جاد الكريم الجباعي
كاتب سوري
يدور، منذ وقت طويل، سجال بين المثقفين حول المشروعية القانونية للأحزاب أو الجماعات الدينية، انطلاقاً من فرضيتين: الأولى هي تساوي الأحزاب الدينية وغير الدينية في الحقوق، والثانية هي اعتبار الأحزاب الدينية تمثل الأكثرية الشعبية في هذا البلد أو ذاك، ويستدل معظمهم على صحة الافتراض الأول بالأحزاب الديمقراطية المسيحية في الدول الديمقراطية.
فيظن المسلم العربي أو غير العربي، في دفاعه عن الجماعات الإسلامية، أنّ الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا تشبه الأحزاب والجماعات السياسية ذات الأيديولوجية الدينية في العالمين؛ العربي والإسلامي. ولكن هذا لا يتعدى مجال الظن والتخمين.
مناقشة الفرضيتين المشار إليهما لا تستند إلى أي معيار معترف به، سوى معيار المشابهة اللفطية، لا المقارنة: ما دام هنالك أحزاب دينية معترف بها في الغرب، فلمَ لا يكون الأمر كذلك في بلادنا؟ البرهان بالتشبيه لا يستند لا إلى ماهية الحزب السياسي ورؤيته وأهدافه، ولا إلى الفرق بين الحزب السياسي والحزب الديني أو العقائدي، كحزب البعث أو الحزب الشيوعي، ولا إلى وظائف الحزب السياسي، ولا إلى موقف الحزب من الدولة ودستورها، وهذا على درجة كبيرة من الأهمية.
لإلقاء بعض الضوء على هذه المسألة لا بد من تبيُّنها في الأنظمة الداخلية للأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا، ولنأخذ الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني مثالاً؛ إذ “تقدم ألمانيا مثالاً وسطياً للعلاقة المثيرة للجدل بين الدين والدولة. فالدستور الألماني المعادي للفاشية والقائم علي ضمان الحرية والديمقراطية يتعاطى بصورة متوازنة مع دور الديانة المسيحية كمرجعية قيمية وأخلاقية، إلا أنه يرفض التدخل المباشر للمؤسسات الدينية في العملية السياسية الألمانية”.
ولكن ذلك لا يعني عدم تأثير الكنيسة الكاثوليكية أو البروتستنتية في الحياة العامة، “فالدستور الألماني، الذي يضمن للأحزاب السياسية الأولوية العليا في “صياغة إرادة الشعب” يمكِّن القوى الدينية، كونها جزءاً من قوى المجتمع المدني، من التأثير في الرأي العام ودفعه إلى تأييد موقف معين، مما يضمن لهذه القوى تأثيراً فاعلاً على العملية السياسية الديمقراطية”[1].
إذاً، لو كان الحزب الديمقراطي المسيحي يتبنّى أيديولوجية مسيحية وأهدافاً دينية لكان مخالفاً للدستور، والأمر ليس كذلك. فالصفة المسيحية للحزب تحيل على الدين بصفته منظومة أخلاقية، ويعبر الحزب عن ذلك صراحة، بتعريف نفسه بأنّه حزب “يملك مفهوماً سياسياً قائماً على الديانة والقيم المسيحية وعلى مسؤولية الفرد أمام الله”.
ويشدد في مقدمة قانونه الأساسي على أنّه “حزب ديمقراطي ليبرالي ومحافظ يلتزم بجذور أوروبا التاريخية.”
المهم هنا أنّ عضو الحزب الديمقراطي المسيحي مسؤول دينياً أمام الله، لا أمام الحزب، ولا أمام أي سلطة دنيوية، وهذا ملمح أساسي من ملامح العلمانية، إذا فُهمت العلمانية على أنّها غير مناهضة للدين، وهي كذلك بالفعل.
يقوم البرنامج السياسي للحزب الديمقراطي المسيحي الألماني على ثلاث ركائز: أولاها هي القيم المسيحية، والثانية هي الديمقراطية، والثالثة هي الليبرالية.
