عبدالحق الصنايبي
كاتب مغربي
دفعت أحداث “الربيع العربي”، التي مرت منها بعض الدول العربية، مجموع الأفراد المكونة للجماهير للانخراط في هذه الموجة بكل عفوية، مرددين شعارات هي أقرب إلى معتقدات العرق والدين وبالتالي لم يكن مفاجئاً رفع شعارات إسلامية تتماشى والشخصية الأساسية للمجتمعات الإسلامية.
غير أنّ الجماهير العفوية، غالباً ما يتم السطو عليها من طرف تيارات سياسية أو دينية من أجل الركوب على أشكالها النضالية وتوجيهها وفق أجندات خاصة، اتضح لاحقاً، أنّها لم تكن هي الأرضية الأساسية لخروج الجماهير؛ لأن شعارات الجماهير، لم تكن تتحدث عن العلمانية أو الإسلاموية أو شيء من هذا القبيل، وإنما كانت تطالب بالحرية والكرامة والتشغيل.
وكما يقول فرويد، فإنّ الفَرْد “ما إن ينخرط في جمهور محدد حتى يتخذ سمات خاصة ما كانت موجودة فيه سابقاً.
أو قل إنّها كانت موجودة ولكنه لم يكن يجرؤ على البوح بها أو التعبير عنها بمثل هذه الصراحة والقوة”. من هنا عملت جماعة الإخوان المسلمين على استغلال خروج الجماهير والتلاقي الإيديولوجي والديني مع توجهاتها العقدية، من أجل وضع إستراتيجية محكمة للسطو على ثمرات “ربيع الشعوب”.
فمنذ تأسيس الجماعة سنة 1928م، حرص التنظيم على استغلال حركية الجماهير ومحاولة الركوب على مطالبها وفق أجنداتها السياسية، مستغلة في ذلك الجماهير المشحونة غالباً بمجموعة من الانفعالات الوطنية والمكرسة بواسطة العقائد الإيمانية القوية؛ حيث غالباً ما تكون تعبيراتها الحركية بعيدة كل البعد عن التفكير العقلاني والمنطقي.
لقد اتضح أنّ وصول جماعات الإسلام السياسي إلى الحكم في كل من مصر وتونس، ونسبياً في المغرب، كشف عن غياب الرؤية الإستراتيجية للحكم يمكن أن تعكسه البرامج الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، بالإضافة إلى غياب أي تصور للنظام الذي يمكن أن يحكم العلاقات الدولية، وفق علاقات قوى متوافق عليها بين دول وطنية ذات سيادة معترف بها، ليظهر جلياً أنّ الوصول إلى السلطة أو ما يصطلح عليه في الأدبيات الإخوانية بمرحلة “السيطرة التمكين” هي الغاية الوحيدة في حد ذاتها وليست وسيلة.
وعلى الرغم من أنّ إستراتيجية تنظيمات الإسلام السياسي، ممثلة أساساً في جماعة الإخوان المسلمين، تضع ضمن أهدافها السياسية (أو “الغاية الكبرى”)، توحيد التنظيمات الإخوانية المنضوية تحت لواء التنظيم الدولي للإخوان للوصول إلى ما أطلق عليه البنّا بـ”أستاذية العالم”، إلا أنّ الحيثيات البنيوية والوظيفية لم تتطرق لها الأدبيات الإخوانية، الشيء الذي دفع التنظيم على لسان منظّره يوسف القرضاوي إلى الحديث عن أنماط الاتحادات اللامركزية كالاتحادات الفيدرالية والكونفدرالية والتي يمكن أن تُشكّل مشروع بنية تجتمع حولها التنظيمات الإخوانية في العالم بعد الوصول إلى السلطة على مستوى كل قُطر على حدة.
إنّ وصول جماعات الإسلام السياسي إلى تدبير أمور الحكم والسلطة، سيكون بمثابة الإعلان الرسمي على بداية سقوط عقيدة “الخلافة”، لمجموعة من الاعتبارات الذاتية والموضوعية يمكن إجمالها في نقطتين رئيسيتين:
ــ النقطة الأولى مرتبطة بـ”تفطّن” جميع الأنظمة التي لم يصل فيها الإخوان إلى السلطة، لحقيقة المشروع “الإخواني” وتكتيكاته “الحربائية” للوصول إلى الحكم عن طريق ربطه لمجموعة من التحالفات المرحلية مع السلطة السياسية يُطلِق عليها التنظيم “لعبة المصالح المشتركة مع الطاغوت”، في أفق عزل القوى السياسية والانفراد برأس السلطة في أفق تحييده والقضاء عليه، كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية (نسبياً) والتي تبنت التعددية الحزبية ومبادئ اللعبة الديمقراطية، في مقابل نهج سياسة الانتشار الجماهيري “البطيء” والاختراق المؤسساتي قصد التحكم في جميع مفاصل الدولة وبالتالي الانفراد بالقرار السيادي للدولة، كما هو الشأن في بعض دول الخليج، دون إغفال المغرب الذي ينهج فيه التنظيم الإخواني، نصّاً، نفس تكتيكات السيطرة على مفاصل الدول الحيوية والقطاعات الاستراتيجية.
