سامح إسماعيل
كاتب مصري
في العام 2024 تحل ذكرى مرور (100) عام على تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني، والذي كان نقطة تحول على صعيد العمل السياسي، حيث قام مجموعة من الماركسيين الرواد في سوريا ولبنان؛ وبفضل التراكم المعرفي والحركي لديهم، بالإضافة إلى أجواء انتصار الثورة البلشفية في روسيا، بوضع حجر الأساس لأول كيان شيوعي في بلاد الشام.
في يوم الجمعة 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1924 تأسّس حزب الشعب، الشيوعي فيما بعد، في اجتماع عقده عدد من المثقفين والعمال في بلدة الحدث، بضواحي بيروت الجنوبية. وارتبطت نشأة الحزب بنمو الطبقة العاملة في لبنان، والتي انتظمت في نقابات عمالية مهنية، ضمّت أرباب العمل والعمال، ومجموعة من المثقفين من ذوي الميول الماركسية.
سبقت تأسيس الحزب محاولات لإنشاء كيان ماركسي، أبرزها محاولة المفكر اللبناني خير الله خير الله تأسيس حزب باسم “الحزب الاشتراكي- الفرع العربي من الأممية العمالية”، في العام 1919؛ بهدف تنظيم البروليتاريا في حزب واحد، من أجل الوصول إلى السلطة، وتحويل المجتمع الرأسمالي إلى مجتمع جماعي أو شيوعي. كما كانت هناك محاولة أخرى قام بها فؤاد الشمالي؛ لتكوين تنظيم عمالي لبناني بمدينة الإسكندرية في مصر، تحت اسم “حزب العمال اللبناني”.
فؤاد الشمالي رائد الاشتراكية
لعب فؤاد الشمالي دوراً بارزاً بين صفوف اليساريين في مصر، وكان عضواً قيادياً في الاتحاد المصري للعمال، وقد شارك مع رفيق جبور، وأنطون مارون، وسلامة موسى، وحسني العرابي، في تأسيس الحزب الاشتراكي المصري في العام 1921، إلّا أنّ الحزب سرعان ما انقسم على نفسه، قبل أن تقوم السلطات بطرد الشمالي من مصر، بعد أن كررت تحذيره من ممارسة أيّ نشاط سياسي، ليعود إلى لبنان، حيث انخرط على الفور ضمن صفوف الحركة العمالية في بلدة بكفيا الجبلية، وهناك قام بتأسيس نقابة عمال الدخان 1924، بصحبة فريد طعمة وبطرس حشيمة.
ويُعدّ الحزب الشيوعي أقدم كيان سياسي ماركسي في لبنان، ضمّ جملة من أبناء الطوائف والأقليات العرقية، خاصّة الأرمن، ويعود الفضل في تأسيس الحزب، إلى جانب الشمالي، ليوسف يزبك، وكان يزبك منخرطاً ضمن شريحة المثقفين الشباب من أبناء الطبقة الوسطى، ذوي الميول الاشتراكية. ومن جهته تمكن الشمالي من تجنيد مجموعة من أبناء الطبقة العاملة، وأقام شبكة من العلاقات مع العاملين في المصانع، والنقابات الحرفية، والمطابع، والمطاعم، في جبل لبنان وضواحي بيروت. وانتظمت كل هذه المجموعات بترتيب من يزبك والشمالي، ضمن بنية الحزب الشيوعي اللبناني في العام 1924، والذي ظهر تحت اسم حزب الشعب اللبناني. وكان الهدف من التسمية هو التمويه على سلطات الانتداب؛ بهدف الحصول على ترخيص.
حضر الاجتماع التأسيسي للحزب (10) أشخاص، بحسب رواية محمد دكروب، وبعد المناقشات وافق (4) منهم على تأسيس حزب شيوعي، وهم: يوسف إبراهيم يزبك، فؤاد الشمالي، فريد طعمة، إلياس قشعمي، ثم انضم إليهم بعد أيام بطرس حشيمة، وانتخب يوسف يزبك في هذا الاجتماع سكرتيراً للحزب.
