مصطفى أحمد
في يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ألقى رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” خطابا أمام البرلمان تحدث فيه عن الضرورة الوجودية لوصول دولته الحبيسة جغرافيًّا إلى المياه الدافئة مرة أخرى (1)، وذلك عبر ميناء سيادي على ضفاف البحر الأحمر عن طريق إريتريا أو الصومال أو جيبوتي. وقد استشهد آبي أحمد في حديثه بمقولة “علولا أنغيدا” (المعروف بـ”آبا نيغا”)، القائد العسكري الإثيوبي في القرن التاسع عشر، الذي قال إن “البحر الأحمر هو الحدود الطبيعية لإثيوبيا”. وكانت إثيوبيا تتمتع منذ منتصف القرن الماضي بمنفذ بحري مستدام وسيادي على البحر الأحمر عبر مينائي “عَصَب” و”مصوَّع” في إريتريا حتى استقلال الأخيرة عنها عام 1993، وهي تعتمد منذ ذلك التاريخ على ميناء جيبوتي منفذا وحيدا يمر من خلاله نحو 95% من تجارتها مع العالم الخارجي.
أتى الرد الرسمي من الدول الثلاث التي ذكرها آبي أحمد في خطابه بالرفض القاطع، حيث تحدث وزير الدولة للشؤون الخارجية في الصومال عن السيادة المقدسة للبلاد على أصولها البرية والبحرية والجوية (2)، في حين قالت جيبوتي على لسان مستشار رئيسها إن سلامة أراضيها ليست محل نقاش اليوم أو غدا (3). وقد أتى الرد الإريتري أشد منهما، حيث صدر بيان مقتضب لم يتعدَّ أربعة أسطر عن وزارة الإعلام الإريترية دون ذكر اسم آبي أحمد أو منصبه، واصفا خطابه بأحاديث القيل والقال حول المياه والمنافذ البحرية، وناصحا المتابعين بعدم الانجرار وراء تلك الأقاويل، مضيفا أن الحكومة الإريترية لا تعير تلك الدعوات أهمية تُذكر (4).
تبع ذلك البيان تجاهل مُتبادل بين الرئيس الإريتري أفوِرقي وآبي أحمد أثناء القمة السعودية-الأفريقية التي انعقدت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في الرياض، فلم يُرصَد أي لقاء أو محادثات ثنائية بين الرجلين، رغم أن كليهما عقد لقاءات منفردة مع بقية زعماء ورؤساء دول القارة الحاضرين في المؤتمر، ما عزَّز التكهنات حول اقتراب نهاية حقبة الهدوء بين البلدين الجارين، وبدأ العد التنازلي لحرب جديدة بينهما، يشُنها آبي أحمد، الرجل الذي نال جائزة نوبل عام 2019 على جهوده في التوصُّل إلى اتفاق سلام مع إريتريا.
إثيوبيا تبحث عن منفذ بحري
تنظر إثيوبيا إلى منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل والبحيرات العظمى بوصفها منطقة نفوذ إقليمي تسعى فيها لإبراز هيمنتها وتوسيع نفوذها لكي تصبح أحد أقطاب القارة الأفريقية، وتعتبر أن الحصول على منفذ بحري سيادي لها على البحر الأحمر إحدى أهم أدوات تحقيق هذا الهدف، وهناك ثلاثة أسباب رئيسية لهذا المسعى: إستراتيجي-جيوسياسي، وعسكري-أمني، واقتصادي.
على المستوى الإستراتيجي والجيوسياسي، يُمثِّل امتلاك منفذ بحري لإثيوبيا على البحر الأحمر هدفا للإدارات الإثيوبية المتعاقبة منذ تحوَّلت إثيوبيا إلى دولة حبيسة، حيث يضمن لها ذلك وجودا دائما على ضفاف هذا الممر الإستراتيجي؛ ما يترتب عليه تسهيل تجارتها مع العالم الخارجي، ولعب دور في معادلة أمن البحر الأحمر، وامتلاك قاعدة بحرية إثيوبية (قد تكون بدعم غربي) بالقرب من مضيق باب المندب بحجة تعزيز التجارة الإثيوبية وحماية مرور التجارة الدولية والملاحة البحرية، خاصة أن أديس أبابا لديها شعور بالسخط بعد تجاهلها من قِبَل مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن الذي تأسس في يناير/كانون الثاني 2020، ويضم مصر والسودان وإريتريا وجيبوتي والصومال من الضفة الأفريقية للبحر الأحمر، والسعودية والأردن واليمن من الجانب الآسيوي (5).