ــ النقطة الثانية مرتبطة بفشل المشروع الإخواني في تقديم أجوبة وحلول واقعية للمشاكل اليومية للمواطن العربي، حيث ظهر بالملموس أنّ تنظيمات الإسلام السياسي، فوجئت بسرعة تطور الأحداث في وقت لم تكن مستعدة فيه لتحمل أعباء الحكم، فسقطت في مأزق “جاذبية الكرسي”، في ظل غياب رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية قادرة على تقديم برامج واقعية وملموسة للمواطن العربي الذي راهنت شريحة عريضة منه على المشروع الإسلامي، بعدما ألهبها شعار “الإسلام هو الحل”.
وفي الوقت التي طال فيه انتظار الشعوب “للمعجزة” و”البشرى” التي وعدتهم بها جماعة الإخوان، غابت الرؤيا وانجلت الحقيقة حول حقيقة المشروع الإخواني الذي حاول الاستمرار في استراتيجية الضبط الاجتماعي عبر الاستمرار في العزف على نفس الأسطوانة الكلاسيكية، من خلال دغدغة العواطف الجماعية بنفس الأطروحات الدينية من قبيل، “الصبر” و”التفضيل في الأرزاق” و”طاعة أولي الأمر في المنشط والمكره” و”الفتنة”، وغيرها من المبررات التي استقتها جماعات الإسلام السياسي من القاموس الديني للاستمرار في تخدير وتسكين الشعوب التي راهنت عليها.
وعلى مستوى البيئة الإستراتيجية المغربية، نهجت الجماعة تنظيم الإسلام السياسي، ممثلاً في حزب “العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح” الإخوانية، نفس التكتيك في تدبير الصراع مع المؤسسة الملكية وباقي التنظيمات السياسية، حيث ظل الهدف، غير المعلن، محاولة الاستحواذ على السلطة وعزل المؤسسة الملكية في علاقتها مع باقي القوى السياسية في أفق توجيهها وفق ما تقتضيه رؤيتها ورؤية التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، مستغلين في ذلك الوضع الديني للملك بصفته أميراً للمؤمنين، وهو أولى بتطبيع الشريعة والبلوغ بمقاصدها وتنزيلها. وتعتبر هذه مرحلة حاسمة لإحكام قبضتهم على المؤسسة الملكية، في أفق الانفراد بها والقضاء عليها بدعوى فشلها في إقامة شرع الله وتطبيق الشريعة الإسلامية عقيدة وتشريعا.
إن وصول تيار الإسلام السياسي للحكم في كل من مصر وتونس، وحتى ما يقع في ليبيا، جعلت صاحب القرار السياسي بالمغرب يقف على حقيقة المشروع الإخواني بالمنطقة والذي ينضبط لإستراتيجية الجماعة الأم التي كانت القاهرة، إلى وقت قريب، عاصمتها الروحية، ليغير تكتيك التعامل مع هذا التنظيم، ولو بصورة هادئة وتدابير ناعمة، في أفق إخضاعه لمنطق الدولة ولواقع اللعبة السياسية وموازين القوى التي تنضبط لها جميع القوى السياسية والأجهزة السيادية بالمغرب.
إجمالاً، يمكن القول، إنّه من خلال متابعتنا للظاهرة الإسلامية الحركية، فقد خلُصنا إلى أن تراجع هذا المشروع مرتبط بسياقين اثنين: يرتبط السياق الأول بمرحلة ما قبل وصول هذا التيار إلى السلطة؛ حيث إنّ كشف الأنظمة السياسية لحقيقة المشروع الإخواني والتحول لمواجهته المادية، غالباً ما يعجّل بانهيار واستئصال التنظيم أو الخضوع المرحلي لمنطق الدولة وفق التوجيه الذي يفرضه صاحب القرار.
في حين يرتبط السياق الثاني بمرحلة ما بعد الوصول إلى السلطة، حيث إنّ سقوط مشروع الإسلام السياسي مرتبط بغياب الرؤية الشمولية للحكم والتي من شأنها تقديم أجوبة عملية لانتظارات الشعوب التي راهنت على المشروع “الإسلامي” من أجل تحسين واقعها الاجتماعي والاقتصادي والمعاشي وبالتالي أصبحت هي أول من يطالب برأس التنظيمات الإخوانية والسعي الحثيث لإسقاط من كان إلى وقت قريب، ولي الأمر الشرعي للمسلمين.
لقد برزت الجماهير، بعد “الربيع العربي”، بقوة على وجه المسرح السياسي وأصبح الشعب يرى نفسه المصدر الوحيد والأخير للسيادة، وأضحى تجييش الشارع وتعبئة الناس في مسيرات حاشدة وسيلة للتدافع السياسي خارج الأطر التقليدية التي كانت على علاتها تشكل ساحة التعارك السياسي “الآمن” بين الفرقاء. هذا التجييش، وإن كان قد نجح على مستوى تهيئة الشروط الذاتية للوصول إلى السلطة، فإنّه فشل في طرح البديل المجتمعي مما عجل بتراجع المشروع.
باحث مغربي متخصص في الحركات الإسلامية
نقلاً عن حفريات