عدن – فؤاد مسعد
الأهمية الاستراتيجية
يعتبر مضيق باب المندب من أهم الممرات المائية الدولية، بحكم أهمية المسطح المائي الذي ينتمي إليه، وهو البحر الأحمر، بالإضافة إلى أهمية موقعه الجغرافي المتميز، وسيطرته على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وتكوينه للمياه الإقليمية للدول الآسيوية والأفريقية (اليمن، جيبوتي، أرتيريا)، مما جعله يشكل مجالاً واسعاً ضمن أولويات استراتيجية الدول الكبرى وأطماعها الاستعمارية منذ القرن السادس عشر الميلادي.
ويستمد باب المندب أهميته كنقطة اختناق كثيف للشريان البحري العالمي، من موقعه في نهاية الطرف الجنوبي للبحر الأحمر الذي يعد أقصر طريق بحري يربط بين الشرق والغرب بحكم خصائصه الجغرافية، لذا فإن أهميته ترجع إلى تحكمه في التجارة العالمية، وبالإضافة إلى كونه المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، فهو عنق الزجاجة التي تربطه بخليج عدن، ومنه إلى البحر العربي فالمحيط الهندي، ثم إلى جنوب شرق وشرق آسيا على المحيط الهادي، كما أنه الممر المائي الذي يوصل بين المحيطين الهادي والهندي والبحر المتوسط عن طريق البحر الأحمر عبر قناة السويس فالمحيط الأطلسي.
ويعتبر مضيق باب المندب أحد أهم الممرات البحرية الدولية، لما له من ميزة في الربط بين الجانبين الشرقي والغربي للعالم، ولحجم التجارة الدولية وحركة نقل النفط من خلاله، باعتباره نقطة التقاء حاسمة لحركة التجارة الدولية، فمعظم التجارة ما بين الاتحاد الأوروبي من جهة، والصين واليابان والهند وبقية آسيا من جهة أخرى، تمر عبر المضيق الذي يعتبر ممراً رئيسياً لأكثر من 30 بالمائة من حركة النفط العالمية خاصة من الخليج العربي وإيران، وقد ازدادت أهميته بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، وظهور أكبر مخزون للبترول في شبه الجزيرة العربية.
ويحتل مضيق باب المندب المرتبة الثالثة عالمياً بعد مضيقي ملقا وهرمز، حيث يمر عبره يومياً ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف برميل نفط، وتمثل 4 بالمائة من الطلب العالمي على النفط، كما تمر عبره 21 ألف سفينة سنوياً، أي أن الشحنات التجارية التي تمر عبره تعادل 10 بالمائة من الشحنات التجارية العالمية.
وتكمن أهميته العسكرية في كونه يمثل منطقة الاختناق الجنوبية للبحر الأحمر ويوفر ميزة الدفاع عن المدخل الجنوبي للبحر، من نقاط حصينة تقع إما على الشواطئ المرتفعة المحمية طبيعياً، أو فوق جزيرة بريم التي تعترضه، إذ يمكن إقامة نقاط الرصد والمراقبة ومحطات الرادار أو إقامة القواعد العسكرية، لما يوفره الوضع الجغرافي لمضيق باب المندب.
إسرائيل تبحث عن موطئ قدم
في الحرب التي شنتها القوات الإسرائيلية على العرب سنة 1967 (وتعرف باسم نكسة 1967)، طلبت إسرائيل من حليفتها بريطانيا الإبقاء على قوات عسكرية في جزيرة بريم الاستراتيجية بهدف إبقاء السيطرة على مضيق باب المندب، أما في حرب أكتوبر 1973 فقد تم إغلاق المضيق في وجه الملاحة الإسرائيلية بتنسيق يمني مصري، وأدى ذلك الإغلاق إلى حرمان الكيان الصهيوني من مادة استراتيجية مهمة، هي النفط الذي كان ينقل من إيران إلى ميناء إيلات، وحرمانه أيضاً من الاتصال بشرق أفريقيا وجنوبها وجنوب شرق آسيا، مما سبب له أضرارا اقتصادية كبيرة. وكان ذلك أحد أسباب الانتصار المصري العربي على إسرائيل في تلك الحرب. وبعدها زادت الأهمية الاستراتيجية لمضيق باب المندب.
إسرائيل التي وجدت نفسها محاصرة بدول عربية معادية، وشعوب مقاطعة، أدركت أهمية مضيق باب المندب الاستراتيجية، خاصة أنه يقع على الطرف الجنوبي للبحر الأحمر الذي يطل عليه ميناء إيلات الإسرائيلي من الجهة الشمالية الغربية، وكانت إسرائيل قد اطمأنت إلى وجود حلفائها في جنوب البحر الأحمر، حتى انطلقت الثورة اليمنية الخالدة في سبتمبر 1962 وأكتوبر 1963 التي أنهت حكم حليفين رئيسيين لإسرائيل، وهما مملكة الإمامة البائدة في الشمال وامبراطورية الانجليز في الجنوب، لذلك وقفت إسرائيل بكل قوتها مع الحكم الملكي الإمامي ضد النظام الجمهوري، وهناك الكثير من الاعترافات والمذكرات الإسرائيلية بهذا الشأن، وهو ما يعني أن ثمة تحالف تاريخي بين الإمامة ودولة الكيان الصهيوني الغاصب، رغم الشعارات التي يطلقها أدعياء الإمامة، بنسختها القديمة ممثلة بدولة بيت حميد الدين أو نسختها الراهنة ويمثلها تنظيم الحوثي الإرهابي المدعوم إيرانياً، والذي يسيطر على بعض المحافظات اليمنية في شمال البلاد.
