سمير عادل
العملية العسكرية لحماس على إسرائيل في 7 أكتوبر، وما تبعها من الحملة المسعورة والوحشية لإسرائيل على أهالي قطاع غزة بحجة “الدفاع عن النفس” بقدر ما حركت الأجواء الراكدة للقضية الفلسطينية واعادتها الى واجهة المشهد السياسي الدولي والعالمي ، بنفس القدر حركت المياه او نفخت الروح الأخيرة فيما تبقى من أطلال الايديلوجية القومية والفكر العربي المطرز بتاريخ الامبراطورية الاسلامية. وكان المقال الاخير للشاعر ادونيس واحدا من ارهاصات تلك الأجواء، حيث نشر في جريدة الأخبار اللبنانية بتاريخ 4 تشرين الأول 2023 بعنوان “نحو صورة جديدة للمسلمين والإسلام – بيان لا يلزم غيري”، يحاول ادونيس نفخ الروح في الفكر القومي والروح القومية عبر التذكير بتاريخها التليد، بعد أن أصبح ذلك الفكر وتلك الروح من معالم الحرب الباردة وسنوات الاستعمار التي انطوت صفحتها. ويمكن وصف مقال أدونيس بأنه أقرب الى رثاء للوضع الفلسطيني والعربي والإسلامي مما هو نقد للواقع الإسلامي والعربي من منظار شعبوي ورومانسي، ماسكا أدوات قديمة في محاولته الأخيرة للإصلاح ما لم يتمكن (فشل فيه) اقرانه باستخدام نفس الأدوات التي يمسك بها ادونيس لعلاج الواقع العربي، اذ كما يقول أينشتاين أن من يتوقع الحصول على نتائج جديدة من تجربة قد فشلت من قبل، فهو الجنون بعينه.
أن “المعضلة” تكمن في منظار المثقفين ومنظري الفكر القومي العربي، لحماس، وما قامت به في السابع من اكتوبر، هل تصب نتائجها في إعادة الوهج للأيديولوجية القومية العربية وتعيد لها الأمجاد التي علت فيها الرايات الإسلامية في بلدان فارس والشام وجبل طارق والاندلس، ام ستعمل على إعادة الروح للإسلام السياسي، بعد أن تم إغراق الأدبيات السياسية والخطاب العربي على العموم بمقولة “الصحوة الإسلامية” وخاصة بعد ما يسميه ادونيس “بالربيع الغربي” الذي سنعرج عليه لاحقا؟
أي بعبارة أخرى هل حماس هي جزء من الحركة القومية العربية بأجنحتها المختلفة مثل الناصرية والبعثية وغيرها التي رفعت شعارات في يوم ما؛” تحرير الامة العربية عبر تحرير فلسطين، وامة العرب من البحر الى الخليج، وفلسطين القلب النابض للامة العربية”، ام ان حماس هي جزء من تيار الإسلام السياسي الذي وقع في قطيعة تامة مع التيار القومي العروبي، ووقف بالضد من جميع الأنظمة القومية العربية وكفرها وبدأ صراع مفتوح معها على السلطة السياسية؟
هذه الأسئلة طرحها ضمنا ادونيس في مرثيته لواقع المسلمين حسب وصفه؛ هل يمكن للمسلمين اليوم، في مُواجَهَة الغرب السِّياسيّ، أن يُعطوا لإسلامهم صورةً جديدة تليقُ بتاريخه المُضيءِ العظيم، في ضَوء التّجربة التي تعيشها غزّة ــ حياةً ورمزاً ــ غزّة الحاضر، وغزّة المستقبل؟