قد يضمن المنفذ البحري لأديس أبابا في الوقت نفسه زيادة اعتماد القوى الدولية الفاعلة في المنطقة عليها كي تستعيد ثقة الغرب، لا سيما بعد تراجع العلاقات بين الطرفين بسبب تداعيات الحرب الإثيوبية الأخيرة في إقليم تيغراي شمالي البلاد، إضافة إلى ما يحققه ذلك من تنويع لخياراتها الإستراتيجية بدلا من الاعتماد على ميناء جيبوتي وحده، تحسُّبا لأي تحولات محتملة في العلاقات مع الأخيرة في المستقبل في ظل تعقُّد التفاعلات الإقليمية في القرن الأفريقي، لا سيما مع وجود مخاوف إثيوبية من تزاحم القوى الدولية في جيبوتي، وما ينطوي عليه من تناقضات مصالح الأطراف المختلفة، التي قد تهدد النفوذ الإثيوبي.
على المستوى العسكري والأمني، يتيح الوجود الدائم على ضفاف البحر الأحمر لإثيوبيا أن تحافظ على أمنها القومي بفاعلية أكبر، إضافة إلى تعزيز قدرتها على التدخل في مناطق أخرى. وفي هذا الإطار أعلن آبي أحمد عام 2019 نية بلاده إعادة تأسيس القوة البحرية الإثيوبية بمساعدة فرنسية، بعد أن فُكِّكت في أواخر تسعينيات القرن الماضي على إثر تحوُّل إثيوبيا إلى دولة حبيسة (6). كما أُسِّس المعهد البحري الفني الإثيوبي بهدف تخريج مهندسين وبحارة على قدر من المهارة والتدريب المتميز، وقد قام المعهد بالفعل بتخريج أولى دفعاته منتصف العام الحالي (7). بالإضافة إلى ذلك، يُعزز امتلاك أديس أبابا منفذا بحريا قدرتها على التصدي لمحاولات بعض القوى الإقليمية المناوئة لها الوجود العسكري في باحتها الخلفية، من خلال تأسيس قواعد عسكرية وبحرية بالقرب من إثيوبيا، مثل إريتريا وجيبوتي والصومال.
إن تعدد المنافذ البحرية لأديس أبابا على المياه الدافئة للبحر الأحمر يعالج نقطة ضعف عسكرية عند أديس أبابا قد يستغلها خصومها الداخليون والخارجيون في أي مواجهة مستقبلية، تماما مثلما فعلت جبهة تحرير شعب تيغراي عندما حاولت قطع الطريق الواصل بين إثيوبيا وميناء جيبوتي في الحرب التي دارت رحاها في السنوات الماضية (8). فضلا عن أن المنفذ يُمكِّن إثيوبيا من لعب دور محوري في المعادلة الأمنية بالقرن الأفريقي، حيث دأبت أديس أبابا على تسويق نفسها للقوى الدولية بوصفها شرطيَّ المنطقة، وهو ما تجلى في مشاركة القوات الإثيوبية باستمرار ضمن قوات حفظ السلام الأممية وقوات الاتحاد الأفريقي المنتشرة في الصومال والسودان وغيرهما.
أخيرا، وعلى المستوى الاقتصادي، فإن مضيق باب المندب إلى الجنوب وقناة السويس إلى الشمال يستقبلان نحو 12% من إجمالي تجارة النفط المنقولة بحرا، ونحو 8% من شحنات الغاز الطبيعي المسال عالميا (9)، ولذلك فإن أحد أهداف إثيوبيا من تأمين منفذ بحري سيادي في هذا الموقع هو التحوُّل إلى مركز صناعي ولوجيستي إقليمي، ما ينعكس بالإيجاب على نمو اقتصادها، ومن ثمَّ يعزز نفوذها في القرن الأفريقي، إذ يجعلها قادرة على ربط اقتصادات دول المنطقة بالاقتصاد الإثيوبي وترسيخ حضور أديس أبابا وهيمنتها، كما يجعلها مقصدا للاستثمارات الأجنبية، فضلا عن خفض رسوم استخدام ميناء جيبوتي الذي يكلف الموازنة العامة الإثيوبية مليارَيْ دولار سنويا.
