مصطفى الفقي
سؤال مباشر لكل الذين لم تهتز ضمائرهم ولم تخجل كلماتهم أمام أشلاء ودماء أطفال فلسطين أو كل القتلى من الأطفال عموماً في غمار الزحف الشرس على المدنيين في مدنهم وقراهم وتطبيق سياسة الأرض المحروقة.
أريد أن أفهم كيف يمكن أن نفسر التصريحات التي تتعارض تماماً مع قوانين الحرب وأصول القتال، وتجد مبرراً عندما تقول إنها ضد إيقاف إطلاق النار، كما فعل المسؤولون في الإدارة الأميركية، وكما قال أيضاً مستشار ألمانيا وغيره من كبار المسؤولين في الغرب، وكأنهم يدوسون بأقدامهم قواعد الحرب ويستخدمون الأساليب الهمجية في القتال، بل يسجلون صفحات من العار عليهم، بل وعلى بلادهم أيضاً؟!
الكل يدرك أننا أمام محرقة كاملة وهولوكوست فلسطيني بامتياز، وأنا أدهش كيف يمكن أن نكون على مشارف الربع الثاني من القرن الـ20 والمشاهد مروعة والأحداث دامية، خصوصاً ضرب المستشفيات وتحطيمها على الأطفال بدعوى أنه توجد تحتها قيادات “حماسية” لا بد من اصطيادها؟!
الغريب أن ذلك لم يثبت يقيناً ولم يتأكد عملياً وهو ما يعني أن المعلومات التي يعتمد عليها القتلة ليست معلومات دقيقة، وأنا لا أقول ذلك دفاعاً عن دولة معينة أو تنظيم بذاته، لكنني أشعر بالأسى وقلبي يتمزق مع الملايين في أنحاء الكوكب إزاء المذابح الدامية التي شهدتها الأرض الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
لقد اتضح أن شهوة الانتقام في الدولة العبرية تتجاوز حدود الإرهاب، وتصل إلى الإبادة الجماعية واعتماد سياسة النزوح القسري والتطهير العرقي، وهي أمور كنا نظن أنها قد اختفت أو على الأقل توارت في زحام الأحداث المروعة والتظاهرات الصاخبة، إن لنا على ما نشهده من جرائم ضد الإنسانية من جانب الدولة العبرية وأعوانها وأنصارها ما نسجله وما نربأ به عن روح العصر، لأنه يبدو وكأنه ردة في منظور حقوق الإنسان والمفهوم الذي انطلقت عنه المواثيق الدولية، ولنا في هذا الشأن ملاحظات أطرحها في المحاور التالية:
أولاً: إننا نظن أن المقاومة ضد الاحتلال حق مشروع للفلسطينيين كغيرهم من شعوب الأرض ودول العالم الأخرى، ولكن هذا الحق المشروع يحتاج أيضاً إلى حساب المكسب والخسارة في الأرواح والممتلكات، وليس يعني ذلك أننا نستنكر المقاومة كمبدأ أو نرفضها على إطلاقها، بل إننا نريد لها أن تتواكب مع زخم سياسي وجهد دولي يجعلان المقاومة جزءاً من كل وليست عملاً عسكرياً أصماً، بل إننا نعترف بأن جرائم الاحتلال الإسرائيلي في الأرض المحتلة تفوق الخيال، وأن ما فعله “الحماسيون” لم يكن من فراغ، كما قال سكرتير عام الأمم المتحدة بعد حضوره افتتاح معبر رفح المصري أمام سكان غزة وغيرها.
ومع ذلك نحن نرى أن مقاومة الاحتلال تحتاج إلى ترتيب دون الاكتفاء بشجاعة القتال وبسالة المواجهة. فالحرب كر وفر وهي محكومة أيضاً بميثاق أخلاقي يمنع العدوان على المدنيين، ويبتعد تماماً من الأطفال والنساء وكبار السن، حتى تكون للمقاومة أساليبها المشروعة.
ثانياً: لقد برعت إسرائيل ومؤيدوها في الخلط بين الكفاح المسلح وبين الإرهاب الدولي، فدمغت بذلك المقاومة المشروعة ضد الاحتلال بخاتم الإرهاب الذي يسيء إلى حركة التحرير ويظهرها في غير ما هي عليه، لذلك فإن تجنب الاندفاعات غير المحسوبة إنما هو تعزيز لذلك الافتراء الذي تعمدته دائماً الدعاية الإسرائيلية على امتداد العقود الأخيرة، عندما قارنت بغير وعي بين حركة للتحرير وأخرى للإرهاب من دون مضمون، وبلا جوهر حقيقي يوضح الأشياء ويمضي بها في الطريق الصحيح.
ثالثاً: إن المقاومة المشروعة تتمثل في عدد من البنود الواضحة التي تمنع احتجاز الرهائن من غير العسكريين، لذلك فإن من العسير تبادل ذلك الفعل بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني مع الفارق بين قوى الاحتلال وقوى المقاومة ضد ذلك الاحتلال.
