طارق أبو السعد
كاتب مصري
بناء الأجيال ورعاية المجتمع مهمة لا تقل أهمية وخطورة لأي دولة عن حماية الحدود وتوفير الأمن، فحماية الأجيال من الأفكار المتطرفة وتأهيلهم للمستقبل يحمي المجتمع من السقوط في براثن الإرهاب والجهل والتخلف والمرض، فالشباب هُم عماد أيِّ أُمَّة وسر النَّهضةِ فيها، وهُم بناةُ حضارتِها وخَطُّ الدِّفاعِ الأوَّلِ والأخيرِ عنها، والمجتمع الذي لا يهتم بالشباب وتجاهل طاقته وقدراته هائلة مصيره الضعف والتصدع والانهيار، وتحويلهم إلى طاقة عكسية مدمرة، المجتمع الناضج هو من يتعرف على قدرات الشباب ويُنَمِّيها، وإذا نجح يكون قد امتلك أحد أهم نقاط القوة والقدرة على التغيير ليصبح من أقوى المُجتمعات على الإطلاق.
فالشباب، وهم عماد المجتمعات، أولى بالرعاية البدينة والفكرية والأحق بتفريغ الجهود لبنائهم، والعالم العربي يمتلك ثروة بشرية شبابية عظيمة، فالشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و29 سنة يمثلون أكثر من 150 مليوناً؛ أي ما نسبته 37% من إجمالي السكان، هذه النسبة تعني بأنّ لدينا فرصة حقيقية لريادة المستقبل بهذه الطاقة الشبابية الهائلة فقط لو أحسنا تكوينها ورعايتها.
إنّ خطورة ترك الأجيال القادمة بدون رعاية تجعلهم فريسة سهلة للإرهاب والتطرف والعبثية والعدمية والفوضى، ويبدد طاقاتهم وطاقات المجتمع في معالجتهم، والأسلم بذل الجهد والإنفاق في بناء الأجيال؛ فهو استثمار مضمون وعاجل وخيار استراتيجي لا يمكن تجاهله. لكن المهمة ليست سهلة؛ فالأمر يحتاج إلى تغيير كثير من القيم السائدة في المجتمع مثل الماضوية التي تدفع البعض أن يخاف الولوج للمستقبل ويفضل البقاء في الماضي.
لهذا ستكون أُولى خطوات بناء الأجيال المستقبلية هي التخلص من التصور الذهني القديم عما يجب أن يكونوا عليه، وهي أهم خطوة على الإطلاق، فمن يقوم ببناء الأجيال لو لم يدرك أن ثمة اختلافاً كبيراً بين سمات الجيل القادم والأجيال السابقة، ستكون كل الجهود بمثابة صناعة سجن كبير يضع فيه أجيال لم تخلق لزماننا، وسيدفعهم هذا للتمرد على كل قيمة وأي قيمة، مما يعرض المجتمعات لتهديدات داخلية أشد خطورة من التهديدات الخارجية.
ثاني خطوة؛ تحديد وسائل بناء الأجيال القادمة؛ فلم تعد الأسرة الأولية هي المسؤولة عن بناء أجيالنا، لا لضعف فيها بل لتعدد مدخلات الأفكار والقيم للجيل، والتي ترسم إلى حد كبير رؤيته وقيمه، ومنها وسائل الإعلام المتعددة والمختلفة من تلفاز أو سينما أو مسرح، أو من الفضاء الإلكتروني والعالم الافتراضي وأدوات السوشيال ميديا التي أصبحت أهم الأدوات في بناء الأجيال التالية.
ثالث خطوة؛ التعرف إلى سمات وملامح الأجيال القادمة، فهم يمتازون بملامح وسمات العولمة وما بعدها، وهم أكثر انفتاحاً على ثقافات الآخر، وأكثر قدرة على تقبل المختلفين، وهم أكثر استخداماً للتكنولوجيا واعتماداً عليها والتعامل مع مستجداتها وتوظيفها في حياتهم اليومية، وفي نفس الوقت هم أكثر عرضة للتمرد ورفض الوصاية وجرأة في إبداء الآراء ضد الراشدين والآبائيين، كل هذا يجب وضعه في الاعتبار عند بناء الأجيال التالية، لتجنب الصدام بهم وإلا فالانفجار وشيك وشديد.
رابع خطوة؛ التعرف إلى حاجات الأجيال المستقبلية، رغم تعدد الحاجات الإنسانية إلا أنّ أكثر ما يحتاجه الجيل الجديد المزيد من مساحة الحرية للتعبير عن أنفسهم، يليها حاجتهم الى التقدير والشعور بالنجاح، وحاجتهم للشعور بالأمان والحماية.
ولتوفير هذه الحاجات علينا مساعدتهم على اكتشاف ذاتهم وطاقاتهم الكامنة، وإعطاؤهم الثقة في قدراتهم على اتخاذ قراراتهم المصيرية، مع تحملهم المسؤوليات والنتائج المترتبة على اختياراتهم، فلو أعطيناهم الفرصة لكان أفضل وأكثر أماناً للمجتمع.
خامس خطوة التوقف عن ممارسة التسلط الأبوي، فالأجيال القادمة لا تحتاج غرس أحلامنا وطموحاتنا الشخصية فيهم، وعلى وجه الخصوص تلك التي فشلنا في تحقيقها في شبابنا، مما يجعلهم أسرى لتصوراتنا وأحلامنا لا تصوراتهم وأحلامهم، ولا ننسى أنّ كثيراً من الآباء يمارسون شكلاً من أشكال الدكتاتورية في التعامل مع أبنائهم، مثل مصادرة إرادتهم، والتدخل في شؤون دراستهم وزواجهم، بل وحياتهم اليومية، لهذا يجب على المجتمع أن يعدل من الأساليب والوسائل التربوية سواء في الأسرة أو في المؤسسات التعليمية، لتناسب الأجيال المستقبلية.