اليوم وفي خضم حرب اسرائيل على غزة وتحقيق حماس الإنجاز العسكري في السابع من أكتوبر في توجيه ضربة موجعة الى إسرائيل فيما فشل التيار القومي في تحقيق ما حققته حماس، بل وراحت جميع اجنحته بتقديم التنازلات والقبول بالسياسة الاميركية والغربية، ووضع جانبا، القضية الفلسطينية هي “القضية المركزي للامة العربية” والدخول في صفقة القرن وسياسات التطبيع مع إسرائيل، وبتحويل كل القضية الفلسطينية الى بلدة صغيرة حدودها الضفة الغربية تقودها حركة فتح القومية وتطوقها المستوطنات الإسرائيلية، نقول في خضم تلك الحروب يعاد الى الاذهان ويوضع على طاولة التيار القومي سؤال طالما أرق القوميين العرب بالدرجة الأولى: لماذا فشل المشروع القومي العربي والذي كان له احدى العناوين العريضة وهي تحرير فلسطين طريق لتحرير الأمة العربية؟
هذا السؤال هو ما يؤرق ادونيس وما بقي في خلد جيل لطالما ضحى بكل شيء من اجل رؤية “الامة العربية” في مسار الأمم المتقدمة، وقد جددت عملية حماس الاوجاع القديمة لدى هذا الجيل الذي ما زال ينتمي الى التيار القومي العربي واحلامه الاقتصادية والسياسية التي بددها النظام الامبريالي العالمي ورمى بفتات من حصتها الرأسمالية لها، وفرضت شروطها للحصول على مكانتها غير اللائقة من منظورها في التقسيم العالمي للإنتاج الرأسمالي.
أن ادونيس يقع في تناقض صارخ، حيث يحاول نقد الواقع العربي والإسلامي الذي هو في الحقيقة أقرب الى الرثاء كما اسلفنا من خلال نفس المنهجية للسياسة الغربية في المنطقة والعالم التي يوجه سياط نقده عليها. تلك المنهجية هي المنهجية الأخلاقية والمثالية واسداء النصيحة، بتصوير “الربيع العربي” كأحد افرازات السياسة الغربية في المنطقة او كما يسميها بـ”الربيع الغربي”، وفي استنتاج مفاده ان تخلف المسلمين سببه فشل التجديد في الإسلام والتاريخ الإسلامي ويظهر اشمئزازه من “الإسلام المتعثمن” حيث يقول أدونيس “وعلينا هنا ألّا نملَّ أبداً من التّذكير بالواقِع الأسود، على جميع المستويات، الواقع الذي يعيشه المسلمون في مُعظَمِهم والذي يتمثّل في أنّ القائدَ الأوّلَ لهذا الواقع الأسود هو الإسلام المُتَعَثْمِن في عباءة الإخوان المُسلِمين”، أي الدولة العثمانية، لينظم الى سلفه من الذين عاصروا الدولة العثمانية وأعلنوا تجديدهم للإسلام مثل عبدالرحمن الكواكبي ورافع الطهطاوي ومحمد عبده وغيرهم، وأخيرا يقوم بترسيم حدود المواجهة في معركته الأخيرة، ويسميها جبهة المسلمين في مواجهة جبهة الغرب الأميركي.
ويبدأ أدونيس مقاله بروايته لحادثة عن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني للمسلمين، عندما أنقذه علي بن أبي طالب من سوء تقدير في الحكم على امرأة وجهت لها تهمة كيدية، عبر “الجملة” التي قالها عمر “لو لا علي لهلك عمر”، ويترجمها أدونيس معنويا ومجازيا “لولا العدالة لهلكت السلطة” محاولا مسك العصا من الوسط، بين أتباع علي بن أبي طالب وبين أنصار عمر بن الخطاب ليترفع عن التقسيم الطائفي الشيعي والسني الذي يضرب في جذور التاريخ الإسلامي، ويرفع راية موحدة ووسطية. ولم يقف عند هذه الحدود، بل راح يختزل كل التاريخ الإسلامي والدماء المضرجة في كل صفحاته لإعادة إنتاج الخطاب القديم او إعادة الروح له عبثا برسم صورة ذهنية ناصعة ونقية وخيالية عن فترة حكم عمر بن الخطاب الذي وصفه “بثقافة السّلطة والإدارة والعدالة”، بينما وصف فترة حكم علي بن ابي طالب الخليفة الرابع للمسلمين “بثقافة الحرّيّة والحقّ والنُّبْل”.
