موسى برهومة
كاتب أردني
السلام على أهل غزّة لا ينقطع. والترحّم على الشهداء موصول. وأمّا الحزن الذي في القلب فجارف وهادر، فلي تحت أنقاض غزّة أصدقاء وأعزّاء وأنسباء وأهل لم يقيّض لهم أن يشيّعوا أو يُدفنوا أو يُفتح لهم “بيت أجر”، فكلّ غزّة مأتم مفتوح على الفجيعة. وربما يردّد صوتٌ لم يخمده التراب تحت الأنقاض: “عيدنا يوم نصرنا”. ولكن: بأيّة حال عدتَ أو ستعود يا عيدُ.
وفي زحام المبادرات والاتفاقات السريّة في العواصم القريبة والبعيدة، يتسرّب وعد بأنّ الحرب قد انتهت، أو هي على وشك أن تشهق آخر أنفاسها الكريهة. لكنّ الوقائع تشير إلى أنّ الحرب ستبدأ من حيث تصمت المدافع في غزّة.
منذورين للحرب منذ رأتْ عيوننا الشمسَ المجاورة لغيمة بليلة بدت كما لو أنها على وشك الإجهاش في البكاء. كانت المدافع في ذلك الحين تتهيّأ للمنازلة الكبرى. وما هي إلا أيام ستة حتى عاد الجنود، (أو من عاد منهم)، مهزومين معفّرين بوحل المرارة والخسران.
ومع كلّ حرب خسرناها (لقد كسبنا فقط حروباً رمزية!) كانت تندلع مشاريع “السلام”. وما كان ذلك السلام إلا هزيمة أخرى بياقة منشّاة وبذلة داكنة وحذاء أسود يزهو بلمعانه: وقّع هنا سيّدي، فمزارع العنب، وجنّات الزيتون في انتظارك، فالشرق الأوسط سيكون واحة غنّاء. وقّع وما عليك!
وبقينا على هذا الوتيرة أكثر من نصف قرن شاهدَ كاتب هذه السطور فصولها، ففرح قليلاً وأصابه الكمد طويلاً، وكاد أن يفقد الأمل لولا أنّ العيش حينها سيضيق كثيراً، فعمل على محاصرة تشاؤم العقل بتفاؤل الإرادة.
وفي غمرة التقلّبات النفسيّة والفكريّة العاصفة لم يسقط من مقبضي مشعل الإيمان بالمقاومة بمستوياتها كافة، صغيرها وكبيرها، حتى لو كان الأمر مرهوناً بتصويب كتابة وتنقيتها من زؤان الأخطاء الفاحشة، إلى مجابهة قيود العيش، والمجاهدة في البقاء في منطقة النقاء، والابتعاد عن الزيف والمتاجرة ورهن الإرادة وتطويع النفس وتدجينها حتى لو كان ذلك مدرّاً للمال. المال والمهانة لا يجتمعان!
ومن المقاومة أن تقارع عدوّاً، وأن تناكف خصماً، وأن تكدّر صفوَ سلطة غاشمة. لذلك فإنّ ما يجري في غزّة يرفع منسوب النّار التي تغلي تحت مرجل الأمل. “إيه في أمل”، تقول الأغنية والمعجزات، لكنّ السماء ملبّدة بدخان القنابل السامّة، والشوارع لا تصلح لمشي بعير، و”الأرض أصغر من مرور الرمح في خصر نحيل، والأرض أكبر من خيام الأنبياء”.
لتلك الأرض التي نخرها الرصاص، وسوّت الصواريخ عاليها بأسفلها، ورشقت أشلاء البشر على الجدران المتداعية.. لتلك الأرض يحنّ الرجل الذي عاصر هزائم كثيرة، لكنّ منّى النفس أن يشهد مثل هذا اليوم، حيث يدمّر رجل يدعى “أبو شبشب” دبّابة ميركافا، ويعود هاتفاً: ولّعت!
الحرب لم تنتهِ. الحرب لن تنتهي. الحرب اندلعت وسيطول اشتعالها. لكنها لن تكون حرباً عبثيّة، كما تقول الإرادة المتفائلة، بل ستكون خطوة تقرّب البعيد، وتدكّ حصون المستحيل. ماذا لو حلم ذلك اللاجىء الأبديّ بالعودة؟ لو اختبر مرونة المفتاح في قفل باب البيّارة في صرفند العمار؟
الأفكار الكبرى تبدأ بحلم. أنا لديّ حلمٌ مثلك يا مارتن لوثر كينج، أيها الزنجيّ العظيم، أيها القائد الملهم بخطابك الذي ألقيتَه قبل سبعين عاماً، فحرّرت به قومك، وأنا من قومك ومن سلالتك الروحيّة البعيدة، ولهذا أقتبس:
“دعوا الحريّة تدقّ. وعندما يحدث ذلك، عندما ندع الحريّة تدقّ، عندما ندعها تدقّ من كلّ قرية ومن كلّ ولاية ومن كل مدينة، سيكون قد اقترب هذا اليوم ويكون كلّ الأطفال الذين خلقهم الله: السود والبيض، اليهود وغير اليهود، الكاثوليك والبروتستانت قد أصبحوا قادرين على أن تتشابك أيديهم وينشدون كلمات أغنية الزنجيّ الروحيّة القديمة: (أحرار في النهاية. أحرار في النهاية. شكراً يا رب العالمين، نحن أحرار في النهاية)”.
نقلاً عن حفريات