بعد أن أوضحنا ما يمكن أن نطلق عليه تحدي الدولة الحبيسة، وأهمية وجود منفذ بحري في مشروع إثيوبيا الإقليمي المنشود من أجل الهيمنة على القرن الأفريقي، من المهم أن نرصد تحركات أديس أبابا نحو تحقيق هدفها. وهناك مسارات تبدو متناقضة تسلكها إثيوبيا في مساعيها، أولها مسار دبلوماسية الموانئ وتصفير المشكلات مع دول الجوار، وثانيها مسار المواجهة مع الجميع الذي انقلب إليه آبي أحمد بعد اندلاع الصراع مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي.
من دبلوماسية الموانئ إلى المواجهات المفتوحة
بالتزامن مع توليه السلطة عام 2018، أعلن آبي أحمد التحالف مع “جوهر محمد” القائد السياسي البارز لقومية الأورومو، أكبر الجماعات العِرقية في البلاد، كما أظهر مرونة وتفهما في التعاطي مع طلبات باقي القوميات، مثل الأمهرة والصوماليين الإثيوبيين وعدد من القوميات الجنوبية. وبعد ما يقرب من ثلاثة أشهر فقط استطاع آبي أحمد الوصول إلى تسوية سلمية مع الرئيس الإريتري أسياس أفوِرقي أنهى بها عشرين عاما من الصراع بين الجارتين، وسط تفاؤل بقدرة رئيس الوزراء الشاب على تحقيق الاستقرار والسلام المفقود في المنطقة منذ عقود، وقبل نهاية عام 2018 أُعلِن عن تحالف سياسي ضم كلًّا من إثيوبيا وإريتريا والصومال (10). وقد بعث آبي أحمد أيضا برسائل طمأنة للجانبين المصري والسوداني فيما يخص الخلاف حول سد النهضة، بل ووصل الأمر إلى أن أقسم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في مؤتمر صحفي مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأنه لن يلحق الضرر بمصر، وتبع ذلك الإعلان عن استئناف المفاوضات مرة أخرى بين الدول الثلاث.
على مستوى الاقتصاد الكلي استطاع آبي أحمد المحافظة على ثبات النمو المتسارع للاقتصاد الإثيوبي، الذي كان مصنفا وقت توليه السلطة بأنه أحد أسرع الاقتصادات نموا في العالم، حيث سجل عام 2019 معدل نمو بلغ 9% (11). وعلى صعيد الاتفاقات التجارية والاقتصادية استطاعت إثيوبيا في خمسة أشهر من عام 2018 إبرام اتفاقات لتخصيص حصص لها في بعض الموانئ البحرية في منطقة القرن الأفريقي، إذ وقَّعت اتفاقا مع الصومال في يونيو/حزيران 2018 يتضمن استثمار إثيوبيا في أربعة موانئ بحرية بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية، كما أبرمت اتفاقا مع جيبوتي في العام نفسه إبَّان أول زيارة خارجية لآبي أحمد لشراء حصة من ميناء جيبوتي، وذلك في مقابل استحواذ الحكومة الجيبوتية على حصص من بعض الشركات الإثيوبية، مثل شركة إثيوتيلكوم للاتصالات وشركة الكهرباء الإثيوبية وشركة الخطوط الجوية الإثيوبية (12).
بالإضافة إلى ذلك، وُقِّع اتفاق آخر مع السودان في مايو/أيار 2018 للوصول إلى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر (13)، كما أعلنت هيئة موانئ دبي العالمية في مارس/آذار من العام ذاته توقيع اتفاق مشترك مع إقليم صوماليلاند وإثيوبيا يُمكِّن أديس أبابا من الاستحواذ على حصة نسبتها 19% في ميناء بربرة بإقليم صوماليلاند، علاوة على تطوير الطريق البري الرابط بين الأراضي الإثيوبية والميناء محل الاتفاق، وتحويل الطريق إلى مركز لوجيستي يخدم حركة التجارة بالميناء (14). كما أبرمت أديس أبابا اتفاقا مع كينيا في مايو/أيار 2018 يهدف إلى تسهيل حصول إثيوبيا على أراضٍ في جزيرة “لامو” جزءا من مشروع “لابسيت” (LAPSEET) الذي تبلغ تكلفته 24 مليار دولار ويهدف إلى ربط إثيوبيا وكينيا وجنوب السودان.