يدرك ادونيس وهو صاحب كتاب او اطروحته للدكتوراه “الثابت والمتحول” بانه هناك تاريخ من الصراع بين الطرفين على السلطة السياسية، الذي يفتح التاريخ الإسلامي عشية أيام قبل موت محمد، ويدشن بعد ساعات من موت النبي في سقيفة بني ساعدة بين أبو بكر-عمر واتباعهما من جهة وبين الأنصار من جهة اخرى على السلطة، وعلى من يخلف النبي محمد، والذي تطرح الشكوك حول سبب وفاته بدس السم له، وكما يروي لنا كتاب “الأيام الأخيرة لمحمد” الصادر عام 2016 للكاتبة التونسية هالة الوردي، ان جسد النبي بقى دون دفن ليومين ليتعفن، وكان علي وحده مشغولا به، واثناء مراسيم الدفن لم يحضر اي من الصحابة ولا حتى اقرب الناس له مثل عمر وأبو بكر لانشغالهما بالصراع على السلطة. بل وتروي الوردي ان عمرا منع محمد في أيامه الأخيرة من مرضه من كتابة وصيته التي كانت تشير الى تولي علي بن ابي طالب السلطة او أمور المسلمين بعده، وبعد ذلك يحتدم الصراع ليصل ذروته الى تصفية عثمان بن عفان الخليفة الثالث للمسلمين، واتهام علي بن ابي طالب واتباعه بوقوفهم خلف عملية الاغتيال، لينتهي في حرب الجمل التي كانت عائشة تقود الجيوش فيها ضد علي انتقاما وتأثرا لدم عثمان بن عفان حسب الروايات التاريخية المعروفة، وهي أي عائشة الزوجة الغالية على قلب محمد النبي ورسول كل العرب. ثم يشن حربه في صفين على معاوية بن أبي سفيان، ثم تليها الحروب الدموية الطاحنة بين أتباع الطرفين. الا ان ادونيس يحاول تقويض كل التاريخ الدموي بجملة قالها عمر بحق علي وبصورة ذهنية اختلقها لنفسه وأراد تسويقها للعالم.
وتعلمنا حرب إسرائيل على غزة، كم أن الحظ حالفنا بأن نعيش في عصر التقدم التكنولوجي والانترنت وتوسع الاعلام بكل اشكاله المرئي والسمعي والبصري ووجود شبكات التواصل الاجتماعي للكشف عن الحقيقة، وقد دحض ذلك الاعلام الرواية الإسرائيلية عن عملية حماس بأنها ارتكبت جرائم ذبح الأطفال واغتصاب النساء، وافشلت كل مزاعم إسرائيل بتبريرها لعمليات القتل الممنهجة والبربرية بحق الفلسطينيين. وما نريد ان نقوله في هذه المسالة إذا كانت إسرائيل وفي ظل كل هذا التقدم التكنولوجي تحاول تسويق روايتها عن السابع من أكتوبر وهناك من صدقها، فكيف لنا أن نتحقق من تلك الروايات التاريخية عن الإسلام والتي تأتينا دائما عن ابي فلان وفلان وعلان ورواه فلان وهكذا دواليك. ويقص لنا التاريخ الذي قرأناه في المدارس وكذلك الكتب التي حصلنا عليها ووفقها؛ ان عثمان بن عفان جمع القرآن وحرق جميع المصاحف الأخرى، وعرف النظام الخليفة الثالث للمسلمين بالفساد والمحسوبية وتفشي الظلم بكل اشكاله، وهذا ما درسناه في الكتب المنهجية في المراحل الرابع الاعدادي او ما يقابلها المرحلة العاشرة، أي في المدارس التي كانت تديرها وتشرف عليها الأنظمة القومية العربية. وحسب منطق ذلك التاريخ نستنتج منه فأن عثمان جمع الآيات والسور القرآنية التي تخدم نظامه السياسي بينما تخلص من تلك التي لا تخدم نظام حكمه، كما ان الاحاديث النبوية جمعت او كتبت بعد 150 سنة من موت محمد، فكيف لأدونيس ان يتحقق لنا من الجملة التي قالها عمر بن الخطاب ومن التاريخ الناصع الذي يستشهد به كي يقتدي “المسلمين” به! وليس هذا فحسب، بل ان علم الاثار، ما زال لم يكتشف ولم يثبت إلى الان وجود ذلك التاريخ كما يقول لنا المؤرخون وأبرزهم الدكتور خزعل الماجدي. ومع هذا وبغض النظر عن صحة الرواية التاريخية التي يتلوها علينا ادونيس، فهل يمكن تجاوز كل ذلك التاريخ الدموي وحصره بجملة واحدة لإثبات حقانيته الفكرية ونقده وكتابة علاج للواقع العربي على أساسه.
