مروان العياصرة
كاتب أردني
منذ زمن بدأت رحلة الإخوان المسلمين في البحث عن ملاذات ومستقرات جديدة، توفر لشخصياتهم القيادية تحديداً مستوى مطلوباً من الأمان، لكنّ الحال يبدو أصعب من أيّ محاولة مبذولة، ويبدو أنّ هذه الرحلة الصعبة قد بدأت منذ أن بدؤوا هم بتحويل الواقع المحيط بهم إلى صعاب، من خلال الأفكار الصعبة التي تضيق بها الأماكن.
صحيح أنّ الأفكار -نظريّاً- لا أوطان لها، أو بمعنى أدق عابرة للأوطان، فهي تنمو وتبيت وتتحرك في الوعي العام والرأي العام، لكنّ الأمر لدى الإخوان المسلمين مرتبط بطموح الحكم، والحكم من مستلزماته الدولة التي تحتاج حتماً إلى أرض وشعب، لا إلى جمهور، وينكر الإخوان المسلمون ذلك، أو يحاولون التعبير عنه بأنّ الحكم ليس غاية بحد ذاته، وإنّما صناعة التغيير، وهذا لا يسنده واقع التجربة السياسية للإخوان.
أزمة الإخوان المسلمين الحقيقية (كقيادات تحديداً، وليس كأتباع، فهؤلاء على قاعدة التجرد والثبات والسمع والطاعة فقط) أنّهم تجاوزوا أوطانهم، واعتبروها مجرد كيانات قُطرية، فتجاوزتهم أوطانهم، وتجاوزتهم كل الأوطان، وأصبحوا في مواجهة مباشرة مع العراء، فأكل لهيب السياسة حضورهم وأحرق أوراقهم.
الحرية التي حاول الإخوان احتكارها في بلادهم، هم اليوم يطلبونها في بلاد الاغتراب، والعدالة التي أرادوها على مقاسهم فقط، هم اليوم يبحثون عنها في الأماكن التي لا تشبههم أبداً، والحقوق التي اعتبروها لا تليق إلّا بهم، رحلوا إليها مغلوبين لا غالبين ولا مغالبين حتى. وحين اعتبروا أنّ كل الطرق، غير طريقهم، خطأ ديني ويقيني، فقدوا اتجاه سيره، وخانتهم كل المسارات، وألقت بهم الطرق إلى أضيق المحطات.
هل تبدو تركيا اليوم محطة ضيقة؟ الإجابة: نعم، وواضحة لديهم أيضاً، فهذه الدولة التي تحمل طموحات كبرى على مستوى المنطقة والعالم، من السهل ومن المتوقع تماماً ألّا تغامر بأهدافها ومشروعها من أجل أشخاص لا تجد بأساً في وصفهم بأنّهم غرباء وهاربون، وإلّا ما معنى أنّها تمنع منابرهم وترفض منحهم الجنسية والإقامة أو لبعضهم، وتؤشر على بعضهم بالخروج ومغادرة البلاد؟ المهم هنا أنّ تركيا أردوغان، وبعد انتخابات قاسية وحادة، لا تتسع إلّا لمشروع واحد، وأيّ مشروع آخر، وإن تقاطع معها في بعض جوانبه أو تفاصيله في الأفكار والغايات، إلّا أنّه لا يمكن اعتباره بديلاً أو حتى خياراً من خياراتها.
التقارب التركي المصري، والتركي الخليجي، يعني في سردية الأزمة الإخوانية أنّ الأفق بات ضيقاً وضبابياً وغير مكشوف، ويوصل الخُطى المرتبكة أساساً إلى طريق مسدودة وإلى التخبط والتيه والعثرات. وفي قطر أيضاً لا يختلف الحال كثيراً عنه في تركيا، وإن بنسبة أقل، فالإخوان المسلمون لن يستطيعوا تكوين ثقة مطلقة بقدرتهم على الاحتفاظ بها كخيار مؤكد، لأنّ لقطر أيضاً خياراتها السياسية، وليس المنهجية فحسب، والتي تبدو قريبة من منهجية الإخوان شكلاً، لكنّ هذا ليس كافياً تماماً، ولا يوثق به، وقدرة قطر على الاستمرار في الاحتفاظ بهم ليست مطلقة، ليس خوفاً من المحيط، ولكن من أجل مصالح قطر وخياراتها كدولة.
