| د. ماهر الشريف
يواجه الفلسطينيون في قطاع غزة، جراء الحرب التدميرية التي تشنها إسرائيل عليهم منذ أكثر من مئة يوم، أوضاعاً معيشية قاسية جداً؛ فمن يفلت منهم من الموت على يد جيش الاحتلال وآلته الحربية، يواجه مخاطر المجاعة، ونقص المياه والتعرض للأمراض والأوبئة.
معاناة الجوع واستمرار ارتفاع خطر المجاعة
في 20 كانون الأول /ديسمبر 2023، نُقل عن “المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان” تأكيده أن أكثر من 71% من الفلسطينيين في قطاع غزة يعانون من الجوع الشديد. فوفقاً لنتائج دراسة تحليلية أجراها المرصد، وشملت عينة مكونة من 1200 شخص، أفاد 98% من المشاركين بأنهم يتناولون كميات غير كافية من الطعام، بينما اعترف 64% منهم باللجوء أحياناً إلى تناول العشب والأطعمة غير الناضجة والمواد منتهية الصلاحية لسد جوعهم [1].
في 15 كانون الثاني/يناير الجاري، حذرت وكالات الأمم المتحدة من أن استمرار ارتفاع خطر المجاعة، بات يفرض إحداث تغيير جذري في تدفق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. فمع أن الأمم المتحدة، ووكالات المعونة الدولية والمنظمات غير الحكومية، قد تمكنت حتى الآن من إيصال مساعدات إنسانية محدودة إلى غزة، إلا “أن الكميات لا تكفي على الإطلاق لمنع التقاء الجوع وسوء التغذية والمرض، ويعتبر نقص الغذاء ومياه الشرب والمساعدة الطبية خطيراً بصورة خاصة في مناطق القطاع الشمالية”.
وقد أشار تقرير صادر عن “التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي والتغذية (IPC)” إلى مستويات كارثية لانعدام الأمن الغذائي في قطاع غزة، مؤكداً أن معظم الغزيين تقريباً “يتجاهلون وجبات الطعام كل يوم، في حين أن العديد من البالغين يعانون من الجوع حتى يتمكن الأطفال من تناول الطعام”. وتتوقع اليونيسف أن يزيد الهزال بين الأطفال في الأسابيع المقبلة بنسبة 30% تقريباً مقارنة بالوضع الذي كان سائداً قبل الحرب، وهو “أخطر أشكال سوء التغذية على بقاء الأطفال، والذي سيؤثر على ما يصل إلى 10.000 طفل”.
وخلصت سيندي ماكين، المديرة التنفيذية لـ “برنامج الأغذية العالمي” إلى أن سكان قطاع غزة “معرضون لخطر المجاعة على الرغم من أنهم على بعد أميال قليلة من الشاحنات الممتلئة بالأغذية؛ فكل ساعة ضائعة تعرض حياة عدد لا يحصى من الناس للخطر، ويمكننا أن نبقي المجاعة بعيدة عنا، ولكن فقط إذا تمكّنا من توصيل كميات كافية من الغذاء وضمان الوصول الآمن إلى جميع المحتاجين، أينما كانوا”.
بينما قال فيليب لازاريني، المفوض العام لوكالة “الأونروا”، إن “تدفق المساعدات الحالي يعد هزيلاً مقارنة ببحر الاحتياجات الإنسانية”، مقدّراً أن المساعدات الإنسانية “لن تكون كافية لوقف تفاقم الجوع بين السكان”. ويشدد مسؤولو وكالات الأمم المتحدة “على الحاجة الملحة لرفع الحواجز والقيود المفروضة على إيصال المساعدات إلى غزة وداخلها، واستئناف الحركة التجارية”، ويكررون دعوتهم “إلى وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية للسماح بنشر عملية إنسانية ضخمة ومتعددة الوكالات ذات أهمية حيوية” [2].
وفي رفح، جنوب قطاع غزة، لا يملك السكان ما يكفي من الطعام، إذ تعيش الأغلبية الساحقة من الأسر على وجبة واحدة فقط يومياً في الوقت الحالي، تكون عبارة عن علب طعام، أو كمية من الخبز في بعض الأحيان، كما يقول الصحفي الفلسطيني أنس بابا. وتدفع المعاناة من الجوع بعض السكان إلى مهاجمة الشاحنات التي تنقل صناديق المساعدات الإنسانية لنهب محتوياتها. وكانت وكالة “الأونروا” قد أصدرت، في أواخر شهر تشرين الأول/أكتوبر الفائت، بياناً أعلنت فيه أن “آلاف الأشخاص اقتحموا عدة مستودعات ومراكز توزيع في وسط قطاع غزة وجنوبه”، وأن “هؤلاء الغزيين، بدافع الجوع، حصلوا على الدقيق والسلع الأساسية للبقاء على قيد الحياة”، ورأت في هذا “علامة مثيرة للقلق على أن النظام المدني ينهار، بعد ثلاثة أسابيع من الحرب والحصار المحكم” [3].