إن المعضلة الثانية في نقد أدونيس للواقع العربي والإسلامي هي نفس المعضلة التي وقع فيها جميع المثقفين والمفكرين القوميين العرب، وهي الانتقائية من التاريخ وفي أحيانٍ عديدة يحاولون لوي عنق التاريخ الى حد كسره، وغض الطرف او حجب الرؤية عن الحقيقة، مثلما تفعل النعامة بوضع رأسها في الرمال كي لا ترى الخطر الذي يحدق بها، وهم يمدون يدهم الى عمق التاريخ لاصطياد الأمثال والحوادث والجمل التي تخدم مشروعهم السياسي، وهو في جانب منه جزء من خطاب شعبوي يحاول دغدغة المشاعر الرجعية للجماهير، وابقائها اسرى التقاليد الفكرية والاجتماعية البالية بدل من توعيتهم وتسليحهم بمنهجية نقدية وموضوعية للتاريخ. إن منهجية ادونيس تصب في خدمة الادامة والاستمرار الفكري والسياسي لتلك التيارات، أنها منهجية في البحث عن الهوية وتثبيتها وبالتالي فرضها ووصم المجتمع بختم القومية والدين. أنه في الوقت الذي يمجد ذلك التاريخ الإسلامي ويتباهى به، يحاول تقديمه للعالم العربي نموذجا للاحتذاء به “وها هو إسلامُ هذا الجمهور يبدو اليوم، في الممارسة وفي النّظَر، أنّهُ عالَمٌ ليس فيه من الإسلام إلّا الاسم والشّكل، وليس فيه من سياسة النّبيّ أو عمر أو عليّ وفكرِهم إلّا الاسم والشّكل أيضاً.” فان نفس التاريخ الإسلامي مليء بالحروب والاغتيالات السياسية وتصفية المعارضين والتفنن بالتعذيب ـ انظر الى كتابي هادي العلوي “الاغتيال السياسي في الإسلام” و”من تاريخ التعذيب في الإسلام”، وكتاب “الحقيقة الغائبة” لفرج فودة – فضلا على تمزق الامبراطورية الإسلامية إلى دويلات وممالك وجماعات. واذا ما يذكر لنا أدونيس العصرين الأموي والعباسي بشكل ايجابي، فإن كلا العصرين انشغل امراؤهم بقتال المتمردين وقطع رؤوسهم وجلبها الى ديوان امير او حاكم أو خليفة المسلمين للتلذذ والانتقام والتأكد من موتهم، فعن أي تاريخ تليد يحدثنا ادونيس ويريد من “المسلمين أن يحتذوا به”!
ان الفكر القومي والايديولوجية القومية ليس من نتاج “امة العرب” ولا من إبداعات الحركة القومية العربية بل جاءت من الغرب، وان الابتكار او لنقل الابداع الوحيد لها هو اكتشاف “القضية الفلسطينية” وتبنيها والحاقها بالهوية القومية العربية. وكان على المفكرين والمثقفين القوميين تحضير روح جديدة لشحذ الهمم وتعبئة الجماهير حولها، فليس هناك تاريخ قومي “لامة العرب” تفتخر به، لان نفس الفكر القومي هو نتاج بزوغ فجر البرجوازية في الغرب في القرن الثامن عشر، ولم يكن هناك طريق آخر غير تأسيس ذهنية أقرب الى مختبر، يستقي منه امجاد تخيلية سمي بالتاريخ الإسلامي.
