كريم محمد
كاتب ومترجم مصري
لعلّ من أسوأ الثنائيات التي اغتالت التيّارات العربيّة، إسلاميّة وعلمانيّة، هي ثنائيّة النّظر والعمل. ليس لأنّ الثنائيّة زائفة من أساسها، ولكن لأنّها أنتجت تشوّهاً على المستويين لا يمكن ردمه. فمَن يفصل من الإسلاميين -وهم الذين سأركّز عليهم في المقال- بين النّظر والعمل، هو يفعل ذلك ليس لصالح النّظر، إنّما لصالح العمل بالأساس، ومَن ينظر إلى “عمل” الإسلاميين السياسيّ يشهد كمّ الاضطراب والتسرّع وعدم إنزال الأمور منزلتها التي تستحقّ، وبالنّهاية نجد أنّ عملهم مشوش وغير واضح. ويحلو لهم أن يلقوا كلماتٍ لا معنى لها على مَن ينشغلون بالهمّ الفكريّ والأسئلة النّظريّة عن “الدّولة” و”الشريعة” و”القانون”، إلخ؛ مدّعين أنّ ذلك ما هو إلّا ترف فكريّ. إذن، وحسب الإسلاميين، فعلينا أن نكثر من العمل، وأن نبتعد عن النّظر، أو، على الأقلّ، أن نُحجم النّظر لحدوده.
ولأنّ الثورات عموماً هي عمليّة مساءلة دائمة للنّخب الفكريّة وما تطرحه من أجنداتٍ أيديولوجيّة، أخرج الرّبيع العربيّ سؤال الدّولة إلى السّطح، ويمكن القول إنّ سؤال الدّولة هو سؤال المسلمين خروج الاستعمار. وفي الواقع، كانت النّخبة الإسلاميّة، في مصر مثلاً، لا تملك أفقاً نظريّاً ولا موقفاً فكريّاً من موضوعة الدّولة، وتعاملوا مع السّؤال -كعادتهم- من منطلق براجماتيّ محض، وليس على أساسٍ فكريّ فلسفيّ يفهم مفهوم الدّولة التي نعيش تحت سقفها.
كان أكبر خلطٍ لدى الإسلاميين بالتّحديد هو تصوّر أنّ الدّولة هي كيان يعتمد على الأفراد، وليس كياناً يُبنى تاريخيًّا على أسسٍ معيّنة، ويشكّل هذا الكيان الرأسمال الماديّ كما الرأسمال الرّمزيّ الذي يمدّ هذا الكيان بالشرعيّة حتى ولو كان مستبدًّا. ظنّ الإسلاميّون أنّ الأمر كلّه هو أمر أفرادٍ يحلّون محلّ أفرادٍ آخرين، بحيث تحلّ النخبة الإخوانيّة محلّ النخبة المباركيّة، وبهذا سيصلح الحال وتستقيم الدّولة. وهذا تصوّر، إن دلّ فإنّما يدلّ على أنّ الإسلاميين المصريين مثلاً لم يكن لديهم مفهوم للدّولة، فضلاً عن معرفة طبيعة الدّولة المصريّة منذ محمّد علي مروراً بعبد النّاصر والتحوّل السّاداتيّ في أيديولوجيّتها. ولعلّ نظرتهم للدّولة من هذا المنطلق البراجماتيّ غير الواعي نابعة من الطّابع التلفيقيّ الذي يشكّل أفق تفكيرهم. ويحتاج أمر التلفيق لبيانٍ ولأثره على مخيالهم النظريّ والعمليّ، فدعونا ننظر فيه قليلاً.
يمكن القول إنّ الإسلاميين، بما أنّهم جماعات إصلاحيّة، هم ورثاء بشكل أساسيّ لتلفيقيّة عصر النّهضة العربيّة، فهم ليسوا حقبةً جديدة على المستوى الفكريّ -وإن اختلفوا بالطّبع على المستوى السياسيّ-، إنّما يجسّدون الأزمة ذاتها: الانشطار بين “الإسلاميّ” و”الحديث”، ويتعاملون مع “الحديث” بوصفه وسيلةً يمكن أن يُملأ بالإسلاميّ عن طريق نخبة “خيّرة” تحلّ محل النخبة الفاسدة. لذلك، فرؤيتهم للدّولة هي رؤية نابعة من هذا التلفيق نفسه؛ لأنّ الدّولة لديهم هي وسيلة للأيديولوجيا، وليست كياناً قائماً له أيديولوجيّته الكامنة فيه، وله نظرة إلى العالَم، ويفترضُ ذواتاً معيّنين، ويعيد إنتاجهم.