نقص المياه وانهيار خدمات الصرف الصحي
أدى الحصار الإسرائيلي الخانق المفروض على قطاع غزة إلى انقطاعات كارثية في الوصول إلى المياه والكهرباء والوقود، وتمّ إغلاق مرافق معالجة المياه العادمة وتحلية المياه في منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر الفائت بسبب نقص الوقود والكهرباء، وهي حالياً غير صالحة للتشغيل تقريباً، وفقاً لسلطة المياه الفلسطينية.
وقد دفع النقص في المياه النظيفة خبراء الصحة العامة إلى التعبير عن “قلقهم العميق” بشأن خطر تفشي الأمراض المعدية، بما في ذلك الأمراض المنقولة بالمياه مثل الكوليرا والتيفوئيد. “أطفال قطاع غزة محرومون من 90% من احتياجاتهم من المياه”، هذا ما حذرت منه منظمة “اليونيسيف”، في تقرير أصدرته في 19 كانون الأول/ديسمبر الفائت، ملاحظة “أن الأطفال النازحين حديثاً في جنوب قطاع غزة لا يحصلون إلا على 1.5 إلى 2 لتر من الماء يومياً للبقاء على قيد الحياة، وهي كمية أقل بكثير من التوصيات المتعلقة بالحد الأدنى الحيوي”، التي تقدر أن “كمية المياه اللازمة في حالات الطوارئ للشرب والغسيل والطهي هي 15 لتراً للشخص الواحد يومياً، أما للبقاء على قيد الحياة، فإن الحد الأدنى المقدر هو 3 لترات”. ومع وصول مئات الآلاف من النازحين، يعتقد أن نصفهم من الأطفال، إلى مدينة رفح، واستمرار تزايد الطلب، أصبحت “أنظمة إمدادات المياه والصرف الصحي في المدينة في حالة حرجة للغاية”، وخصوصاً في ظل “غياب إمدادات الطاقة، ونقص الوقود، وتقييد وصول المساعدات الإنسانية والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية، إذ تعرض ما لا يقل عن 50٪ من المياه والصرف الصحي للأضرار أو للتدمير”.
وقالت كاترين راسل، المديرة التنفيذية لـ “اليونيسف”: “إن الحصول على ما يكفي من المياه النظيفة هو مسألة حياة أو موت، والأطفال في غزة بالكاد يحصلون على ما يكفي للشرب، ويضطر الأطفال وأسرهم إلى استهلاك المياه من مصادر غير صحية أو شديدة الملوحة أو ملوثة؛ ومن دون مياه نظيفة، سيموت عدد أكبر من الأطفال بسبب الحرمان والمرض في الأيام المقبلة”.
ومن ناحية أخرى، تنتظر طوابير طويلة من النساء والأطفال المنهكين، في الملاجئ، لاستخدام المراحيض، إذ يصل عددهم في المتوسط إلى مرحاض واحد لكل 700 شخص، مما يدفع الناس إلى اللجوء إلى “استخدام الدلاء أو التغوط في العراء، بل إن أماكن الاستحمام أصبحت أقل توفراً”، وهو الوضع “الذي يقلل من خيارات النظافة إلى لا شيء تقريباً، ويؤثر بصورة خاصة على النساء والفتيات، مما يساهم في انتشار الأمراض”. ويضيف التقرير أن “اليونيسيف”، بمساعدة شركائها، “زوّدت زجاجات المياه لأكثر من 1.3 مليون شخص” منذ بداية الحرب، و”قدمت أكثر من 130,000 مجموعة من مستلزمات النظافة الأسرية، بما في ذلك منتجات الصحة والنظافة الشهرية”، وتمكنت، خلال الهدنة الإنسانية، من الوصول إلى شمال قطاع غزة على الرغم من ظروف الوصول الصعبة للغاية، وقامت “بتوزيع 260,000 لتر من المياه و10,000 مجموعة من مستلزمات النظافة” [4].
مخاطر انتشار الأمراض والأوبئة
أدى نقص المياه والتلوث إلى إعاقة الوصول إلى الرعاية الصحية، مما أدى إلى تفشي الأمراض وإلى خلق أزمة صحية عامة. وأفادت “منظمة الصحة العالمية” أن “أنظمة المياه والصرف الصحي المتضررة وتناقص إمدادات التنظيف جعلت من المستحيل تقريباً الحفاظ على التدابير الأساسية للوقاية من العدوى ومكافحتها”.