ان عملية الادغام بين الإسلام والقومية العربية كحركة مستقلة وواضحة المعالم ومناهضة للاستعمار والغرب، تعود الى العهد الناصري، فإن الدين لم يكن جزءا من المنهج الدراسي في العصر الملكي او عصر الملك فاروق، انما النظام الناصري من فرضه على المناهج الدراسية، وبموازاته تم تشييد عشرة آلاف مسجد وجامع منذ انقلاب العسكر في مصر 1952 حتى عام 1970، التي ما يعادل منذ إخضاع مصر لحكم الخليفة الاسلامي في المدينة، وكما تحول جامع الأزهر الى مدرسة عالمية بفضل تمويل النظام الناصري وتقديم المنح الى الطلبة الأجانب للدراسة فيه (انظر “العلمانية بين الطبقات وتياراتها السياسية”-الحوار المتمدن)، وفضلا على ذلك أن عبدالناصر وراء فكرة تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي وتنظيم مسابقات حفظ القرآن. وإذا كانت تلك “إنجازات” النظام الناصري، فأن الجناح البعثي هو الاخر وضع إضافات نظرية لعملية الإدغام بين القومية العربية والإسلام، والذي أبرز منظريه ميشيل عفلق، حيث سطر أجزاء عديدة من كتاباته التي توجت في مؤلفاته تحت اسم “في سبيل البعث” حول الهوية القومية العربية والإسلامية بأنها واحدة “فالإسلام إذن كان حركة عربية، وكان معناه، تجدد العروبة وتكاملها”، ولخصها في جملة واحدة: “إذا كان محمد كل العرب، فليكن اليوم كل العرب محمدا.” أي أن الادغام بين القومية العربية والإسلام وتحويلهما الى هوية جامعة وواحدة، بدئها التيار القومي العربي.
ان ما لا يريد ان يراه ادونيس بان المشروع القومي العربي سجل فشله بامتياز بجميع اجنحته الناصرية والبعثية وغيرها في “تحرير فلسطين” و”توحيد الامة العربية” واحتلال مكان مرموق في النظام الرأسمالي العالمي على الصعيد السياسي والاقتصادي. وعلى انقاضه، جاء الإسلام السياسي الذي رفع راية نفس المشروع القومي، ولكن بلباس أيديولوجي آخر. أي بمعنى آخر أن القومية العربية والإسلام هما وجهان لعملة واحدة، وكلا الأيديولوجيتين هما أيديولوجيات لأجنحة سياسية داخل العائلة البرجوازية العربية، وأنها أي تلك العائلة رفضت قسمة الامبريالية العالمية والفتات التي كانت تلقيها على مائدتها، وارادت حصة أكبر لها ومكانة أعظم في التقسيم الرأسمالي العالمي. وقد جرب هذه المرة الإسلام السياسي حظوظه والمضي بمشروعه بعد أن أصبح ذلك المشروع ثقلا على كاهل التيار القومي العربي وغير قادر على حمله.
