عمرو فاروق
تفرض الجماعات الأصولية على أعضائها سياجاً حديدياً، لعزلهم عن التأثيرات الفكرية والثقافية والسلوكية للمجتمعات المحيطة، لضمان ولائهم وتعايشهم في ظل مصطلحات الإسلام السياسي ومفرداته.
رغم أن جماعة “الإخوان المسلمين” وضعت أسس “العزلة الشعورية” على يد حسن البنا، ومن ورائه سيد قطب، في كتابه “معالم في الطريق”، فإنها لم تقتصر على قواعدها التنظيمية، لكن تناقلتها عنها مختلف تيارات الإسلام الحركي.
صوغ “العزلة الشعورية” يأتي في المقام الأول من استشعار الاستعلاء الإيماني، والتمييز الديني، والاصطفاء الإلهي، عن الأوساط المحيطة المنعوتة بالجاهلية، والدوائر الاجتماعية الموصوفة بالتكفير، والبعيدة حتماً من مفاهيم “الجماعة المؤمنة” أو “الفئة المنصورة”، المتسقة والمتصلة بكيانات الأصولية الراديكالية.
ترتكز أبجديات “العزلة الشعورية”، على فكرة توظيف قصص الأنبياء في آيات القرآن الكريم، وصناعة إسقاطات توحي بالتنازع بين معسكرين أحدهما مؤمن، والآخر كافر، مع استحضار صفات المجتمع المكي.
تعتبر “العزلة الشعورية” إعلاناً بمقاطعة العادات والتقاليد والتوجهات الفكرية السائدة مجتمعياً، طعناً فيها وفي إيمان المنتسبين إليها وعقيدتهم، بغية الانخراط والتعايش في ظل تكتلات بشرية موازية تستهدف بناء مجتمعات بديلة.
تعتمد تيارات الإسلام السياسي على “العزلة الشعورية” وسيلة فاعلة وأداة أساسية في المراحل الأولى لعمليات الاستقطاب الفكري والتجنيد التنظيمي للعناصر الجدد، بعد تهيئتهم وعزلهم نفسياً وذهنياً عن البيئة المحيطة، ووضعتها بعض التيارات الأصولية في مقدمة أسس بناء ما عُرف – في منهجهم – بـ”جيل التمكين”.
باتت “العزلة الشعورية” جزءاً أساسياً من المكون الفكري والحركي والتنظيمي للجماعات الأصولية، ابتداءً من جماعة “التكفير والهجرة”، و”الجماعة الإسلامية”، وتنظيمات الجهاد، وتنظيمي “القاعدة” و”داعش”، و”الطليعة المقاتلة” في سوريا، و”الجماعة الإسلامية للدعوة والقتال” في الجزائر، و”الجماعة الليبيبة المقاتلة”، وغيرها من تنظيمات العنف المسلح.
تقتضي “العزلة الشعورية” عدم الاعتراف بالمؤسسات القضائية والتشريعية للمجتمعات التي تربت فيها القواعد التنظيمية والكتل الحركية، أو الوقوف أمام محاكمها أو الالتزام بأحكامها وقرارتها، إذ تعتبر مفاصلة واقعية عن الكيانات “الطاغوتية” التي تحكم وتحتكم إلى غير ما أنزل الله، وفقاً لمفاهيمهم الباطلة وانحرافاتهم العقائدية.
الانفصال الشعوري عن البيئة المحيطة والتمادي فيه، يمثلان المخدر الأقوى تأثيراً في التمرد على القيم الأسرية، والضوابط المجتمعية، ومحددات الدولة الوطنية ومؤسساتها، ومن ثم الانسياق خلف مفاهيم الجاهلية والتكفير، واستخدام العنف المسلح، وإشباع رغبة الانتقام، وكذلك الاستغراق في معاني الاستعلاء التي يفرضها الانتماء التنظيمي.
ففي كتابه “معالم في الطريق” يقول سيد قطب: “كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائياً من بيئته الجاهلية واتصل ببيئته الإسلامية”.
ويضيف قطب في استعلاء وغطرسة إيمانية: “ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها، ولا في شيء من تقاليدها، مهما اشتدّ الضغط علينا، حين نعتزل الناس؛ لأنّنا نحسّ أنّنا أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً، لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً، اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة، إنّ العظمة الحقيقية أن نخالط الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع، ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية، أو أن نتملّق هؤلاء الناس، ونثني على رذائلهم، أو أن نشعرهم بأنّنا أعلى منهم أفقاً، إنّ التوفيق بين هذه المتناقضات، وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد هو العظمة الحقيقية”.
ربما استبعد بعض المحللين التيارات السلفية من التأثر بفكرة “العزلة الشعورية” التي تبنتها الأصولية الحركية، في ظل تعاطي بعضها مع متغيرات الشارع المحلي، وتعمدها الاحتكاك المباشر، تنفيذاً لفكرة الاستقطاب والتأثير “السلفي”، المقابلة لما يعرف حركياً وفق أدبيات جماعة الإخوان بـ”الدعوة الفردية”، في إطار أنها تيارات فكرية متشعبة لا تستند لإطار تنظيمي محدد المعالم.
واقع المدارس السلفية بتنوعها، يضع عشرات السياجات حول منتسبيها، وفقاً لمنهجية فكرية، تحقر المجتمعات وتصفها بالدونية، في إطار خطاب مغلق غير معلن، وفي دوائر سلفية ضيقة، تشكل عقل مريديها ووجدانهم بما يضمن ولاءهم لمشروعها الفكري، وتبعيتهم لمرجعيتها ورموزها.
لا شك في أن التيارات السلفية تشربت مفهوم “العزلة الشعورية” من جماعة “الإخوان المسلمين”، في إطار التقارب المتبادل حركياً وأيديولوجياً، وفقاً للدراسة التي قدمها الباحث الراحل حسام تمام، حول “تسلف الإخوان”، منوهاً ببروز ظاهرة التلاقح السلفي الإخواني منذ ثمانينات القرن الماضي.
تؤدي “العزلة الشعورية” إلى الانغلاق والتعصب الفكري، لدى أتباع تيارات الإسلام السياسي، في ظل تمحور توجهاتهم حول المساحة الإيديولوجية المكونة للتنظيم أو للجماعة المنتمين إليها، ومن ثم رفض مختلف القوالب الثقافية والفكرية المجتمعية، فضلاً عن حالة التناحر المشتعلة بين هذه الكيانات، واستعلاء كل منها على الآخر.
لم تقتصر “العزلة الشعورية” على أبناء تنظيمات الإسلام السياسي، فالكثير من العقليات الدينية الرسمية وغير الرسمية، تعيش في عزلة وانفصال حقيقي عن إشكاليات المجتمع وقضاياه، وتفتقر إلى فكرة الاجتهاد تجاه الموروث، في ضوء تجديد الخطاب الديني، وإمعان النظر في المستجدات الحياتية المتعلقة بمصالح الأمة، تحقيقاً لمقاصد الشريعة.
نقلاً عن “النهار” العربي