الاجتماع الأول
في 9 كانون الأول (ديسمبر) 1925 انعقد الكونفرانس الأول لحزب الشعب اللبناني في بيروت، بحضور (15) مندوباً من منظمات الحزب في: بيروت، بكفيا، زحلة، حلب. واعتمد الحزب برنامجه السياسي، الذي انطلق من مركزية قضية التحرر الوطني، وقام على عدة نقاط هي:
– دعم الثورة السورية.
– النضال ضدّ الإمبريالية.
– العمل على تحقيق الاستقلال الوطني والديمقراطية.
– النضال في سبيل المطالب العمالية.
– إعادة تشكيل اللجنة المركزية للحزب.
جدير بالذكر أنّ الحزب عمل بشكل سري، حتى اعترفت به حكومة الانتداب في 30 نيسان (أبريل) 1925. وسرعان ما أعلن الحزب عن نفسه في اليوم التالي، والذي وافق عيد العمال في الأول من أيّار (مايو)، حيث رفرفت الأعلام الحمراء في شوارع بيروت، وأضرب آلاف العمال، بالتزامن مع احتفالات صاخبة شهدها مسرح “كريستال” بوسط المدينة، وقامت جريدة (الإنسانية) التابعة للحزب، آنذاك، بتغطيتها.
الحزب يضحي بمؤسسه
بسبب مساندة الحزب للثورة السورية، بادرت سلطات الانتداب الفرنسية إلى اعتقال فؤاد الشمالي، وعضو قيادة الحزب آرتين مادايان، ونفتهما إلى خارج البلاد، وحكمت عليهما بالإعدام مع آخرين من قادة الثورة، إلّا أنّ الحكم لم ينفذ، ليصدر العفو عن الجميع في العام 1928 ليعود الشمالي إلى لبنان.
وفي العام 1927 انضمّ الحزب إلى الكومنترن، ليغير اسمه إلى الحزب الشيوعي السوري اللبناني، كشرط من شروط الأممية الشيوعية، وكان فؤاد الشمالي ممثلاً للحزب في المؤتمر السادس للشيوعية الدولية في العام 1928.
وبحسب كريم مروة، فإنّ الدور الذي لعبه فؤاد الشمالي، بعد عودته إلى لبنان إثر طرده من مصر، كان أساسياً؛ نظراً لوعيه بظروف المرحلة، وإدراكه لمدلولاتها، فعمل رفقة زملائه في الحركة العمالية في مصر ولبنان، وكان أكثر إدراكاً للأبعاد التاريخية لمشروع تأسيس الحزب الشيوعي، حتى في الجانب اليوتوبي منه، وهو أمر أقرّ به يوسف يزبك نفسه، لا سيّما في مرحلة التأسيس، حيث كان الشمالي في إسهامه في تشكيل نقابات عمالية في لبنان، بعد عودته من مصر، مدركاً لدور تلك النقابات في إدخال الوعي بالاشتراكية في صفوف العمال.
وظلّ الشمالي على رأس الحزب حتى مطلع الثلاثينيات، حتى بدأت المشاكل والصعوبات تواجهه، وسرعان ما وصلت الأمور داخل الحزب إلى حد تخوينه وطرده؛ بوصفه عميلاً للمخابرات، ليغادر الحياة في العام 1939 فقيراً معدماً، ترافقه تهمة الخيانة، قبل أن يَردّ إليه المؤتمر الثاني للحزب في العام 1968 الاعتبار. وربما تعكس محنة فؤاد الشمالي حالة من عدم النضج السياسي، وسطوة التعصب الإيديولوجي لدى الرفاق الأوائل، حيث كانت تهمة التخوين جاهزة دوماً لحسم أيّ اختلاف في وجهات النظر.
الاجتماع الثاني
في نيسان (أبريل) 1930 عقد الحزب الكونفرانس الثاني في بيروت، وشهد مشاركة أوسع على صعيد المندوبين، حيث حضره (36) مندوباً، من بيروت، وزحلة، وطرابلس، وبعلبك، وبكفيا، وعكار، ودمشق، والنبك، ويبرود، وحلب، وحمص. وفي هذا المؤتمر تقرر تكليف اللجنة المركزية بوضع برنامج عام ومفصل حول أهداف الحزب، وغايته القصوى، وكذا موقفه من كافة القضايا التي تواجهها البلاد، وصياغة شعارات الحزب وسياساته المرحلية، وبالفعل انتهت اللجنة من إعداد البرنامج في تمّوز (يوليو) 1931، والذي ارتكز على المسألة الوطنية، وحقوق الطبقة العاملة والفلاحين، والنضال من أجل تحرير الوطن، وتحرير الشغيلة من الاستغلال، ويرى البعض أنّ هذا البرنامج، بحسب محمد دكروب، يحمل “أول رؤية علمية ماركسية للقضية القومية في البلاد العربية، كقضية التحرر من الإمبريالية، وتأسيس وحدة قومية أساسها اتحاد عمال وفلاحي البلاد العربية”.