“الربيع العربي” او “الربيع الغربي”
قبل كل شيء نريد توضيح بأن مقولة او مصطلح “الربيع العربي” هو مقولة غربية وتبنتها الأنظمة القومية العربية، وذلك تجنبا لاستخدام مقولة “الثورة”، فما حدث في مصر وتونس، كانت ثورة ضد الظلم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي القائم، ضد النظام الذي أرسى أسس ذلك الظلم، وهذا ما بث الرعب في قلوب الدوائر الرأسمالية والامبريالية العالمية. يستحق أن تطلق تسمية “الثورة” على ما جرى في تونس ومصر، ثورة اندلعت نتيجة عقود من القهر والاستبداد والإفقار والفساد وانعدام الحريات، ثورة قامت بها الطبقات والاقسام الاجتماعية المحرومة سواء اقتصاديا أو سياسيا، ولعبت الطبقة العاملة دورا محوريا فيها عبر اتحاد الشغل بالإطاحة بنظام زين العابدين في تونس، وفي مصر بدئها عمال المواصلات والنقل في إضرابهم العظيم لتنضم اليهم الأقسام العمالية الأخرى في اليوم الحادي عشر من الثورة، ليضغط على مبارك ويشد رحاله، وقد هب نسيم الثورتين على المنطقة. لقد بثت الثورتان الرعب في كل النظام الرأسمالي العالمي، واتفقت جميع أطراف ذلك النظام، اتفقت القوى الامبريالية العالمية ضمنا وبشكل عملي على الإطاحة برأس الثورتين، واجهاضها وتفريغها من محتواها، وتعويم مقايضة “الأمان مقابل الإذعان والإفقار”. وهكذا حاولت كل الأطراف الدخول في معترك الثورتين لتغيير مسارهما وتنصيب الأطراف المؤيدة لها والعمل على إعادة تقسيم مناطق النفوذ بين القوى الامبريالية.
طرح الإسلام السياسي نفسه كبديل لتلك القوى الامبريالية، وكانت أميركا وفي عهد إدارة أوباما، مبادرة ومقدامة في سعيها لتشكيل معادلة سياسية جديدة في الشرق الأوسط وشمال افريقيا عبر دعم جماعات الإخوان المسلمين للوصول الى السلطة في مصر وتونس، وبالفعل قدمت 300 مليون دولار دعم لانتخاب محمد مرسي في مصر الى جانب دعم وصول الغنوشي وحزبه (العدالة والتنمية) الى السلطة في تونس، وتحت عنوان دعم الإسلام المعتدل في المنطقة. وعلى هذه الأرضية نمت جميع الميليشيات والجماعات والعصابات الاسلامية في سوريا، ونفس السيناريو حدث في ليبيا. وجميع الاطراف سواء كانت غربية، او عربية موالية للغرب او التي كانت تبحث عن قطب دولي تستند عليه، اتفقا على إعادة سلطة القمع والاستبداد سواء كان ذلك قوميا او إسلاميا، المهم لا مجال ولا فرصة من تنازل الامبريالية العالمية عن قسم كبير من أرباحها للعمال والكادحين في الدول التابعة لها في التقسيم العالمي الرأسمالي، وفي حال وجود الحريات الإنسانية، يعني انتزاع الجماهير العمالية والكادحة المزيد من مطالبها المشروعة في تحسين وضعها المعيشي والإنساني والتمتع بالصحة والخدمات المجانية، ويعني في المقابل تخلي الدول الامبريالية والتي تابعة لها عن مزيد والمزيد من الأرباح التي تجنيها من عرق العمال والكادحين عبر الاستبداد والقمع الذي اشتهرت به الانظمة القومية العربية. هذا ما لا يريد ادونيس وغيره من المثقفين القوميين ان يروه، ولذلك يسميه بالربيع الغربي، والذي لم يكن أيضا ربيعا عربيا.
وهكذا تحولت مقولة الثورة الى “ربيع عربي”، وفي نظر المدافعين عن النظام العربي او الذي يحملون النزعة ضد الإسلام السياسي، يصورون كل ما حدث بأنه من صنيعة الغرب “ربيع غربي”، بينما الحقيقة هي أن من أشعل فتيل التغيير او الثورة هم العمال والكادحون والمنتفضون ضد الاستبداد والقمع، هؤلاء لا ينظر إليهم من وجهة نظر القوميين سوى أدوات او أناس خدعوا بالدعاية الغربية. وعلى الجانب الاخر كي لا تفكر جماهير المنطقة سواء التي اندلعت فيها ثورة او التي هبت نسيمها عليها، أعطت القوى الرأسمالية المحلية والامبريالية العالمية درسا لها عبر اطلاق العنان لكل الوحوش والعصابات والجماعات والمليشيات الإسلامية، لتعبث بأمن وسلامة الجماهير بعد فشل “الإسلام السياسي المعتدل” في مصر وتونس في احتواء الثورة وتفريغها من محتواها او بالأحرى إتمام الثورة المضادة. وهكذا اطيح بالإخوان المسلمين في مصر وبنفس السيناريو مع الاخذ بنظر الاعتبار توازن القوى في تونس اطيح بحزب العدالة والتنمية، وكانت آخر أوراقها هي ترتيب سيناريو داعش ودولته الإجرامية في سوريا والعراق، لتسديد ضربة نهائية الى اماني وطموح الجماهير من أجل تحقيق الحرية والمساواة الرفاه عبر انتصار الثورة.
