إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
ربما تكون الظاهرة المتمثلة في الموجة الدينية الصاعدة وانحسار الفلسفة من أهم وأكثر مؤشرات الخوف وضوحاً في هذه المرحلة؛ فالموت الفلسفي بما هو غياب الوعي بالأسئلة الكبرى للكون والحياة، أو العجز عن التفكير فيها أو الانشغال عنها، أو عجز أدواتنا الفلسفية عن فهم واستيعاب العالم المتشكل؛ يؤشر إلى مرحلة هي “عالم يحتضر”.
ذلك أنّ فناء عالم “الصناعة” يعني نهاية الفلسفة المنشئة له والمستمدة منه أيضاً؛ ففي هذه النهايات للأعمال والموارد والمؤسسات والأسواق والعلاقات والطبقات، تنتهي أيضاً الأفكار والفلسفات المصاحبة لها. ثمّة موت فلسفي بالتأكيد؛ لأنّ إنسان الصناعة ينقرض، وفي عبارة أصح تنقرض فلسفة الصناعة وليس الفلسفة مطلقاً.
وبطبيعة الحال، فإنّ فلسفة جديدة تنبعث مع انبعاث العالم الجديد! لكن، لماذا يبدو ذلك لم يحدث بعد؟ ولماذا تراجعت الفلسفة لتصعد موجة هائلة وعاصفة من التدين؟ فالعالم كله، وعلى اختلاف أديانه، يبدو ممعناً في بعث ديني وليس في بعث فلسفي!
الفلسفة تنشأ حول السؤال، والتدين ينشأ حول الخوف! وفي هذه النهايات العاصفة لعالمنا يصعد الخوف، ويكون الدين إجابة حاضرة وبدهية وملجأ من هذا الخوف الذي يكتسح عالمنا اليوم؛ إذ يهيمن على الناس جميعهم اليوم خوف وقلق من المستقبل المجهول والمنقطع عن الحاضر والماضي، وتشكلاته التي تبدو مفاجئة لجميع الناس. وفي عجز الفلسفة عن الإجابة؛ فإنّها ترحل.
معظم الأعمال والمهن والأسواق والمؤسسات والموارد التي تبدو اليوم قائمة وسائدة، هي موضع شك في مصيرها وقدرتها على البقاء. لن تكون الأعمال والمؤسسات القائمة اليوم موجودة بعد عقود قليلة من الزمن، ولن تكون المدارس والجامعات والشركات والأسواق القائمة اليوم باقية كما هي. لم يعد هذا الهاجس المستقبلي حديثاً معزولاً أو خيالاً علميّاً.
وببساطة، فإنّ الإنسان تحكم مسار حياته ووجوده ومصيره (3) محددات بيولوجية نفسية أساسية: البقاء، والخوف، والارتقاء. ولا يمكن الارتقاء إلّا بتأمين البقاء ومواجهة الخوف والمهددات؛ فالإنسان يفكر في تحسين بقائه عندما يملك الوفرة في الوقت والموارد، ويؤمّن بقاءه واحتياجاته الأساسية.
والفلسفة تعكس الارتقاء وتحسين البقاء، وصياغة أسئلة جديدة، أو التفكير في أسئلة مؤجلة، والبحث عن إجابة. هكذا نشأت الفلسفة في العصور القديمة والوسطى بعدما تطورت الزراعة، منشئة استقراراً وقرى ومدناً، ثم نهضت الفلسفة المعاصرة بعد الثورة الصناعية، وأنشأت هذا العالم الذي نعرفه.
اليوم في ظل الخوف الذي يكتسح عالمنا الآيل للسقوط، والعالم المقبل غير الواضح، لم تعد الفلسفة قادرة على حماية وعينا بذاتنا ولا تشكيل وعي جديد، ولا نملك أيضاً القدرة على انشغالات تتقدمها انشغالات البقاء ومواجهة الخوف على وجودنا وأعمالنا ومصائرنا.
لكنّها، بطبيعة الحال، مرحلة انتقالية محدودة؛ إذ سوف تبدأ الموارد الجديدة بالتشكل، ومعها أسواقها ونخبها وأفكارها وفلسفتها. ولشديد الأسف، فإنّ “بومة منيرفا” (الحكمة) لا تحلق إلا في الغسق؛ أي بعد انقضاء الأحداث. ما من حكمة تسبق الأحداث، وما من حكمة تستوعب أحداثاً لم تحط بها.
يقابل الحديث عن انحسار الفلسفة وصعود الأصوليات الدينية حديث آخر عن موجة في النشر والقراءة والاهتمامات الثقافية تضع كتب الفلسفة في مقدمة الكتب التي تتعرض لطلب كبير من القراء المثقفين في العالم عامّة، وربما تكون ظاهرة صعود الفلسفة مرتبطة بموجة اقتصاد المعرفة ومجتمعاتها، فقد أنشأت الموجة مجموعة من الظواهر الفكرية والثقافية التي استلزمت العودة إلى الفلسفة، مثل الاهتمام بالدين، والانقطاع معرفيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً عن الماضي، والبحث عن البدايات وأسئلة وعي الذات من جديد، وقد استعادت الظاهرة نفسها بكثافة غير مسبوقة التفكير في التحولات الاجتماعية والثقافية التي رافقت الثورة الصناعية في القرن الـ (18)، ربما بسبب الشبه الكبير بين تلك المرحلة والمرحلة القائمة، وكما كانت الجمهورية فكرة متطرفة وخيالية في القرن الـ (18)، لكنّها اكتسحت العالم تقريباً، فهل تكتسح الأصوليات المعاصرة الأنظمة السياسية؛ وتشكل بداية لمرحلة جديدة ومختلفة في الحكم والسياسة؟ من الواضح أنّ الأصوليات الدينية والقومية اليوم تبدو خياراً قوياً لشعوب العالم، وليس مهماً أن تقدم هذه الأصوليات برامج وأفكاراً بديلة مناسبة، لكنّها ربما تعكس حالة الحيرة والشك والفوضى التي يمرّ بها العالم، وربما هي الحالة نفسها التي تدفع العالم نحو المعرفة والفلسفة، فهل ستهذب الفلسفة الأصوليات وتطورها، ليصل العالم إلى نظام فكري وفلسفي وسياسي، كما ظهرت الليبرالية والعلمانية والماركسية على سبيل المثال مصاحبة للآلة البخارية؟
ربما يكون هذا الحديث اليوم غامضاً وخياليّاً، لكن لنتذكر أنّ الأفكار المشابهة التي ظهرت في القرن الـ (18)، كانت تبدو متطرفة وخيالية أيضاً. في رواية “الحب في زمن الكوليرا” لغابرييل ماركيز، ثمّة مشهد لببغاء يردد عبارة “يحيا الحزب الليبرالي”، يقول ماركيز: إنّها عبارة كانت تكفي لإعدام صاحبها في أمريكا اللاتينية في بدايات القرن الـ (20).
ربما لن يكون بعيداً ذلك اليوم الذي نشهد فيه برامج وفلسفات جديدة للحياة والحكم، وقد تفاءلنا قبل أعوام بظهور الطريق الثالث، والذي بشر به مجموعة من المفكرين والقادة السياسيين، واجتاح رواده الانتخابات التي جرت في أوروبا والولايات المتحدة بحماسة وسرعة تعكس تعطش العالم كله إلى فكرة جديدة تخرجه من دوامة دولة الرفاه وحكم الشركات، وتعتقه من الأصوليات الزاحفة وتكتسح معاقل الديمقراطية والليبرالية!
نقلاً عن حفريات