جاد الكريم الجباعي
كاتب سوري
ما من شك في أنّ الأزمنة القديمة والوسيطة عرفت كثيراً من المبتكرين والمبدعين، في مختلف مجالات المعرفة والعمل، من الآداب والفنون والعلوم إلى الصناعات والعمران، ولكن تلك الابتكارات والإبداعات كانت غالباً في خدمة أرباب اللاهوت وأرباب السياسة، وكانت المعرفة على وجه العموم والمعرفة العلمية على وجه الخصوص “عذراء” منذورة لأولئك وهؤلاء، بخلاف الظن أنّها كانت منذورة للدين. فلم يزدهر الدين ويتحرر من قبضة المتاجرين به والمعتاشين عليه والمتسلطين بسلطانه والمتمجدين بمجده إلا في الأزمنة الحديثة، التي يؤرخ لها بعضهم بنهاية الحروب الدينية في أوروبا بمعاهدة الصلح (1648)، ومنذ ذلك الحين بدأت القيم الإنسانية، التي ينطوي عليها الدين، تتحقق شيئاً فشيئاً، في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية، في المجتمعات المدنية الحديثة التي أخذت تنتقل إلى مجتمعات صناعية.
الأساس الذي نهض عليه هذا الازدهار الروحي هو اعتبار الطبيعة مصدراً وحيداً للمعرفة، واعتبار المجتمع مصدراً وحيداً للقيم، فتعرت السلطات اللاهوتية، وظهرت على حقيقتها الدنيوية، واستعاد الدين مكانته في الوجدان الفردي، وفي الحياة الأخلاقية للشعب، مع ظهور الفرد على مسرح التاريخ. فلم يعد المجتمع اللاهوتي هو الذي يهيمن على وجدان الفرد، ويسيطر على فكره وسلوكه، وكان للمواطنة المتساوية أثر حاسم في هذا التحول إلى ما يمكن تسميته علمانية روحانية مؤسسة على حرية الفرد وحقوق الإنسان.
المعرفة الدينية، في هذا السياق، وعلى هذا الأساس، هي نتاج التأمل الذاتي في نظام الكون ومعقولية العالم، ومحاولة للإجابة عن أسئلة تطرحها الحياة الإنسانية وشروط تحسينها، على الأفراد والجماعات، بغية تحفيز ما نميل إلى تسميته “ملكة التحسُّن الذاتي”، التي يمتاز بها الإنسان على سائر الكائنات الحية، والتي قوامها وحدة المعرفة والأخلاق أو وحدة العقل والأخلاق، والتي يسهم الدين في تحفيزها، بصفته “مكارم الأخلاق”.
روى عبد الله العروي، في كتابه “السنة والإصلاح”: أنّ هناك مؤسسة، أمريكية تعنى بترسيخ دعائم السلم بين الشعوب، وتشجيع التفاهم بين الثقافات، لديها قصر فسيح في جبال الألب الإيطالية، تستضيف فيه باحثين من مختلف الجنسيات والتخصصات، وتوفر جميع الوسائل التي تمكنهم من متابعة بحوثهم أياً كانت، وأنّه كان من بين المدعوين، فاقترح أن يقوم بتجربة ذهنية، وهي أن يذهب إلى ذلك القصر المنعزل ومعه كتاب واحد، يعكف على تأمله طوال ستة أشهر مستغنياً عن كل الوسائط من شراح ومفسرين ومؤولين، حتى يعرف بالضبظ ماذا يبعث ذلك الكتاب في نفسه هو، في وضعيته الحالية (آنذاك)، في سنه الحالية (آنذاك)، بثقافته والتجربة التي مر بها. والكتاب الذي اقترحه كان “الكتاب العزيز” .
اللافت في رواية العروي، وهو أحد العقول المميزة في العالم العربي، ومن أبرز رواد العقلانية في الثقافة العربية المعاصرة، عدة أمور، قلما يتوقف عندها الباحثون والكتاب، ويجتهد في إخفائها الدعاة والفقهاء والمفسرون والمؤولون وسائر أفراد “المجتمع اللاهوتي”، الذي يكاد يغطي الفضاء الاجتماعي، في العالم العربي.