حاول المفكّر وائل حلاق، في كتابه: “الدّولة المستحيلة”، أن يُنبّه على هذه الإشكالات والمفارقات المتعلّقة بالسؤال الدولة إسلاميًّا. سعى حلّاق لتبيان أنّ الدولة هي كيان يقوم على مقوماتٍ خمس حصرها في: الطبيعة التاريخيّة للدولة، وامتلاك السيادة وميتافيزيقا السيادة، والقيام بعملية التشريع والقانون والعنف، وامتلاكها لجهازٍ بيروقراطيّ عقلانيّ، وهيمنتها الثقافيّة أو تسييسها للثقافي. وقد فهمَ المعلّقون على الكتاب أنّ حلاق يقول باستحالة الدّولة الإسلاميّة، في حين أنّ الدّرس الأهمّ للكتاب هو إعادة النّظر والتفكير في مفهوم الدّولة من حيث هو مفهوم أساسيّ ومرتكز في الفلسفة السياسيّة الحديثة، وقصور الإسلاميين -الداعين إلى دولة “حديثة” و”إسلاميّة-. وهذا التشوّش المفهوميّ لدى الإسلاميين، بل ابتعادهم عن “النظريّ” لأجل “العمليّ” المتوهّم هو ما يُنتج كلّ هذه السياسات البراجماتيّة الظرفيّة التي تُنتَج عفويًّا دون أيّ أبعاد نظريّة تُبنى عليها.
يقول حلّاق مبيّناً طبيعة تصوّر الخطابات الإسلاميّة للدولة بكلام مهمّ: “تفترضُ الخطابات الإسلاميّة الحديثة أنّ الدولة الحديثة أداة حكمٍ محايدة، يمكن استخدامها في تنفيذ وظائف معيّنة طبقاً لخيارات قادتها وقرارتهم. كما تفترض أنّ بمقدور القادة أن يحوّلوا آلة حكم الدّولة، حين لا تُستخدَم للقمع، إلى ممثّل لإرادة الشعب، محدّدين بذلك ما ستكون عليه الدّولة […] هكذا، تنظرُ الخطابات الإسلاميّة إلى الدولة الحديثة كما نظر أرسطو والأرسطيّون إلى المنطق، أي كتقنية محايدة أو كأداة توجّه التفكير السليم في ما يخصّ أي موضوع أو مشكلةٍ في العالم”. (حلّاق، الدولة المستحيلة، 275-276). وهذا يشهد له فعلاً الممارسة السياسيّة لدى الإسلاميين، حيث ينظرون إلى الدولة كوعاء للأيديولوجيا، وأن الدولة يُمكن استخدامها في أيّة أهداف، فإذا حصلوا على الدّولة سيملأونها بالأيديولوجيّة الإسلاميّة التي يتبنّونها.
ويترتّب على هذه النّظرة عند الإسلاميين، وهي من الإرث الإصلاحيّ الفاسد لديهم، تفريقهم الدّائم بين الوسائل والفلسفات (الغايات) الكامنة داخل المفاهيم الحديثة؛ فتغدو الدّولة آلية وفلسفة، وتغدو الدّولة شكلاً، ويغدو الاقتصاد من مفهوم جوهريّ يشدّ بنية النظام العالميّ إلى إنتاج عمليّات مصرفيّة بأسماء جديدة لا أكثر. هذه الثنائية الإصلاحيّة الفاسدة بين الوسيلة والفلسفة هي ما تُنتج هذه الخطابات المشوّهة لدى الإسلاميين، الخطابات الإصلاحيّة التي تنطوي على توفيقيّات معطوبة، ولا تستطيع أن تبلور لنفسها خطاباً عن “الشّرط الحديث”، إنّما تُدمج ضمن تصوّرات إصلاحيّة انشطاريّة لا أكثر.
وتُلاحظ الدكتورة هبة رؤوف عزت في كتابها “الخيال السياسيّ للإسلاميين” بعد تحليلها المهمّ لكتابات الإسلاميين في أواخر التسعينيّات ومطلع الألفيّة في المجلة المسمّاة “المنار الجديد” -وهو اسم يتقاطع مع مجلّة “المنار” القديمة لمحمد رشيد رضا، مما يضمر امتداداً إصلاحيّاً بوعيٍ أو بغير وعيٍ-، أنّه: “لا يجد القارئ كلاماً “في” نظريّة الدولة وضرورة مراجعة مركزيّتها لدى الحركة الإسلاميّة في تطويرها رؤاها وخطابها…” (هبة، الخيال السياسيّ، ص.55).
إنّ السؤال اليوم عن فكر سياسيّ لدى الإسلاميين سؤال أساسيّ ومهم، وربّما التلفيقيّة الإصلاحيّة الواقعون هم فيها هي السبب في أن ينتجوا هذه الخطابات المشوهة وهذا التشوّش المفاهيميّ عن الدولة والديمقراطيّة والحكم. وبلغةٍ أخرى، لن يفلح الإسلاميون بخطاب إصلاحيّ مُلبرل عن الذات والدين والدولة، فالناتج عن ذلك هو الديباجات الليبراليّة المؤطّرة برؤى إسلاميّة دون معنى. وبذلك، سيكون الخطاب وقتيًّا وظرفيّاً؛ لأنّه محكوم بما يستجدّ لا بشاغلٍ نظريّ حقيقيّ.
إذا كان الإسلاميّون فقد سفّهوا من سؤال “النظر” من أجل سؤال “العمل”، واعتمدوا على نظرات إصلاحيّة غير راديكاليّة نظريّاً وعمليّاً؛ فإنّ سؤال النّظر والنظريّة ينبغي أن يعاد إلى مكانته التي يستحقّها، فـ”عملهم” سيظلّ مشوشاً ما لم يكن له من دعامة نظريّة، كما علّمتنا النظريّة ومن قبل النظريّة الواقع الذي نحياه، والذي يؤكّد ذلك.
نقلاً عن حفريات