عمار علي حسن
كاتب مصري
عام 1916؛ بينما كانت الحرب العالمية الأولى تستعر، اتّفق وزيرا خارجية بريطانيا، مارك سايكس، وفرنسا جورج بيكو سرا، بمصادقة من روسيا، على تقسيم مناطق النفوذ في العالم العربي بعد تهاوي الدولة العثمانية، التي أطلق عليها الأوروبيون وقتها “الرجل المريض”، وسعوا إلى تقسيم إرثه. بعد مائة عام جاء تنظيم داعش الإرهابي، ليستعمل الدين في تفكيك الدول العربية والإسلامية، وكأنّه يكمل ما لم يتمّه المستعمرون، أو لم يصلوا إلى مستواه من تقسيم الكيانات السياسية، أو الدول الجديدة، إلى وحدات جغرافية أصغر.
لقد أدخل تنظيم داعش الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس ـ بيكو، التي نشأت على أساسها دول عربية عدة في الهلال الخصيب والشام وشبه الجزيرة العربية، إلى مرحلة جديدة، حين انطلق نحو إنجاز ما يسميه مشروع “الخلافة”، الذي يقوم في ذهن قادة التنظيم على إسقاط “الدولة الوطنية” في العالم العربي والإسلامي، وتذويب الحدود، والعودة إلى جغرافيا الإمبراطورية الإسلامية التي كانت تمتدّ من غانا غرب إفريقيا، إلى وادي فرغانة في آسيا الوسطى.
لكن عملياً؛ لن يتحقق مشروع “داعش” الوهمي، فزمن الإمبراطوريات التي كانت تقوم على الفتح والإجبار والقسر قد ولّى، كما ولّى بعدها زمن الاستعمار التقليدي، لكن ما يفعله التنظيم الإرهابي سيؤدي في الواقع إلى تفكيك الدول الموجودة بالفعل، ليرسم الدمّ بعدها حدود دويلات جديدة، تقوم على أنقاضها، وفق أسس عرقية وطائفية وأيديولوجية دينية، إذ قد ينتهي أمر “داعش”، إن بقي أصلاً على قيد الحياة فترة طويلة، إلى إمارة متطرفة صغيرة محشورة بين دويلات، من المؤكّد أنّها ستناصبها العداء، ليستمر القتل والخراب.
لهذا يبدو داعش مكملاً لمشروع سايكس ـ بيكو، وبشكل أكثر سوءاً؛ إذ إنّ الدم والفوضى هذه المرّة أكبر، كما أنّ التشظي سيكون أبعد، والاضطراب سيستمرّ زمناً أطول، وهنا لا بدّ من التعجب من أولئك الذين يعتقدون أنّ التنظيم الإرهابي سيلغي سايكس ـ بيكو، وهو مطلب ظلّ القوميون العرب يتحدثون عنه زمناً طويلاً، لكنّهم أرادوا الإلغاء من أجل “وطن عربي واحد” يمتدّ من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، لا دويلات وكيانات هشّة، مثلما سينتهي مشروع داعش إن قدر له أن يستمر بعض الوقت.
وذكرى مرور قرن على “سايكس ـ بيكو”، ربما تفتح سؤالاً مبرراً عمّا إذا كان التنظيم له علاقة بما يسمى “مشروع الشرق الأوسط الكبير”، الذي أعلنت عنه الولايات المتحدة الأمريكية جهاراً نهاراً، عام 2004، ومن ثم يمتد التساؤل عن علاقة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) بإنشاء داعش للقيام بهذه المهمة؛ فواشنطن بعد الذي جرى لها من توعّك شديد في العراق، ربما أدركت أنّ إكمال اتفاقية “سايكس ـ بيكو” بالطريقة القديمة، التي تخضع لإرادة المستعمر ومشيئته، لم يعد من الممكن تطبيقها، ولذا كان الحلّ الأسهل هو إطلاق تنظيم ديني يعمل في هذا الاتجاه، بينما يتوهّم أنّه يسعى إلى تحقيق هدف آخر وهو استعادة “الخلافة”، سيما أنّ الأمريكان سبق أن جربوا هذه الطريقة في إسقاط الاتحاد السوفيتي على أيدي شباب مسلم حشدوه إلى أفغانستان.
