كريتر نت – متابعات
من يتابع أداء النخبة الإسرائيلية بأطيافها المختلفة، إعلاميين وسياسيين وعسكريين، وكلامها حول الحرب على قطاع غزة من على منابر بعض الفضائيات العربية يسمع حديثا مكررا وبائسا، هو دعاية وليس تحليلا منطقيا، وغالبيتها تتبنى رواية رسمية يتم ترديدها بلا ملل أو كلل أمام مشاهد عربي يتشوق إلى فهم خطاب النخبة. ولا يشعر الكثير من الإسرائيليين بالحرج عندما يبررون المآسي والمجازر التي ارتكبها جيشهم بحق الفلسطينيين، ولا يتطرقون إلى عنف المستوطنين في الضفة الغربية.
ويشعر الإعلامي أو المحلل العربي عندما يواجه أحدا من الإسرائيليين على إحدى الفضائيات العربية بأنه أمام آلة دعاية متنقلة، ويستمع إلى رؤى وتقديرات متشابهة، على الرغم من تغير الشخص والمحطة، وقد حدثت عدة مشادات بين ضيوف عرب وآخرين إسرائيليين، وقام أكثر من مذيع بإنهاء اللقاء مع إسرائيليين على الهواء مباشرة.
في المقابل جاءت معظم المعلومات التي جرى الكشف عنها، وتدين الجيش الإسرائيلي والحكومة وأجهزة الاستخبارات، عن طريق وسائل إعلام إسرائيلية. كما أن المناقشات في الصحف والمحطات الفضائية هناك تتسم بالجدية وتتطرق إلى ملفات وقضايا حساسة، ولا يتورع البعض عن فضح أي قيادة كبيرة أو صغيرة في إسرائيل.
◙ الإعلامي أو المحلل العربي عندما يواجه أحدا من الإسرائيليين على إحدى الفضائيات العربية يشعر بأنه أمام آلة دعاية متنقلة
ولم يؤثر انحياز أعضاء هذه النخبة إلى دولتهم إسرائيل وحربها على غزة وتبرير تصرفاتها على دورهم في تقديم معلومات تدين الحكومة ورئيسها بنيامين نتنياهو، ويكفي أن فضيحة قصف الطيران لمدنيين في الحفل الذي كان مقاما في إحدى مستوطنات غزة فجر السابع من أكتوبر الماضي تم الكشف عنها من قبل صحيفة إسرائيلية، ما برأ حركة حماس من تهمة ظلت تلاحقها حول استهدافها مدنيين عزّل.
ويمكن رصد مجموعة من المعلومات المهمة التي قدمها إعلام إسرائيل عن جدارة، بما لا يتناسب مع أداء ضعيف للكثير من العاملين فيه ونخبهم المختلفة على بعض الفضائيات العربية، فحديث الداخل يبدو على مسافة بعيدة عن حديث الخارج. وتحظى بعض وسائل الإعلام العبرية بتقدير يفتقر إليه تماما من يطلون يوميا من شاشات عربية وأجنبية، ما يجعل تفسير ذلك يكمن في قصر النظر، لأن هذه الطريقة يغلب عليها الضجيج والصوت المرتفع وتعمد بث المغالطات، وهو ما يدين أصحابها ويجهض حججهم في النقاش.
ولا أحد يعلم هل هناك فقر أم قصور في فهم ما يحتاجه المشاهد العربي عندما يجلس ليستمع إلى أحدهم يحدثه بالعربية عن أهداف إسرائيل النبيلة، مقابل أهداف حماس الشيطانية، ولا أحد يعلم أسباب الفجوة بين الإعلام الداخلي ونظيره الخارجي، وأهداف كليهما. ما يستطيع المراقب استشفافه هو وجود تعمد في صياغة خطاب مراوغ أمام الإعلام العربي أملا في تحويل الدعاية إلى حقيقة، أو على الأقل ترسيخ انطباعات سلبية حول الجانب الفلسطيني ممثلا في المقاومة عقابا على دورها في تكسير أسطورة إسرائيل.
ولا تزال الكثير من وسائل الإعلام العربية تمنع ظهور إسرائيليين لدوافع متباينة، بعضها له علاقة بحاسبات عقائدية وسياسية، وبعضها الآخر احتجاجا على تصرفات إسرائيل وما ترتكبه من أعمال وحشية. أما قبول استضافتهم من قبل بعض وسائل الإعلام العربية فيعود إلى أسباب مهنية وموضوعية وسماع صوت الآخر أو إلى دواع سياسية تتعلق بالدول التابعة لها الفضائيات التي قبلت بظهورهم، وفي الحالتين أمام إسرائيل شوط طويل للتعامل مع ذلك بصورة طبيعية.
