سامح إسماعيل
كاتب مصري
يمكن القول إنّ العقل القياسي هو أقل العقول نشاطاً، وأكثرها بطئاً وارتباكاً، لما يختص به من عجز دائم عن الإبداع، ونفور من التجديد، مع الرغبة الملحّة في القياس على مثال مشابه، والارتياح للانقياد والطاعة، إنّه ذلك العقل المستقيل من عناء التفكير، والمستسلم للتقليد والاستنساخ، واستدعاء ما جاء به القدماء، وإلباسه ثوباً عصرياً، لا يستطيع أن يخفي ما تحته من تناقضات.
وحين ينضوى هذا العقل المستلب تحت راية جماعة سياسية مؤدلجة، يكون من الخطورة بمكان عدم الانتباه لما يمكن أن تقوم به كتلة متسقة وتابعة، تتحقق في وحدتها العضوية كل الشروط الموضوعية، أولها الولاء والبراء، والعزلة الشعورية عن المجتمع، مع ممارسة التقية، والاستعداد لفعل أي شيء في سبيل نصرة الجماعة في لحظة تماهيها وتوحدها مع مشيئة الله، فنصبح بصدد جماعة عضوية، يجمع بينها عقل جمعي واحد غير قادر على النقد الذاتي، أو التفكير في مدى صدق المقولات التي يتبعها، أو إخلاص القيادة التي انضوى طوعاً تحت رايتها.
حلم الدولة في لحظة التأسيس
يؤكد حسن البنا في “الرسائل” أنّ الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون، يجعل الحكومة ركناً من أركانه، مستنداً إلى مقولة الخليفة الثالث عثمان بن عفان، رضي الله عنه: “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”. وأنّ النبي، عليه السلام، جعل الحكم عروة من عرى الإسلام، والحكم معدود في كتب الفقه من العقائد والأصول، ويؤكد المرشد الأول أنّ الإسلام حكماً وتنفيذاً، لا ينفك واحد منهما عن الآخر.
ويستدرك البنا ليؤكد أنّه على الإخوان أن يكونوا أعقل من أن يتقدموا لمهمة الحكم، قبل أن تنتشر مبادئهم وتسود أفكارهم، لكنه يفصح في صراحة، أنّهم سيعملون على استخلاص الحكم من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله.
لم يكن حلم الدولة غائباً منذ لحظة التأسيس، بل إنه تجاوز حدود المملكة المصرية، إلى رغبة محمومة في أستاذية العالم، وهو ما يمكن فهمه من فكرة الدوائر التي أنشأها البنا في كل العالم الإسلامي، من خلال تجنيد الطلاب العرب والمسلمين القادمين للدراسة في مصر، وإرسالهم بالدعوة إلى شتى البقاع.
لقد تمثل البنا نفسه رسولاً جاء بدعوة جديدة، ومضى يرسل الوفود هنا وهناك، جذباً للحلفاء والأتباع، فإذا جاءت لحظة الفتح المبين، خرج الإخوان من كل حدب ينسلون، عقلاَ جمعيّاً واحداً، لا يملك أصحابه غير الطاعة سبيلاً.
كان لمشهد خروج البنا وأتباعه المئة في شعاب مكة، في موسم الحج في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، وجميعهم يرتدون لباساً موحداً، دلالات شتى، اختبرها التاريخ بعد ذلك، مرة تلو الأخرى، وعرفنا معها الكيفية التي يعمل بها العقل المستقيل، والمآلات التي يمكن أن يصل إليها من خلال أيديولوجيا انتهازية، تعرف متى تتحرك، وكيف تقتنص المكاسب على حساب الجميع.