ولكن رغم كل هذه الإنجازات التي حققتها دبلوماسية أديس أبابا، سرعان ما اتجه رئيس الوزراء الإثيوبي إلى الطريق المُعاكِس، مدفوعا بما جرى على مستوى الجبهة الداخلية. من المهم أن نفهم أن إثيوبيا تعاني من معضلة اندماج وطني عميقة ومتجذرة بين مكوناتها، حيث يعيش فيها 120 مليون نسمة تنقسم إلى أكثر من 80 جماعة عِرقية. وللتغلب على ذلك قررت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، التي سيطرت على السلطة بعد الإطاحة بنظام منغِستو العسكري في أوائل التسعينيات، تأسيس حزب الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية، وهو تحالف بين أربعة كيانات قومية: الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي مُمثلا لقومية التيغراي، وحزب الأورومو الديمقراطي مُمثلا لقومية الأورومو، وحزب الأمهرة الديمقراطي مُمثلا لقومية الأمهرة، وحزب الحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا مُمثلا لعدد من القوميات الصغيرة في الجنوب. وقد اعتُمِدَت الصيغة الفيدرالية للحكم، وانقسمت البلاد إلى تسعة أقاليم لكلٍّ منها برلمان وحكومة وميزانية، والتزم آبي أحمد في شهوره الأولى بتلك المعادلة التي أمَّنت استمرار الدولة الاتحادية طيلة عقديْن ونصف، بل إن توليه السلطة بصفته أول حاكم من الأورومو جاء بهدف ضمان استمرار الفيدرالية التي تأثرت بسبب هيمنة التيغراي على السلطة في حزب الجبهة.
بدأ التحول عن هذا المسار في أواخر عام 2018، حين أُعلِن عن تدشين التحالف الثلاثي بين إثيوبيا بقيادة آبي أحمد وإريتريا بقيادة أفورقي والصومال بقيادة عبد الله فرماجو (15). وكانت الإستراتيجية الأساسية للتحالف هي تجاوز صيغة الحكم الفيدرالية الساعية لاستيعاب واحتواء التنوع العِرقي الواسع في البلاد، إذ رأى القادة الثلاثة بأنها تؤدي إلى إضعاف بلادهم وانعدام استقرارها. وبدلا من ذلك، فإنهم يفضلون محاربة المكتسبات الفيدرالية للجماعات العِرقية تمهيدا لتأسيس دولة قومية مركزية. وكانت تجربة عراب التحالف أفورقي الذي يحكم إريتريا منذ ثلاثة عقود عبر نظام شمولي بمنزلة نموذج قرر آبي أحمد وفرماجو الاقتداء به على ما يبدو.
بعد إعلان التحالف الثلاثي، شنَّ آبي أحمد حربه الأولى على قومية الأورومو التي ينتمي إليها متمثلة في جيش تحرير الأورومو، وفي ديسمبر/كانون الأول أعلن إلغاء حزب الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الحاكم، وأسس حزب الازدهار (16). وفي خطوة استباقية لتأسيس حزبه قام آبي أحمد في أبريل/نيسان 2019 بعزل قيادات حزب الأورومو الديمقراطي، وكان في مقدمة المعزولين حاكم إقليم أوروميا ووزير الدفاع في الحكومة الاتحادية “لِمَّا مِغيرسا” (17). ثم أطلق الرجل حملة اعتقال واسعة ضد قيادات الأورومو السياسية والشعبية ومنهم جوهر محمد، رغم أن هؤلاء كانوا سببا مباشرا في وصول آبي أحمد إلى الحكم (18). ولم تتوقف الاشتباكات المسلحة بين الطرفين حتى اللحظة رغم محاولات الوساطة، وآخرها جولة مفاوضات عُقدت أواخر نوفمبر/تشرين الثاني في تنزانيا بين ممثلي الحكومة وجيش تحرير الأورومو، انتهت دون التوصل إلى اتفاق بين الطرفين (19).
شنَّ آبي أحمد الهجوم الأعنف والأكثر دموية في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 في مواجهة قومية التيغراي متمثلة في الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وذلك بمعاونة من حليفه الجديد أفوِرقي وقوات من قومية الأمهرة أبرزها ميلشيات فانو. وقد استمرت المعارك سنتين وراح ضحيتها أكثر من نصف مليون قتيل، إضافة إلى مليون نازح تقريبا، فضلا عن تدمير أهم البنى التحتية في إقليم تيغراي والانتهاكات الإنسانية المروعة التي سُجِّلَت غالبيتها من قوات الجيش الإريتري بقيادة أفورقي (20).
