المشكلة عبر اعتقاد الفرد أنّه صاحب قرارٍ فيها؛ فاتخاذ القرار قد يكون الوجه الآخر للرضوخ، بينما صناعة القرار التي تفترض وعياً بما نقرر، ومسؤولية عنه وحرية فيه، هي آخر ما يتوفر في مجتمعاتنا وآخر ما يمارسه الفرد.
لا شك أنّ الأنظمة التربوية التي تتبناها المجتمعات، تلعب دوراً حاسماً في شكل القرار الذي يتخذه أفرادها، فالتربية على الحرية، هي التربية على المسؤولية؛ لأنّ الفرد لا يمكن له أن يكون حراً إلّا إذا كان يشعر بمسؤولية عمّا يفعل، فالحرية بالمحصلة هي التزامٌ أخلاقي بما نفعل وبالنتائج المترتبة عليه، بينما أنظمتنا التربوية كافةً تعمل على تلميع صورتي الحرية والمسؤولية من الخارج وإفراغهما من الداخل، عبر تقليص الممكنات إلى حدودها الدنيا، لتقتصر في النهاية على “إمّا” و “أو” فقيرتين، يتراوح بينهما قرارٌ يائسٌ وهزيل.
مهارة ربط السبب بالنتيجة هي من أولى المهارات التي تنطوي عليها المناهج التعليمية المطوّرة في السنوات الدراسية الأولى للطفل، وفي سنوات دراسية متقدمة يتم تدريبه على مهارة حل المشكلات، وكل ذلك لإكساب المتعلم أهلية صناعة واتخاذ القرار، ولكن واقعياً يبقى ما يُدّرس مفصولاً عن الواقع وغير قابل للتطبيق؛ ففي أحد الدروس تحت فقرة لكل مشكلة حل، طُلب من التلاميذ أن يطرحوا مشكلة من واقعهم يتم تحديدها ثم تحديد أسبابها والحلول الممكنة لها ، لقد تم تحديد المشكلات بكل يسرٍ، ولكن كان هناك صعوبة في تحديد أسباب المشكلة، والغالبية وجدوا استحالة في إيجاد الحلول، وهذا ليس ضعفاً في التفكير، وإنما لتعقّد الأسباب وضبابيتها، وانعدام الخيارات المتاحة أمامهم، في بيئة تسلطية تقوم على إما أو لا ثالث لهما، في مجتمعٍ لن يتيح لك خياراتٍ تجعل منك صاحب قرار يهدد وجوده.
في مقالة بعنوان “قليل من الحوكمة قد يصلح الكثير” لمصطفى حجازي، يستشهد بقول “لهنري كيسنجر”: “إنّ مواقع السلطة العليا إن علّمتك، قد تعلمك كيفية اتخاذ القرار، وليس القدرة على صناعة جوهره”، ربما هذا حالنا وحال مجتمعاتنا، فنحن تعلمنا حقاً كيف نتخذ قراراً، فبإمكان أيّ فردٍ منّا أن يتخذ قراراً بالهجرة أو السفر أو الرضوخ أو الانتحار، ولكننا لم نتعلم كيف نصنع قراراتنا، وكيف نبنيها، فالفرد الذي تنعدم فعاليته وتتضاءل قيمته الإنسانية في أي مكانٍ كان، لا يمكن له أن يكون حراً، فالعبودية عبر مجرى التاريخ، كانت ترتكز على عدم امتلاك العبد لجوهره الإنساني الذي يمكّنه من القرار، وبالتالي يعفيه من المسؤولية المترتبة عليه، وربما يتكشف الإنسان المعاصر عن هذه العبودية المظلمة، التي تجعله يدور في وهمه عن الحرية، وقدرته على صناعة قراره.
في المقالة نفسها يطرح “مصطفى حجازي”، “الفارق الكبير بين النجومية والقيمة، وبين ملكية القرار وإبصاره، وبين صناعة القرار واتخاذه، وبين العقل الجمعي وانقياد القطيع، وبين الاقتداء بالقدوة والانقياد لها، وبين قانون القوة وقوة القانون، وبين نص القانون وروح العدل، وبين الاستقرار والشلل، وبين الهدوء وموات الأرواح، وبين الصبر والانكسار، وبين الحث على الانضباط وتربية الخنوع، وبين الحركة والفعل، وبين الفعل والإنجاز، وبين الثورة والاحتجاج، وبين النقد والسب، وبين التدين والتنطع، وبين الوطنية والعصبية، وبين السلطة والحكم، وبين النظام والدولة، وبين الدولة والوطن”. ربما إذا استطعنا أن نلمس هذا الفارق بين هذه المفاهيم، قد نتمكن من لمس سبل صناعة القرار، وقد نصحوا وقتها من وهم اتخاذ القرار بنكهته المرة (إمّا/ أو).
نقلاً عن حفريات