من الاستقلال إلى الحرب الأهلية
في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1943 أرسل السكرتير العام للحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو رسالة إلى الجنرال كاترو، قال فيها: إنّ التدابير التي اتخذت بحلّ المجلس النيابي، وتعطيل الحياة الدستورية، واعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء وغيرهم، أثارت بالشعب اللبناني موجة احتجاج واستنكار لم يعرفها من قبل، واصفاً الإجراءات الفرنسية بأنّها “طعنة أليمة سُدّدت إلى صميم كرامة لبنان الوطنية وحقوقه”.
الحلو اعتبر الإضرابات والتظاهرات التي قامت في البلاد مظهراً من مظاهر الاحتجاج والاستنكار، وليست من صنع المحرّضين كما يريد بعضهم أن يصوّرها. لافتاً إلى أنّ من ينظر إلى الحوادث نظرة مجرّدة، يتحقّق بدون ريب أنّ المسؤولية الرئيسية فيها تقع قبل كل شيء على عاتق سياسة استعمارية رجعية قديمة، لا يريد أصحابها أن يفهموا أنّ العلاقات بين الشعوب يجب أن تقوم على العدل والمساواة في الحقوق.
السكرتير العام أكد في رسالته، التي نشرها ضاهر العكاري في كتابه: الصحافة الثورية في لبنان، أنّ الحركة الوطنية الشعبية التي تشترك فيها الجماهير اللبنانية الواسعة، على اختلاف ميولها وأديانها وعناصرها، لا تستهدف استبدال نفوذ أجنبي بنفوذ أجنبي آخر، وإنّما الهدف هو استقلال لبنان وحرّيته وصون كرامته. وعليه أكد الحزب الشيوعي اللبناني أنّ التدابير الفرنسية المناقضة لجميع المواثيق والعهود، إنّما تخدم مآرب الدعاية النازية، وتؤثّر في سير الحرب، وتؤخّر تحرير الشعوب من نير الهتلرية. وطالب الحزب بإطلاق سراح المعتقلين، وإعادة الحياة الدستورية، وإلغاء التدابير الاستثنائية التي اتّخذت بعد تعطيل الدستور، وإبعاد العناصر الرجعية من لبنان.
جدير بالذكر أنّ العام 1943 شهد استقلال الحزب الشيوعي اللبناني عن نظيره السوري على الصعيدين القيادي والمالي، ولكن ظل التعاون والتوجيه من حق القيادة العامة للحزب في سوريا. ومن ثمّ، فإنّ القرار الذي اتخذ في نهاية العام 1943، لم ينفذ إلّا في العام 1964، وبين هذين التاريخين حافظ الحزب على وجود اللجنة المركزية المشتركة والمكتب السياسي.
وبالتزامن مع الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1958، ظهر الجناح العسكري للحزب الشيوعي اللبناني، وهو عبارة عن عناصر مسلحة ومدربة، يغلب عليها الطابع العلماني اللا طائفي. وقاتلت هذه القوات إلى جانب القوات المناوئة للميليشيات المسيحية المساندة للجيش، وانتهى الأمر بحل هذه الميليشيات بنهاية الحرب الأهلية، لكنّ المكتب السياسي للحزب قرر أواخر الستينيات إعادة تكوين ميليشيات مسلحة؛ للدفاع عن القرى الحدودية في جنوب لبنان، وأعلن الحزب رسمياً عن تأسيس الحرس الشعبي في 6 كانون الثاني (يناير) 1970، وهي الميليشيات التي انخرطت بدورها في آتون الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينيات والثمانينيات.