بدأت إسرائيل تدرك خطورة خروج مضيق باب المندب عن السيطرة، فلجأت لإقامة تحالفات جديدة مع أثيوبيا ثم أرتيريا وجنوب السودان، وأخيراً جمهورية السودان التي أعلنت التطبيع مؤخراً مع إسرائيل.
وبمعنى آخر لق ظلت إسرائيل لأكثر من خمسين عاماً تبحث عن مبرر أو حُجة لتحصل من خلالها على موطئ قدم في البحر الأحمر ومداخله الجنوبية، وفي مضيق باب المندب على وجه الخصوص.
وقد استطاعت تل أبيب خلال علاقاتها ببعض الدول الأفريقية أن تحصل على بعض الامتيازات وتجني بعض الفوائد والمكاسب في هذه المنطقة الاستراتيجية، فاستطاعت بعلاقتها مع أثيوبيا أن تقيم قاعدة عسكرية في جزيرة دهلك عام 1975، ثم تمكنت من بناء علاقات قوية مع أرتيريا فور استقلالها عن أثيوبيا وصارت أسمرة أبرز حلفاء إسرائيل التي عززت وجودها ونفوذها.
ومع ذلك لم تجد إسرائيل ضالتها ولم تحقق حلمها في المنطقة حتى جاءت إيران وأدواتها إلى المنطقة فحققت لتل أبيب ما تصبو إليه، وذلك عندما رفعت طهران والتنظيمات الإرهابية الموالية لها صرخات الموت الكذبة ضد أمريكا وإسرائيل، بينما ممارسات الموت والقتل والتدمير لم تصل أمريكا ولا إسرائيل، بل حصدت آلة الموت والإرهاب الإيراني أرواح اليمنيين ودمرت ممتلكاتهم وعملت على تشريد ملايين منهم داخل الوطن وخارجه.
الإرهاب الحوثي والإيراني يصرخ: نحن هنا
عندما بدأ المجتمع الدولي يحاصر دولة إيران المارقة والمتمردة على القوانين والقرارات الدولية، سارعت قيادة التنظيم الحوثي الإرهابي للتهديد بإغلاق مضيق باب المندب، وبدا واضحاً أن التهديد الحوثي الإرهابي جاء بتوجيهات إيرانية، لأن إيران هي الداعم والممول والموجه، وعلى الفور سارعت أمريكا وبقية الدول العظمى لتشكيل قوات عسكرية بحرية من مختلف الدول، بهدف مواجهة الإرهاب الإيراني ممثلاً بتنظيم الحوثيين، أدوات الجريمة الإيرانية.
في العامين الماضيين تشكلت عدة تحالفات عسكرية بحرية إقليمية ودولية لمواجهة الإرهاب الإيراني، الذي كشر عن أنيابه باستهداف السفن التجارية وناقلات النفط، إلى جانب ارتكابه الجرائم وبشكل يومي ضد الأبرياء والمدنيين في مختلف المحافظات اليمنية.
وفي الحرب الراهنة التي تشنها إسرائيل على غزة منذ أكتوبر الماضي، وجدت إيران وأدواتها الإرهابية فرصة للمتاجرة بدم الأبرياء الفلسطينيين من خلال الدعاية الجوفاء والكاذبة عن المواجهة المزعومة مع إسرائيل، ومن خلال بيانات عنترية خرقاء لم تعد تنطلي على أحد، حتى الإسرائيليين والأمريكيين باتوا يسخرون من الدعايات التي تطلقها الأبواق الإيرانية عن معارك لا وجود لها وحروب غير مرئية يشنونها ضد القوات الأمريكية والإسرائيلية في أكثر من منطقة.
وفيما كان البعض ممن يصدقون الدعاية الإيرانية يتوقعون مشاركة حزب الله في المواجهة مع القوات الإسرائيلية المرابطة على الحدود بين لبنان وإسرائيل- وعلى بعد أمتار قليلة من ثكنات حزب الله الإيراني الموجود في جنوب لبنان، اكتفى هذا الحزب بإطلاق بيانات التهديد والوعيد، والتزم الصمت تجاه ما يجري في غزة، ومثله فعلت بقية أدوات إيران في المنطقة.
تنظيم الحوثي الإرهابي جاءته التوجيهات الإيرانية بالاشتراك في مسرحيات الممانعة المزعومة ضد إسرائيل، وتوالت البيانات اليومية التي امتازت بالكذب والمبالغة وادعاء البطولة والمتاجرة بالدم العربي الفلسطيني الذي ينزف يومياً لتواصل ماكينة الدعاية الإيرانية في صنعاء وبغداد وضاحية بيروت إطلاق بالوناتها عن حروب وهجمات وغزوات لم تقتل أحدًا من الأعداء.
لكن حلفاء إسرائيل وداعميها وجدوا الفرصة سانحة في حفلات الزار الحوثية، فعملت على تشكيل قواعد وتحالفات عسكرية، تحت مبرر مواجهة الإرهاب الإيراني، بنسخته الحوثية، النسخة الأرخص والأسوأ والأكثر تفاهة من بين كل النسخ الصادرة عن مطابع قُم وأدوات الإرهاب الطائفي الذين ارتكبوا من الجرائم في بلداننا العربية أضعاف ما ارتكبه إخوانهم الصهاينة خلال سبعين سنة.
المصدر : 26 سبتمبر