وفوتت نخبتها فرصة استثمار إطلالاتها للتأثير على المشاهد العربي وجذبه إليها، وأدت كثافة الظهور إلى ترسيخ صورة نمطية سلبية عنها وعن دولتها؛ صورة متغطرسة مليئة بأكاذيب تكشفت معالمها من السرديات المنحرفة التي تصر عليها النخبة. وقد يكون هناك فهم أو تبرير لخطاب الكثير من المتحدثين باسم الحكومة والجيش لأنهم في موقع مسؤولية رسمية، لكن غير مفهوم أو مبرر الحديث الصاخب للنخبة، والذي يحاول الترويج لمعلومات جرى التأكد من بطلانها منذ بداية الحرب إلى اليوم.
وخسرت نخبة إسرائيل معركتها على الفضائيات العربية بدرجة كبيرة، وخسر من مثلوها كثيرا في وسائل الإعلام الدولية، بينما جذب خطاب الكثير من النخب العربية، على الرغم من انحيازها إلى الجانب الفلسطيني، قطاعات واسعة إليه لأن المشاهد القادمة من غزة ساعدت في ذلك وتصب في اتجاه مغاير لخطاب إسرائيل مهما حاولت نخبها تقديم تفسيرات لما يرتكب من انتهاكات وإلقاء التبعة على عناصر حماس.
وخسرت نخبة إسرائيل أيضا في مجال الإعلام الدولي، حيث لم تعد تحليلاتها بشأن مظلومية دولتها وتعرضها لأعمال “إرهابية” تخدع فئات كبيرة من المشاهدين، فالصور التي تنقلها الفضائيات ووكالات الأنباء ضد خطاب النخبة، وبدأت بعض وسائل الإعلام الغربية استدارة في غير صالح إسرائيل، مستمدة من الواقع وليس من خيالات النخبة.
◙ نخبة إسرائيل لم تعد تحليلاتها بشأن مظلومية دولتها وتعرضها لأعمال “إرهابية” تخدع فئات كبيرة من المشاهدين
ومثّل أداء بعض النخب العربية، من المسؤولين والإعلاميين والمحللين، إضافة نوعية أخرى لأن هذه النخب كشفت زيف الكثير مما روجته إسرائيل في أوقات سابقة وكان يتم التسليم به والتعامل معه باعتباره حقائق لا تقبل التشكيك فيها، وهي خسارة سوف تظهر خطورتها مستقبلا عندما تجد إسرائيل أن صوتها ضعيف أو لم يعد مسموعا بشكل كاف، أو أن هناك من يناقشون ما يتم تقديمه إليهم على أنه حقيقة دامغة.
ويمكن أن يحفظ ما قدمته بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية من معلومات مهمة ماء وجه نخبتها، إلا أن مصداقيتها مهتزة وسوف تظل غير موثوق بها، وربما يمثل ظهور بعضها على فضائيات حرجا لدول عربية، كانت حدته تخفّ عندما كان البعض من المذيعين يتوقفون عند الكثير مما يلقى عليهم من جانب متحدثين وسياسيين ومحللين إسرائيليين، وهذه الميزة تتوقف على مستوى وعي المذيع/ المذيعة، فمنهم من يصد بصرامة، ومنهم من يعترض بلباقة، ومنهم من يصمت على ما يسمعه ويترك فرصة الرد لضيف عربي.
وتؤكد مراقبة أداء الضيوف الإسرائيليين ضعف حججهم، والتي بدت بنسب أقل لدى نظرائهم من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، ومع طول أمد الحرب وتواتر المعلومات حول شائعات وأكاذيب أطلقتها إسرائيل بدأت فئة صغيرة تعيد النظر في مسلمات سابقة، في مجملها تعزز فقر الأفكار التي راجت مدة طويلة واستمد معظمها حيثياته من فراغ عربي وقدرة إسرائيلية فائقة على الوصول إلى وسائل الإعلام الدولية.
وإذا لم يغير إعلاميون ومحللون غربيون الكثير من مواقفهم الثابتة من الروايات الإسرائيلية بعد حرب غزة، فقد بدأ البعض منهم يستمعون إلى رؤية أخرى، وهناك من يرتابون في الكثير مما تعرضه عليهم نخبة إسرائيل، وهو ما يعد مكسبا للقضية الفلسطينية بعد أن عانت كثيرا من الهيمنة الأحادية والنظرة القاصرة لطبيعة الصراع مع إسرائيل التي تهدمت أجزاء مهمة في رؤيتها وحضورها الطاغيين دوليا.