هذه اللوحة غائبة بامتياز مع سبق الإصرار والترصد عن ذهن أدونيس واقرانه من الذين يختزلون الأحداث التي جرت في مصر وتونس والمنطقة بما آلت اليه الامور، وهي لم تكن من صنع الغرب كي يسميها ادونيس بالربيع الغربي، ولكن تغيير مساراتها السياسية وقلب الأحداث لإجهاض الثورة، أو القيام بثورة مضادة في مصر، مثل الانقلاب العسكري الذي قاده السيسي وفي تونس الانقلاب الذي قاده قيس سعيد، وفي السودان الانقلاب الذي قاده البرهان وانفراط عقد الحوثيين في اليمن. هذه الانقلابات على الثورة هي جزء من السياسة الامبريالية العالمية بجميع أقطابها الغربية والروسية، وشاركت فيها الأنظمة العربية لإعادة ترتيب الأوراق وخلق الاستقرار السياسي وتشكيل معادلات سياسية جديدة.
ان المشروع الإسلامي فشل ليس كما يصوره ادونيس لأنه لم يستطع من تجديد نفسه، فهو نفس الحال بالنسبة للمشروع القومي الذي هو الآخر أيضا فشل. إن فشل هذه المشاريع هي جزء من فشل النظام الرأسمالي، النظام الذي يولد في كل لحظة من لحظات حياته الحروب والحصار الاقتصادي والقمع والاستبداد والقتل والحرمان والظلم بكل اشكاله الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وقد فشل أيضا البديل الليبرالي والديمقراطي الذي تنمو على أنقاضه الفاشية القومية والعنصرية في اوروبا، وفشلت حتى الدكتاتورية التي كانت شكلا للسلطة في إدارة سلطة رأس المال والتي عرف بها في دول أميركا اللاتينية وأفريقيا وبلدان الشرق الأوسط في القرن المنصرم.
وأخيرا نقول، ان القضية الفلسطينية ليست بحاجة الى تصنيف أدونيس للبشر في منطقتنا الى مسلمين كي يواجهوا سياسات الغرب ويعطوا صورة مهيبة عن الاسلام، فها هي البشرية المتمدنة تدخل في مواجهة سافرة في الغرب ضد سياسة أنظمتها التي تبرر جرائم إسرائيل في غزة، بمعنى آخر ان القضية الفلسطينية غير مرتبطة لا بالعرب ولا بالمسلمين كي يصلح ادونيس حالهم وبالتالي كي ينهي الظلم القومي السافر على الفلسطينيين ويتم تأسيس دولتهم المستقلة. إن القضية الفلسطينية هي قضية الإنسانية وجزء من هويتها، وأثبتت حرب إسرائيل على غزة، ان القضية الفلسطينية تجاوزت القومية والدين والطائفة والعرق والجنس، وكسرت هذا الاحتكار المقيت من قبل المتاجرين بها من قبل التيارات الإسلامية والقومية، وما يجري من احتجاجات وتظاهرات عظيمة في العالم ضد إبادة إسرائيل للفلسطينيين وضد الانظمة الغربية التي تناصر إسرائيل هو التباشير الأولى لفتح افاق جديدة امام نضال البشرية كي تعيش انسانيتها. وهنا لا يبقى امام ادونيس غير إطلاق اهاته وعبراته وزفراته على ما آل إليه المشروع القومي المطرز بالزي الإسلامي وبغض النظر عن منشأه الاموي او العباسي والأندلسي.
نقلاً عن “ميدل إيست أونلاين”