سادس خطوة؛ التخلص من ميراث الصراع والعداءات العرقية والفكرية والقبلية والأيديولوجية، وكذلك مسببات الكراهية والاستعلاء والتمييز والرغبة في العنف، والتحريض ضد الآخر وتبريره والترويج له، وهذه مهمة المؤسسات التعليمية والتربوية والثقافية عبر تعزيز قيم الاحترام للآخر، وتنفيذ مُبادرات للتعرف على الثقافاتِ المختلفة والمُتنوعةِ، وتوفير فرص الاشتراك في تبادُل الزيارات والبعثات الشبابية للبلدان الأُخرى، لتطوير مهاراتهم الشخصية والاجتماعية اللازمة للعيش في وئام مع الآخرين، والتصرف بطريقة إيجابية تتسم بالرعاية وتحترم حقوق الإنسان الأساسية.
سابع خطوة؛ البدء في الاستعداد لغرس أفكار إيجابية فالمجتمع الذي يريد أن يهتم بمستقبل شبابه عليه تعزيز الجانب الاجتماعيِ لديهم، بتكثيف الحوار حول قيم الصفح والتسامح والعفو والتقبل والتعرف والتكامل العالمي، وضرب أمثلة معاصرة لها، والكف عن نشر ثقافة الثأر والانتقام والكراهية والصراع والاحتراب الداخلي والتفكك والتشرذم.
لم يعد أمام المجتمع العربي رفاهية الاختيار بين الكراهية والتسامح، فقد جربنا التعصب والتشدد وكان الحصاد مؤلماً، وليس أمامنا طريق سوى نشر قيم التسامح وقبول الآخر؛ لنجني ثمار التنمية والسلام، أيضا علينا العمل على تنشئتهم على القيم والاخلاق الإنسانية الفاضلة مثل الصدق والأمانة والإحسان والصبر وصلة الأرحام وبذل المعروف وإنصاف المظلوم والوقوف إلى جانب الضعيف، تعزيز روح الانتماء للمجتمع وللوطن والتربية على المحافظة على الموارد الطبيعية والمحافظة على المرافق العامة والمساهمة في تنميتها.
ثامن خطوة تدريبهم على الاستقلال وتحمل المسؤولية والسماح لهم بلعب دور في العمل العام، فليس من المنطقي تجاهلهم أو الاكتفاء باستغلال طاقتهم لصالح استقرار الأوضاع الحالية، ثم يتم تهميشهم لصالح أجيال سابقة حصلت على فرصتها في القيادة وفرض وصياتها، بل يجب أن يخلق المجتمع مسارات اجتماعية وفكرية تسمح بمرور الشباب إلى قمة العمل العام، ولا يعني الاستقلال أن تفقد الأسرة أو المجتمع دورهما في متابعة التغيرات التي تطرأ على الشباب بل المقصود التوقف عن الملاحقة والاكتفاء بالمتابعة وتوجيه النصح والإرشاد لا الأوامر والتعليمات.
تاسع خطوة، العمل على تكوين العقل المثقف، عبر تدريبهم على مهارة تفحص الأفكار التي سيتعرفون عليها في ظل السموات المفتوحة والثقافات المختلفة، وضبطها وتنقيتها وتعديلها حتى لا تتعارض مع قيم الانتماء والهوية الوطنية، فلا ينخدعون بأفكار الاسلامويين المتطرفة ولا أفكار العابثيين الفوضويين المدمريين للمجتمعات، هذا التدريب ليس سهلاً ولا تقليدياً، بل يحتاج إلى صبر وجَلَد وثمن كبير يجب أن يدفعه المجتمع من حصيلة التجارب وثمارها النهائية.
عاشر خطوة: الحوار ثم الحوار ثم الحوار، أثبتت التجارب المجتمعية أنّ وضع أسس بناء الأجيال التالية لا يتم بمعزل عنهم، فلا مفر من إيجاد آليات للحوار معهم والاستماع إليهم بجدية وعمق والتعرف على رؤاهم، وطرح القضايا الجوهرية بدلًا من الانزلاق إلى قضايا فرعية.
وأتصور هنا وجود قضيتين محوريتين للحوار: الأولى حول أسس النظام الاجتماعي المنشود، وآليات وسبل تفعيل مشاركة الشباب في كافة القطاعات التنموية والاجتماعية، وكيفية إقامة هذا النظام والتوافق حوله والحفاظ عليه، أما القضية الثانية، فهي التوافق على مبادئ وأسس هُوية وطنية جامعة، ففي ظل ضعف الانتماء لدى قطاعات كبيرة من الشباب، وامتداد حالة الاستقطاب إلى بعضهم، فلا بد من ترتيب أولويات المجتمع وترسيخ منظومة قيمية واجتماعية جديدة تُعلي من شأن المشاركة، وأهمية التفكير في المستقبل وتجاوز كافة العقبات.
أخيراً؛ ليس لدينا رفاهية اختيار رعاية الأجيال المستقبلية أم لا، فالتحديات العالمية والإقليمية تفرض علينا حتمية بناء الأجيال لمستقبل يختلف عن الواقع الحالي، لمستقبل لا نعلم ملامحه، مستقبل سيعيشه أبناؤنا فعلينا أن نبنيهم لما يتوافق معهم لا معنا، تعالوا نقترب منهم ونسمع منهم ونستمع لهم، تعالوا نتعرف على مستقبلهم كيف يرونه، تعالوا جميعاً، تعالوا لنحاول، ففي المحاولة طوق النجاة.
نقلاً عن حفريات