وإذا كانت هذه مجرد أسئلة، تحتاج إلى إجابات تستند إلى حقائق ووثائق، ومجرد هواجس تبحث عن اطمئنان، فإنّ ما لا يحتاج إلى سؤال وجواب، هي النتائج التي تترتب على تمدّد “داعش” وتوحشه في اتجاه التقسيم؛ فالتنظيم باستدعائه النزعة الطائفية المذهبية، يعمّق تقسيم العراق إلى دولة شيعية في الجنوب، وسنيّة في الوسط، فيما يستغل الأكراد الاضطراب الذي صنعه داعش في السير خطوات أبعد على طريق تحقيق حلمهم التاريخي بإقامة دولة لهم، تجمع عرقهم الموزع على العراق وسوريا وتركيا وإيران.
وفي سوريا يشير التقسيم إلى دويلات وكيانات سياسية مذهبية وعرقية وأيديولوجية للعلويين والدروز والسلفية الجهادية، وستقوم بين هذه الدويلات المفترضة، إن صارت واقعاً، ضغائن لن تنتهي.
وقد عبّر اللواء مراد موافي، رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية الأسبق عن هذا، حين وصف داعش بأنّه “لعبة وصناعة أمريكية مثل تنظيم القاعدة وابن لادن ومصعب الزرقاوي”، وقال في محاضرة له بنادي الليونز: “أبو بكر البغدادي، مؤسّس التنظيم، تمّ تدريبه بمعرفة خبراء أمريكيين لزعزعة استقرار المنطقة بأكملها”.
وفق سايكس بيكو، تم تقسيم منطقة الهلال الخصيب لتحصل فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي سوريا ولبنان، إلى جانب منطقة الموصل في العراق، أمّا بريطانيا؛ فقد امتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسّعة بالاتجاه شرقاً، لتضمّ بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا.
وعلى التوازي، تقرّر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا، وإن كانت الاتفاقية قد نصّت على منح بريطانيا ميناءيْ حيفا وعكا، على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا، في المقابل، حقّ استخدام ميناء إسكندرونة السوري الذي كان سيقع في حوزتها.
أما وفق “داعش”؛ فإنّ الخرائط والحدود القانونية بين الدول ليست محلّ اعتراف من قبل التنظيم؛ بل يجب أن تزال، لتقوم الإمبراطورية المتخيلة.
وفي الواقع أخذ داعش أجزاء من العراق وسوريا وأعلن عليها ما أسماها “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وهي دولة تتمدّد وتنحسر كل يوم، مع استمرار المعارك، خالقة حولها، وفيها، تقسيماً نظرياً للأرض، ليس هناك ما يمنع أن يتحول إلى واقع عملي، إن لم تعمل الدول الإقليمية والدولية المنغمسة في الصراع على اتخاذ كلّ ما يلزم في سبيل الحفاظ على الدولة الوطنية، في سوريا والعراق وما حولهما، على حالها قبل الاحتلال الأمريكي للعراق، وتحول الثورة السورية إلى حرب أهلية، ثم صراع إقليمي ودولي.
أما الأمر الثالث؛ فيتعلق بالنتائج التي تترتب على التصورات الراقدة في أذهان الإرهابيين، والمتعلقة بالسعي إلى استعادة تاريخ قد ذهب قامت فيه الإمبراطورية الإسلامية! فمثل هذه التصورات تلحُّ على هؤلاء الإرهابيين طيلة الوقت، فينكرون على الدول الوطنية القائمة وجودها، ويكفرون بسيادتها، ولا يحترمون علمها ولا نشيدها ولا دستورها، ويعتقدون وهماً أنّ البشر المنتمين إليها، في حالة رفض لها، وليس لديهم مانع من الاندماج في إطار تلك الإمبراطورية المتخيلة.
لهذا؛ فإنّ الأثر السيئ لداعش، لا يريد أن يتوقف عند حدود الشام والهلال الخصيب، فهو يعمل بقوة في ليبيا، لتتشطى إلى ثلاث أو أربع دويلات على الأقل، ويحاول أن يقيم دويلة على أرض سيناء المصرية، وينشط الآن في ليبيا اليمن، وقد يخطط للقيام بعمليات إرهابية في دول الخليج؛ قاصداً من هذا إحداث اضطرابات وفوضى وخلخلة، تتيح له أن يؤسس نقطة انطلاق، يحشد ويعبئ لها، ويهدد ويتوسع منها، مستغلاً التنوع الطائفي والعرقي، وتنامي الأيديولوجيات الدينية المتشددة في تفجير المنطقة العربية برمّتها.
نقلاً عن حفريات