مفهوم الأخ التعاوني
كان فكر البنا يتلخص في تكوين دولة موازية، يكون هو على رأسها، تتسع فيما بعد لتبتلع الجميع، فجاءت فكرة الأسر، حيث تتكون شعب الإخوان جميعها من أسر تقوم على ثلاثة مبادئ كما أوضح في “الرسائل” هي: التعارف والتفاهم والتكافل، وفي سبيل بناء هذا المجتمع المغلق، يظهر مفهوم الأخ التعاوني؛ الذي ينبغي له أن يسأل ويتتبع ويراقب كل أفراد الأسرة الإخوانية، فإذا ما لمح خروجاً عن منطلقات العقل الجمعي، أو جنوحاً عن مبادئ الطاعة والولاء، كان عليه أن ينصح ويلح ويُقوَّم، متستراً على أخيه شهراً كاملاً، لا يخبر بما لاحظه أحداً إلا رئيس الأسرة وحده إذا عجز عن الإصلاح، وعلى الإخوان دوماً مراجعة واجبات الأخ التعاوني، من خلال أداء الفروض الاجتماعية والمالية، وتسديد الاشتراكات لصندوق الأسرة.
يقوم بناء الأمة الإخوانية على مبدأ الفئة الناجية، وحين يبادر كل مسلم بالالتحاق بشَعب الجماعة المختار، يبدأ العد التنازلي للحظة الخلاص، بالانتصار واستعادة المجد الغابر، إنّها لحظة تستحق بذل كل عزيز وغال في سبيل العبور من حال إلى حال، وتقديم قرابين الطاعة أملاً وطمعاً في النجاة.
كانت اللحظة التاريخية شديدة الخصوصية؛ فالنظام الملكي بات في طريقه إلى السقوط، والاستعمار الغربي يلملم أذيال الخيبة بعد ضربات حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، والعالم يتغير بعد حرب عالمية طاحنة، بينما الاستعمار الصهيوني في فلسطين يعلن دولته إثر خيبة الجيوش العربية، وقد بدأ اليسار القومي حول العالم يرفع شعارات النضال، ويخوض معارك ضارية من كوبا إلى فيتنام، ومن الجزائر إلى الكونغو، وحدها حركة الإخوان المسلمين كانت تمارس طقساً رجعيّاً يمينيّاً، في معزل عن حركة التاريخ، تبني أسوار العزلة حول أتباعها، وتغرق في خطاب الفاشية، التي باتت من مخلفات الحرب العظمى.
خطاب المحنة
سقط البنا قتيلاً بعد ما فقد السيطرة على الوحش الذي صنعه، وسقط النظام الملكي، وانتهى عصر الأحزاب الذي أجاد الإخوان اللعب على تناقضاته، وسرعان ما دب الخلاف بين النظام القومي الصاعد وبين التنظيم الذي تلقى ضربة تلو الأخرى، وزج بأعضائه في غياهب السجون، بينما هرب آخرون إلى بعض الدول الخليجية.
كانت المحنة شديدة الوطأة، وقد بلغت ذروتها بإعدام سيد قطب، فأحكمت الجماعة إغلاق قلاعها على شعبها المختار، وأوثقت الخيوط حول شرنقة المحنة التى احتمى داخلها ما تبقى من التنظيم، انصرف الإخوان في عقود طويلة إلى الهجرة والتجارة والتمفصل في البنى الاجتماعية، مع التلويح من حين إلى آخر بخطاب المظلومية، والدخول في تفاهمات وصفقات سياسية محدودة لضمان البقاء والاستمرار.
قبيل أحداث “الربيع العربي”، كانت الجماعة قد بلغت حداً من التنظيم والثراء، سمح لها بالخروج إلى السطح، والتفاهم مع القوى الخارجية الفاعلة، لكسب مساحات واسعة في شرق أوسط جديد، ليستدعى التنظيم عناصره لامتطاء صهوة ربيع العرب الحزين، لكن العقل القياسي كعادته فشل في إدراك حركة التاريخ، وفي فهم الكيفية التي تعمل بها الثورات، فالتفاهم لا التمكين كان حلاً سحريّاً فشل الإخوان في إدراكه، لتنتهى مغامرة العقل المستقيل، وقد حكم التنظيم على نفسه بالانتحار الطوعي داخل شرنقة المستحيل.
نقلاً عن حفريات