وتتضمن المادة الرابعة من نظامه الداخلي المتعلقة بـ “شروط العضوية” فقرة خاصة للراغبين في الانتساب إلى الحزب من خارج دول الاتحاد الأوربي، تقول: “يمكن للقادم الجديد، أن يكون عضواً ضيفاً في الحزب، بشرط أن يكون قضى عاماً كاملاً في ألمانيا، وأن لا يكون عضواً في حزب أو مجموعة تتعارض مع النظام الداخلي للحزب. فيتقدم بطلب للمكتب المسؤول، في حال الموافقة، يحق له أن يشارك في الاجتماعات العامة، وأن يتحدث خلالها، وله الحق في تقديم الاقتراحات.
لكن لا يحق له التصويت أو المشاركة في الانتخابات. وبعد سنة تلقائياً تنتهي هذه العضوية إذا لم يصبح عضواً في الحزب. العضو الضيف معفي من الاشتراكات الحزبية، لكن يمكنه المشاركة في التبرعات بحسب الإمكانية”.
يلاحظ أنّ النظام الداخلي لا يشترط أن يكون “القادم الجديد” مسيحياً، أو من طائفة مسيحية معينة. وهذا مما يدل دلالة قاطعة على أنّ الهوية السياسية للحزب (الديمقراطية الليبرالية) هي هويته الأساسية. والمسيحية التي يتصف بها لا تزيد على كونها منظومة أخلاقية، تعتبر الدين علاقة خاصة بين الإنسان والله.
في حين يعرِّف النظام الداخلي لجماعة الإخوان المسلمين السورية الجماعة بأنها: “جماعة إسلامية، تؤمن بالإسلام بمفهومه الوسطي الشامل، عقيدة وشريعة ومنهج حياة.
وتعمل لإقراره في حياة الفرد والمجتمع والدولة، بالدعوة إلى الله عز وجل، بالحكمة والموعظة الحسنة، في إطار متجدد، يتميز بالاعتدال والإيجابية، يربط النص الإسلامي بالواقع الحي للمجتمع، مستهدية بتجربة الإمام الشهيد حسن البنا في مصر، ومستفيدةً من تجارب العمل الإسلامي الأخرى”.
وتنص المادة الثالثة من هذا النظام الأساسي على أنّ “القرآن الكريم والسنة النبوية، هما المرجعية الأساسية لجماعة الإخوان المسلمين، …”. وتنص المادة الخامسة على أنّ “الشريعة الإسلامية، هي أصل رؤية الجماعة في تبنّي مشروعها الإسلاميّ الحضاريّ الذي يتصدّى لتحدّيات الواقع الذي نعيشه، والتدرّج في تطبيق الشريعة الإسلامية – نظاماً شاملاً للحياة – هو الأساس الذي تعتمده الجماعة في السعي للتغيير” كما ينص النظام الداخي على أنّ “الجهاد قيمة إسلامية عظيمة، وسلوك تحكمه الضوابط الشرعية والأخلاقية”، وأنّ غاية الجماعة هي “طاعة لله تعالى، وعبادته، وابتغاء رضوانه”، و”استئناف الحياة الإسلامية، ببناء الفرد المسلم، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة، واستئناف الدور الريادي للأمة المسلمة، في جميع نواحي الحياة”. و”العضوية في الجماعة ليست رتبة في الدين، وإنما هي تعبير عن إرادة للعمل المشترك في نصرة الإسلام، وفق فهم الجماعة ومنهجها، وعهد على الولاء والعمل والبذل، والانتساب لها متاح لمن يبدي استعداده لذلك، وللعضوية فيها درجات يحددها هذا النظام”.
إذاً، ليس من المنطقي أن تسمح الدولة بوجود حزب غايته تدميرها واستبدال دولة أخرى بها، وليس من المنطقي، قبل ذلك، أن يسمح المجتمع بوجود حزب يريد أن يفرض عقيدته الخاصة، ويبسط نفوذه على الدولة والمجتمع، بالسيف. فلا يمكن أن يقوم نظام ديمقراطي بدون الإلغاء السياسي للملكية الخاصة والدين.
____________________
هامش:
[1] – لؤي المدهون عن “الحزب الديمقراطي المسيحي واستحقاقات الديمقراطية”
انشرFacebookTwitterEmailWhatsAppMessengerTelegramLine
نقلاً عن حفريات