أول هذه الأمور أنّ المعرفة الدينية معرفة تأملية، أي معرفة مباشرة (غير موسَّطة، كما يقول الفلاسفة)، موضوعها يحضر في الذهن كلما استدعته ظاهرة أو حدث أو خبر، وكلما نشبت ضائقة، ومست الحاجة إلى عون أو غوث، وتحاول أن تجيب عن أسئلة وجودية حول الكون والعالم والقدر والمصير، أو حول الخير والشر، وهذا مما يربط المعرفة الدينية بالفلسفة. وربما كان الفارق الرئيس بين إجابات المعرفة الدينية والمعرفة الفلسفية، أنّ الأولى يقينية، لا تقبل الشك أو النقض أو المراجعة، لأنها لا تُراجَع إلا على ذاتها، وما أن تُراجَع على غير ذاتها حتى تتضعضع أو تنهدم. والثانية على خلاف ذلك، تقبل الشك والنقض والمراجعة على غير ذاتها.
والأمر الثاني هو أنّ المعرفة التي يطمئن إليها العقل، عقل الفرد، وعقل الجماعة، إذا كان ثمة عقل جمعي، والتي تستريح لها النفس، وتهدِّئ الشكوك والظنون، إن لم تطردها، هي المعرفة الشخصية المتجددة باطراد، أي المعرفة التي يحصلها الفرد بنفسه أو بنفسها، إما من خلال التجربة والتفكير الحر، وإما من خلال التأمل الذاتي، أي حين يفكر الفرد (الذكر والأنثى) بعقله هو، ولا ينقاد لغيره أيَّ نوع من الانقياد، ولا يقبل وصاية أحد على عقله وضميره كائناً من كان هذا الأحد وكائنة ما كانت منزلته.
والأمر الثالث أنّ الإيمان الذي يأتي من طريق الدعوة والوعظ والنصيحة والإرشاد، ومن طريق التعليم أيضاً إيمان هش، بل هو إيمان زائف لشخص زائف، شخص ليس هو نفسه، بل هو ظل لشخص آخر، شخص لا يستطيع أن يختار نفسه، فلا يستطيع أن يكون ذاتاً حرة ومستقلة، بل هو موضوع لسلطة مادية أو معنوية، ووسيلة للمتسلطين وأداة من أدواتهم؛ ناهيكم عن “إيمان العادة”، الذي تفرضه “السلطة الناعمة”، بتعبير بيير بوردو، على الأفراد منذ نعومة أظفارهم وأظفارهن، ولا تخلو ممارسة هذه السلطة، التي تمارسها الأسرة والمدرسة والمؤسسة من قسر مادي وعنف رمزي. هذا ما يتأسس عليه التوجه الإنساني القاضي بعدم إدراج العقائد الدينية في التربية وفي مناهج التعليم الأساسي وبرامجه وكتبه، لكي يكون الإيمان اختياراً فردياً حراً.
الإيمان الذي لا يحصله الفرد بعقله هو وتأمله هو وتفكيره هو، يشبه إيمان من قالوا: “إنا وجدنا آباءنا على ملة (وفي رواية، على أمَّة) وإنا على آثارهم مهتدون”، أو إيمان من قالوا: بل “… وجدنا آباءنا كذلك يفعلون”، خاصة بعد أن تحول الدين إلى مؤسسة دنيوية، يقوم عليها من سميناهم “المجتمع اللاهوتي”، (وهو المقابل الإسلامي للربانيين والأحبار، عند اليهود، والإكليروس عند المسيحيين، ويشمل من يسمون أنفسهم، أو يسمَوْن، مفكرين إسلاميين). هذا المجتمع يفرض كل واحد من أفراده تأويله للنصوص والآثار والأحداث، بحسب السلطة التي يخدمها.
المعرفة الشخصية، التي يحصلها الفرد بنفسه، وتحصلها الفرد بنفسها، لا يمكن أن ينفصل فيها العقل عن الآخلاق، لأن الفرد الإنساني كائن كلي، لا تمكن تجزئته وتشطيره، لذلك لا نرى سبيلاً إلى تصالح العقل والإيمان إلا سبيل المعرفة الشخصية، واستقلال الوجدان وحرية الضمير. وليذهب اللاهوت والمجتمع اللاهوتي إلى حيثما يشاء.
نقلاً عن حفريات