بعد مرور عامين من القتال، واستجابة للضغط الدولي والإقليمي المتزايد، عُقِد اتفاق سلام في مدينة بريتوريا بجنوب أفريقيا، ما أدى إلى إعلان وقف إطلاق النار، وحصلت أديس أبابا بفضل هذا الاتفاق على مساعدات من الاتحاد الأوروبي بلغت نحو 650 مليون يورو (21). وأخيرا أتت الحرب الأخيرة ضد ميليشيات فانو الأمهرية، الحليف السابق لآبي أحمد في حرب تيغراي، التي اندلعت في أبريل/نيسان الماضي على خلفية رفض هذه الميليشيات تسليم سلاحها للحكومة المركزية والانسحاب من إقليم تيغراي ودمج قواتها في الجيش الفيدرالي الإثيوبي تطبيقا لاتفاق بريتوريا، وما زال القتال مستمرا حتى وقتنا هذا (22).
انهيار التحالف الثلاثي
انهار التحالف الثلاثي بين آبي أحمد وأفوِرقي وفرماجو بعد اتفاق بريتوريا الذي رفضه أفوِرقي ضمنيا، حيث رفضت أسمرة انسحاب قوات الجيش الإريتري حتى الآن من إقليم تيغراي، واستمر تسجيل المذابح وانتهاكات حقوق الإنسان ضد المدنيين هناك (23). هذا بينما اختفى الطرف الثالث للتحالف عبد الله فرماجو من المشهد بعد أن فشلت مساعيه للاستمرار في الحكم، حيث أدى ذلك إلى نشوب نزاع مسلح وأزمة دستورية في مقديشو، انتهت بتولي “حسن شيخ محمود” رئاسة الصومال منتصف العام الماضي.
على صعيد أزمة سد النهضة وَصَل التوتر بين القاهرة وأديس أبابا إلى أعلى مستوياته، بعد أن فشلت جميع جولات التفاوض حول اتفاق ملزم لملء وتشغيل السد، مع استمرار إثيوبيا في عملية الملء المنفرد، حيث استكملت أديس أبابا أربع مراحل من الملء، وكثَّفت استعداداتها للملء الخامس على التوالي تزامنا مع فيضان العام القادم. ورغم انشغال الخرطوم بالنزاع الداخلي المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع، فإن مشاهد جفاف المياه في أنهار السودان التي نتجت عن استمرار إثيوبيا في الملء فاقمت الغضب تجاه أديس أبابا، فضلا عن تجدد الاشتباكات المسلحة حول النزاع على إقليم الفشقة الحدودي منذ أواخر عام 2020 (24).
على المستوى الاقتصادي (25)، تأثرت إثيوبيا كثيرا بانقلاب آبي أحمد على التزامه بالمعادلة الفيدرالية، فقد انخفض معدَّل النمو بعد مستوياته القياسية عام 2019 إلى 5.3% فقط العام الماضي، وقفز معدَّل البطالة إلى 4% عام 2022. أما معدَّل التضخُّم فارتفع بشدة، وبلغ أعلى مستوياته طيلة العاميْن الماضيين، متجاوزا 30%. وبالنسبة لصافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، فإنها سجَّلت انخفاضا بمعدل 2.90% نسبةً من إجمالي الناتج المحلي لعام 2022، ما مَثَّل انتكاسة للتحسن الملحوظ الذي طرأ عام 2021، وتراجعا حادا عن عام 2018.
تعثرت إثيوبيا أيضا في تنفيذ اتفاقيات التعاون التجاري والبحري وأُلغي بعضها، مثلما حدث مع اتفاقية ميناء بربرة التي ألغتها حكومة صوماليلاند في يونيو/حزيران 2022 بسبب عدم التزام الجانب الإثيوبي (26). أما أزمة الديون المتفاقمة فباتت تهدد بتخلف إثيوبيا عن السداد، حيث يبلغ حجم الديون للسنة المالية الحالية 2022-2023 نحو 28 مليار دولار، ما يُمثِّل نحو ربع الناتج المحلي للبلاد، كما وصلت تكلفة الفائدة على الديون المستحقة للعام الحالي إلى 1.6 مليار دولار، في وقت انخفضت فيه احتياطيات العملات الأجنبية إلى 1.5 مليار دولار، وهو ما يكفي لتغطية فواتير الاستيراد لمدة شهر واحد على الأكثر وفقا لأحدث توقعات وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، التي خفَّضت تصنيف إثيوبيا إلى (CC)، أي يفصلها عن إعلانها دولة متخلفة عن السداد درجة واحدة فقط (27).