تداعيات سقوط الاتحاد السوفياتي
جاء المؤتمر السادس للحزب الشيوعي اللبناني في العام 1992، بالتزامن مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ليشهد الحزب حالة غير مسبوقة من الارتباك الداخلي، الأمر الذي جعل ارتدادات المؤتمر والأجواء التي رافقته تنعكس سلباً على الحضور، بفعل اللحظة التاريخية الفريدة، والتي شهدت موت الأب الرمزي لكل الأحزاب الشيوعية حول العالم، ورافق الحدث تراشق الاتهامات، ومطالبات بالمراجعة والنقد الذاتي، ليحسم الحزب أمره بانتهاج خط سياسي يبتعد فيه عن راديكالية المواقف الإيديولوجية، ويطرح، بحسب دلال البرزي، الديمقراطية بديلاً لسياسة الحزب الواحد.
ويمكن القول إنّ المؤتمر السادس شهد حالة من النقد الذاتي لكافة التصورات الإيديولوجية الكلاسيكية؛ في محاولة لتجاوز المشهد الفوضوي الذي خلفه سقوط الاتحاد السوفياتي، والتصالح مع الواقع، سواء الواقع الداخلي الذي كرسه اتفاق الطائف، أو الخارجي الذي لم تتضح معالمه بعد، بعد سقوط دولة المركز. وعليه، أمكن إلى حد بعيد الحفاظ على كيان الحزب، وسط أنواء عاصفة، لم يكن أحد يتوقع حدوثها.
الانخراط في العمل السياسي
في تمّوز (يوليو) 1996 قرّر الحزب الشيوعي اللبناني خوض الانتخابات النيابية، وأعلن الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني فاروق دحروج خوض الحزب الشيوعي اللبناني الانتخابات النيابية، المقررة في آب (أغسطس) من العام نفسه، بـ (6) مرشحين، وفق برنامج انتخابي يقوم على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وبناء دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، والعمل على إصلاح النظام السياسي، وإزالة الطائفية، وبناء مجتمع علماني، وتمتين العلاقات اللبنانية/ السورية، وسمّى دحروج المرشحين الـ (6) وهم: الدكتور غسان الأشقر في محافظة الشمال، سعد الله مزرعاني في محافظة الجنوب، نديم عبد الصمد في محافظة بيروت، فاروق دحروج في محافظة البقاع، خالد حمادة في قضاء الشوف، إلياس الهبر في قضاء عاليه. لكنّ الحزب استغرق نحو ربع قرن بعد ذلك، قبل أن يقتنص المقعد النيابي الأول في تاريخه في انتخابات العام 2022، حيث استطاع الطبيب إلياس جرادة، تحقيق ما وصفه البعض بالمعجزة السياسية، باقتناص المقعد النيابي في دائرة الجنوب الثالثة، ليصبح أول نائب برلماني في تاريخ الحزب الشيوعي مند تأسيسه. وهو الإنجاز الذي عجز عنه قادة يصنفون على أنّهم تاريخيون في الحزب، من أمثال: فرج الله الحلو، وجورج حاوي، ومحسن إبراهيم، وغيرهم.
القيادة الحالية
في أواخر شباط (فبراير) 2022 أنهى الحزب الشيوعي اللبناني أعمال المؤتمر الثاني عشر، بعد تأخر دام عامين بسبب جائحة كورونا، وفيه تمّ انتخاب اللجنة المركزية للحزب، والتي ضمت: حنا غريب، مازن حطيط، كايد بندر، حسن خليل، نارا حاوي، محمد بزيع، وغيرهم، وانتخبت اللجنة بدورها حنا غريب أميناً عاماً لولاية ثانية، و”أقرّ المؤتمر الوثيقة الفكرية والسياسية والبرنامجية، والتعديلات على النظام الداخلي وتوصيات المندوبين”.
الحزب أخفق في الانتخابات النيابية كعادته، لكنك تكاد تلمح طروحاته وشعاراته، على مقاهي شارع الحمرا، حيث يتبارى المثقفون في النقاش، ربما حول القضايا نفسها التي شغلت بال فؤاد الشمالي قبل قرن من الزمان، في بلد تمزقه الطائفية والتدخلات الخارجية؛ لذا فإنّه بعد قرن من الزمان يعود الرفاق إلى نقطة الصفر، ومقارعة طواحين الهواء، والبحث ربما عن المستحيل.
المصدر حفريات