رهان الإخوان اليوم ليس على الكيان والأفكار والموقف، بل على المكان، صحيح أنّ حضورهم في الأفكار مهم وقوي بالنسبة إليهم، لكنّ ذلك يبقى خياراً نظرياً لا يفي بالغرض، ولا يحقق الهدف ولا الغاية المرادة، فدولة النظرية الإخوانية لا ترضي تعطشهم للسلطة والنفوذ، في مجتمعات لا تصنعها ولا تحركها الأفكار، بقدر ما تحركها السلطة والقوة، وقد دخلوا من أجل السلطة في صراعات قاسية في مصر مثلاً، وحتى في الأردن، وبعد أن فقدوا وجودهم القانوني أصبحوا كالغرباء في أوطانهم، ومع ذلك مازالوا مندفعين في سياق السلطة، وراغبين بالاستمرار في المنافسة البرلمانية، كإحدى أشكال السلطة، وهم بالمناسبة إحدى خيارات الدولة سياسياً، ففي الوقت الذي تسحب من تحتهم الغطاء القانوني، تستبقي على فرص الاستثمار السياسي والديمقراطي بهم، وهم مدركون لذلك، بل ويشاركون في هذا التوظيف.
في أوروبا، الحال أيضاً أصبح لا يسرّ الإخوان المسلمين، بعد أن كانت فعلاً ملاذاً آمناً، ومصدراً من مصادر التمويل، فحصولهم على (80) مليون دولار في العقد الأخير غير سرّي، اليوم أوروبا في سياق إعادة إنتاج لعلاقاتها مع الإخوان المسلمين، التي فتحت ذراعيها لهم طيلة أعوام، ففي ألمانيا، وحسب تقرير نشره المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، كشفت الاستخبارات الألمانية في ولاية شمال الراين وستفاليا أكبر ولاية بألمانيا عن تزايد عدد قيادات جماعة الإخوان في ألمانيا، لتصل إلى (350) في بداية عام 2022. ويضيف التقرير: (لم يتم تصنيف الإخوان كمنظمة إرهابية، إلّا أنّ ما يتردد في الكواليس يوحي بتفكير جدي في اتخاذ هذه الخطوة على المستوى الأوروبي، والتقارير الرسمية الأوروبية بدأت تشير إلى أنّ الانتماء إلى الجماعة أو الارتباط بها “مؤشر محتمل على التطرف”.
الخطير في الأمر أنّ الإخوان كانوا يدركون أنّ ارتباطهم بأوروبا بروابط وثيقة هو من أجل استغلالهم كورقة سياسية في دول المنطقة والشرق الأوسط، واستغلال تأثير جماعة الإخوان المسلمين في الشرق الأوسط لشن حروب نفسية ودعائية، والحصول على المعلومات، وكذلك تكون ورقة ضغط يمكن تحريكها لتهديد الأمن الداخلي لدول المنطقة، وهذا ليس تحليلاً، فهو نتيجة دراسة للمركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب.
كل الأماكن مغلقة، فما الفرصة المتاحة؟ العمل والكيان السرّي، أم تصويب النهج وتعديل السلوك، أم النهاية؟ إذا كانوا هم مجدّدي هذه الأمّة للـ (100) عام التي رحلت، وفقاً للحديث الشريف الذي يقول: “إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كل (100) سنة من يجدد لها دينها”، فإنّ الأمّة، على مشارف الـ (100) عام القادمة، بانتظار مجدد آخر.
نقلاً عن حفريات