سامح إسماعيل
كاتب مصري
يمكن القول إنّ العقل المحدود بأطر أيديولوجيّة ترتدي مسوح الجماعة الربانيّة، يفشل في كل مرة يحاول فيها المناورة، أو الإتيان بالبراهين على صدق مقولات بديلة عن السردية المركزية، التي تحكمه منذ لحظة التأسيس، والتي يزعم فيها براءته من دعوات الإقصاء، وقدرته على تقديم خطاب إنساني يقوم على التسامح، ونبذ العنف والتكفير.
وكثيراً ما يحيل الإخوان المسلمون إلى كتاب المرشد الثاني حسن الهضيبي: “دعاة لا قضاة”؛ باعتباره (مانفيستو) التسامح المطلق، وإفادة البراءة من ممارسة العنف، رغم قسوة الظروف التي كتب فيها، إبان كربلائية العصر الناصري، وبالتحديد في العام 1968.
“دعاة لا قضاة”، هكذا جاء عنوان الكتاب، ليحمل دلالة ثنائيّة تستدعي جملة من الأفكار الأصولية، المغلفة بخطاب يبدو مثاليّاً من الناحية الشكلانيّة، لكنه يفصح بنيويّاً عن كل عناصر السرديّة الأولى التي وضعها المؤسس حسن البنا، في سياق مجموعة من العلاقات المتشابكة، التي يتراجع فيها ما هو ديني لصالح ما هو سياسي؛ حيث ينتقي المرشد الراحل مجموعة من القيم الدينيّة المتشددة، ويضفرها في بنية جديدة لا تنفصل عن الأصل، وإن حاولت تخفيف وطأته، لتصنع مسارات سياسية متعالية، يظهر فيها الارتباك الحاد في العلاقة بين (الذات) المتشبعة بخطاب الكراهية، و(الموضوع) المراد له إظهار قيمة التسامح.
التكفير المستتر
في ارتباك ربما يفصح عن حالة من العجز الواضح عن تجاوز إشكالية المحنة، وما ترتب عليها من انحسار للخطاب المركزي للإخوان، وما نتج عن ذلك من فراغ أدى إلى محاولة إنتاج خطاب بديل، يبتعد عن المواجهة قدر الإمكان، تبدأ مناورة الهضيبي بوضع ضبط جديد لمفهوم التكفير، والذي كان رائجاً بين أروقة الجماعة آنذاك، لوصم كل مخالف لهم، مستبدلاً إياه بمفاهيم أخرى؛ كالفسق والعصيان والنفاق، وهي وإن كانت أخف وطأة، لكنها تحمل في سياقها الشعبوي كلّ حمولات التكفير.
ونظراً إلى محدوديّة ما يمكن أن يذهب إليه خطاب التسامح عند الهضيبي، نجده يستشهد بالحديث التالي المنسوب إلى النبي، صلى الله عليه وسلّم: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أنّ لا إله إلا الله ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله”، كدليل على عدم جواز تكفير من نطق لسانه بالشهادتين.
من الواضح أنّ الهضيبي باستشهاده بهذا الحديث الذي أسقطه الإمام مالك من “الموطأ”، رغم أنّه من رواية شيخه الزهري، يتجاوز عن تاريخانية الرواية، والسياق الذي ظهرت فيه، إن صحت نسبتها إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، مدللاً ربما عن قصد، على طبيعة فهم الإخوان للعلاقة مع الآخر في إطار مفهوم التعالي بالدين، وأحقية الفرقة الناجية في تحقيق السيادة، واضعاً أسيجة حول مفهوم التسامح، فهو تسامح (بينيّي) يتم في إطار الجماعة المُسلمة وحدها، والتي تشكل دائرة مركزها جماعة الإخوان، وأطرافها كل من نطق بالشهادتيّن، وهو ما يتفق مع توصيف البنا في وصيته بأنّ الإخوان: “روح جديدة تسري في قلب الأمة، فتحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داوٍ يعلو مردداً دعوة الرسول”.
والهضيبي، حين يقتطع بعض الروايات المتشددة من سياقها، يحافظ على بنية العنف في الخطاب الإخواني ، كيلا ينفرط عقد مفاهيم أخرى كالغزو والجهاد، وهو يحاول تقديم سرديّته الجديدة، فهو يجري مناورة مكشوفة ما بين المركزي والهامشي، لخلق بديل مفاهيمي، يُمارس من خلاله الإقصاء والعنف، وهو ما يرسخ المقولات المركزية التأسيسيّة؛ حيث لا يخلق سرديّة بديلة، بقدر ما يضع قواعد جديدة شكلاً، ومتماثلة مع الطرح الأول موضوعاً.
وعليه؛ فإنّ الهضيبي يخضع الخطاب الأصولي بانتهازية ملحوظة، لضبط مفاهيمي دائري، فهو لا يرفض التكفير، وإنما يمضي ليضع شروطاً له؛ حيث يرسم مداراً مطاطاً، يضم إليه في النهاية كلّ الخارجين عن المنظومة الأصولية، ليظل تحقق الكفر رهناً بتعمد الخطأ من عدمه، وفق قاعدة معيارية قروسيطية، استدعت الجماعة أكثر عناصرها تطرفاً.
الدعوة في خدمة السياسة
يقول حسن البنا في الرسائل: “إذا قيل لكم: إلامَ تدعون؟ فقولوا: ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد، والحكومة جزء منه، فإذا قيل لكم: هذه سياسة، فقولوا: هذا هو الإسلام، وإذا قيل لكم أنتم دعاة ثورة، فقولوا: نحن دعاة حق وسلام نعتقده ونعتز به، فإن ثرتم علينا ووقفتم في طريق دعوتنا، فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا وكنتم الثائرين الظالمين….”.
وعلى المنوال نفسه؛ ينطلق الهضيبي ليؤكد على مفهوم الحاكمية، في ثوب يبدو أكثر التصاقاً بمفهوم (التقية)، مؤكداً أنّ الثبات والعمل على إعلاء كلمة الحق، والجهر بها والتمكين لها، ودفع المظالم وردّ البغي والعدوان، هي أعظم الأعمال، لكنه يجعل الأولوية لمفهوم الصبر، حتى تزول المحنة، ويتحقق التمكين.
والهضيبي، حين يعارض تأويل البعض لمقولات المودودي؛ باستحالة أن يأذن الله تعالى للناس أن يضعوا لأنفسهم بعض التنظيمات والتشريعات، التي تنظم جانباً من شؤون حياتهم، فإنّه لا يغادر دوائر التراث النصية؛ فهو حين يمضي مؤكداً أنّ للمسلمين أن يسنّوا ما تقتضيه الحاجة، فإنّه يجعل ذلك شريطة أن يقع تحت باب المباحات، وفيه ينبغي القياس، والإحالة على التراث الفقهي في كل الأمور المستجدة، وهنا لا مجال للاجتهاد مع النص، أو تتبع مساراته وحركته في التاريخ.
والكتاب في طرحه، يعبر عن صورة ممثلة للسرديّة الإخوانية الأولى، وهي سرديّة تحتل فيها الجماعة النورانية، على حدّ توصيف البنا، بؤرة الأحداث، وما عداها جاهلية أخذت وجهها المعلن مع سيد قطب، قبل أن يحاول الهضيبي إعادة بلورتها من حيث (الموضوع)، وإن ظلّت (ذات) الجماعة المفارقة هي العامل الأكثر فاعليّة، على مدار الصفحات التي أعادت اجترار المقولات الأولى بامتياز.
نقلاً عن حفريات