سيناريوهات الصراع في شرق أفريقيا
على ضوء توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين إثيوبيا وجيبوتي قبل نحو شهر تقريبا، وبالنظر إلى ما يحتوي عليه التوسع الإثيوبي إلى ضفاف البحر الأحمر عبر الصومال من تعقيدات جيوسياسية وإقليمية، يمكننا أن نحدد وجهة طموحات آبي أحمد البحرية بشكل أكثر وضوحا. فقد صرح آبي أحمد مؤخرا أن بلاده ظلت تمتلك مينائين حتى تاريخ استقلال إريتريا، منوها بأن حصول بلاده على المنفذ البحري لا يُمثِّل انتهاكا للسيادة الإريترية، ما يرجح كفة إريتريا بوصفها هدفا للتوسع المنشود، ويضعنا أمام أحد سيناريوهين (28).
السيناريو الأول هو اندلاع الحرب بين إثيوبيا وإريتريا، وهو ما تعززه الخلفية التاريخية للصراع بين البلدين منذ الستينيات، والضم القسري لأراضي إريتريا، الذي قام به آخر أباطرة إثيوبيا “هيلا سيلاسي”، مرورا بمصير النضال المشترك ضد حكم الجنرال منغِستو في التسعينيات بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بقيادة “ميليس زيناوي” والجبهة الشعبية لتحرير إريتريا بقيادة أسياس أفورقي، وهو نضال تحول إلى حرب بين الرجلين نفسيهما بعد تولِّي كلٍّ منهما قيادة بلاده عام 1998. يُعزز ذلك السيناريو الحشد المتبادل لقوات الدولتين على الحدود، وتصاعد الاتهامات الإثيوبية ضد أفورقي بأنه يُدرِّب ويُسلِّح ميلشيات فانو الأمهرية، وإعلان إقليم تيغراي الإثيوبي استضافته جماعات معارضة إريترية ضد حكم أفورقي (19)، والسعي الإثيوبي الحثيث لتجميع العتاد العسكري (30)، وبالتزامن مع تحرُّك سياسي من أفورقي لتوطيد علاقاته بمصر وروسيا فيما يبدو أنه تحرك استباقي لمواجهة حلفاء أديس أبابا الغربيين، حيث إن توظيف التناقضات الإقليمية والدولية مهارة يجيدها أفورقي ويمارسها منذ ثلاثين عاما.
غير أن ما يعوق تحقق هذا السيناريو هو الأزمة الاقتصادية والداخلية التي يواجهها آبي أحمد، إضافة إلى التوترات الجيوسياسية المرتفعة حاليا نتيجة لعملية “طوفان الأقصى” في الأراضي المحتلة، مُتمثلة في استهداف جماعة أنصار الله الحوثي للسفن الإسرائيلية أو تلك المتجهة إلى موانئ إسرائيل، ما قد يدفع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في القرن الأفريقي إلى التدخل لمنع فتح جبهة جديدة للصراع في المنطقة. وأخيرا، هناك سيناريو ثانٍ يتمثَّل في تصعيد الضغط دبلوماسيا وإعلاميا من جانب أديس أبابا، واستخدام آبي أحمد لاتفاق بريتوريا لحشد دعم إقليمي ودولي يُمكِّنه من التوصل إلى اتفاق آخر ملزم بشروط ميسرة يتيح له استخدام أحد موانئ دول القرن الأفريقي منفذا بحريا سياديا لإثيوبيا على البحر الأحمر. وختاما، فإن منطقة القرن الأفريقي بأهميتها الإستراتيجية وتداخلات المصالح الإقليمية والدولية بها تجعلها دوما مرشحة بقوة للانفجار في أي وقت، ما يجعل كل الخيارات مفتوحة على مصراعيها في المستقبل.
المصدر : الجزيرة