المساواة بين الجاني والمجني عليه هي مساواة شكلية لا تنصرف للجوهر أو مضمون العمل العسكري أو شبه العسكري من أحد الطرفين أو منهما معاً، فالأمر هنا يحتاج إلى توصيف دقيق لمعنى المقاومة بأنواعها الإيجابية والسلبية، إذ أصبحت مدرسة المهاتما غاندي في المقاومة السلبية في ذمة التاريخ، لأن العصيان المدني والاعتصام الطويل أصبحا أمرين لا يشكلان ضغطاً شديداً على الطرف الأقوى في مواجهة نظيره الأقل قوة.
رابعاً: لقد كشفت الولايات المتحدة الأميركية عن وجهها أمام المجتمع الدولي، وعبرت عن انحيازها الكامل لدولة إسرائيل على حساب الحق والمنطق، ضاربة عرض الحائط بكل القرارات الدولية والمواثيق العالمية، بل وتجردت أيضاً من الحس الإنساني الذي كان مرتبطاً بصحوة الضمير الإنساني، وازدهار الديمقراطيات، وانتعاش مبادئ حقوق الإنسان، حتى أن البعض كان يرى أن الولايات المتحدة الأميركية تجسد ذلك إذا دخلت ميدان الصراع الدولي وأصبحت طرفاً فيه، ولكن ذابت مبادئ الرئيس نيلسون وأصبحنا أمام دولة تدعم طرفاً على آخر وتنحاز ضد الحق والحقيقة، بل وتنصر الإثم والعدوان. ولذلك فإن دورها في الشرق الأوسط محكوم عليه بالفشل، لأن السياسة الأميركية فقدت شعبيتها الواسعة ومصداقيتها التاريخية، إلى الحد الذي جعل البعض يتصور أن دورها الدولي قد بدأ يضعف في مناطق مختلفة من عالم اليوم وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط.
خامساً: إن الدعم الأميركي- الإسرائيلي قد كشف أمام العالم عن تبني الولايات المتحدة الأميركية لسياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين مع تأكيد غياب العدالة الدولية والانتقال إلى مرحلة سيطرة التيارات اليمينية والدينية على مراكز الأعصاب في النظم الغربية الحاكمة، بل ونضيف إلى ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية ترحب في صمت بعودة الصراع الديني إلى مسرح الأحداث في أنحاء العالم، حيث تسود الفوضى وتغيب القيم وتتوارى المبادئ.
سادساً: إن دماء أطفال غزة وأشلاء الجثامين المتراصة سوف تبقى لعقود طويلة في الذاكرة الإنسانية دليلاً على الخلط المتعمد بين الكفاح المسلح لمقاومة الاحتلال وبين الإرهاب، الذي لا يتبنى قضية ولا يمتلك مبرراً أخلاقياً قد يكون وطنياً أو قومياً أو حتى دينياً.
سابعاً: إن محاولات حل الصراع العربي الإسرائيلي وفك الاشتباك بين العرب واليهود في فلسطين عن طريق المقايضة بين تصفية القضية الفلسطينية وبين الادعاء بحلها، وفي الحالتين، فإن ليس هناك من يقبل بأن يدفع ثمن الاستيطان الإسرائيلي وشهوة التوسع لدى قيادات الدولة العبرية والأهواء العنصرية التي تحكم التيارات الصهيونية في أنحاء العالم.
مازلنا نتذكر أن وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية أنتوني بلينكن قد قال بعد أحداث غزة، إنه يأتي إلى إسرائيل كمواطن يهودي بالدرجة الأولى، ولا عجب فالرئيس جو بايدن نفسه يكرر في كل مناسبة حواراً قديماً مع والده عندما سأله بايدن هل من الضروري أن يكون يهودياً لكي يكون صهيونياً؟ فرد الأب: ليس ذلك شرطاً إذ يمكن أن تكون صهيونياً مع أنك لست يهودي الديانة.
هذه العبارات من وزير الخارجية الأميركية ورئيسه تعكس حقيقة الممالأة المكشوفة والانحياز الفاضح من جانب الولايات المتحدة الأميركية تجاه الحركة الصهيونية والدولة العبرية. نقول ذلك ونحن ندرك أن الانتخابات الرئاسية الأميركية قريبة وأن كل المرشحين ينافقون يهود الولايات المتحدة للوصول إلى البيت الأبيض في النهاية.
من هذه الملاحظات السبع، تبدو الدماء الطاهرة للأطفال التي أريقت من الجانبين منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، كأنما هي بمثابة ناقوس يدق ليوقظ الضمائر المتبلدة، ويحي الأفكار المتجمدة التي لا تستطيع أن تستوعب روح العصر وتستشرف مستقبل الإنسانية بكل ما يحمله من قيم عصرية وأفكار جديدة ورؤى عادلة.
نقلاً عن “اندبندنت عربية”