وأدى استهلاك المياه الملوثة إلى زيادة كبيرة في خطر الإصابة بالعدوى البكتيرية مثل الإسهال، وخصوصاً لدى الأطفال دون سن الخامسة، كما ارتفع عدد حالات الجفاف بصورة حادة، ولم يعد من الممكن حصر عدد حالات التهاب المعدة والأمعاء [5].
ومما يزيد من مخاطر انتشار الأمراض والأوبئة أن جثامين آلاف الشهداء لا تزال مدفونة تحت الأنقاض، مهجورة منذ أسابيع طويلة، لا سيما في مناطق الحرب التي سارع السكان إلى إخلائها. كما يزيد من هذه المخاطر تكدس النفايات في الشوارع وأمام المستشفيات ومراكز إيواء النازحين، كما لاحظ رئيس بلدية غزة، يحيى السراج، في تصريحات أدلى بها في 19 كانون الأول/ديسمبر الفائت، مشيراً إلى “أن هناك نحو 70 ألف طن من النفايات مكدسة في هذه الأماكن”، ومعتبراً “أن استمرار العدوان وأزمة نفاد الوقود يشكلان تحدياً أمام توفير الخدمات الأساسية للمواطنين”.
وكان السراج أفاد في تصريحات صحفية سابقة، بأن جيش الاحتلال “دمّر أغلب الآليات الثقيلة والمتوسطة التي تعمل في خدمات البلدية جراء القصف المتعمد، في وقت تعاني فيه البلدية من نقص كبير بهذه الآليات”، وأضاف، أن الأوضاع في قطاع غزة ومدينة غزة بالتحديد “صعبة جداً، مناشداً الجميع بإدخال الكثير من الوقود والآليات المخصصة لإزالة الركام، وفتح الشوارع، وتوفير خدمات المياه والصرف الصحي للمواطنين”. وعلاوة على ذلك، يتوقع الخبراء أن تزداد الوفيات نتيجة تلوث التربة والغلاف الجوي وازدياد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بصورة حادة، بسبب استخدام القذائف والقنابل والصواريخ والذخائر، وبسبب استهلاك الوقود من قبل وحدات جيش الاحتلال البرية والبحرية والجوية، وبسبب الحرائق الناجمة عن القتال [6].
وكانت “منظمة الصحة العالمية” قد أعربت عن قلقها البالغ إزاء تزايد خطر انتشار الأوبئة والأمراض المعدية في قطاع غزة. وقال المدير العام للمنظمة، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، في تدوينة نشرها في 15 كانون الأول/ديسمبر الفائت على منصة “إكس”:
“مع استمرار تحرك سكان قطاع غزة بأعداد كبيرة نحو جنوب القطاع واضطرار بعض العائلات إلى الفرار أكثر من مرة، ولجوء الكثير من الناس إلى المرافق الصحية المزدحمة، نشعر أنا وزملائي في منظمة الصحة العالمية بقلق بالغ إزاء تزايد خطر تفشي الأمراض المعدية”، موضحاً بأن “نحو 180 ألف شخص يعانون من التهابات الجهاز التنفسي، إضافة إلى 136400 حالة إسهال، نصفهم من الأطفال دون سن 5 سنوات، و55400 شخص يعانون من الجرب، و5330 من الجدري، و42700 من طفح جلدي، بالإضافة إلى 4683 حالة يرقان حاد” [7].
وفي تحقيق نشرته صحيفة “واشنطن بوست”، في 17 كانون الأول/ديسمبر الفائت، قالت تهاني أبو طعيمة، اللاجئة في مستشفى ناصر في خانيونس مع من تبقى أحياء من أفراد عائلتها: “نحن لسنا أكثر من هياكل عظمية حية”، وهي تعاني من سرطان الغدة الدرقية، كما أصيبت بعدوى خطيرة في الجهاز التنفسي، بينما تعاني ابنتها البالغة من العمر عامين من الإسهال والقيء والعطس وارتعاش من البرد وقلة الطعام. ويذكر التحقيق أن الأمم المتحدة حددت في قطاع غزة 14 مرضاً تنطوي على إمكانيات وبائية، من ضمنها جدري الماء، والطفح الجلدي، والتهابات المسالك البولية، والتهاب السحايا، والنكاف، والجرب، والحصبة، والتسمم الغذائي، كما نقل التحقيق عن “منظمة الصحة العالمية” قلقها، بصورة خاصة، من انتشار الإسهال المعدي واليرقان والتهابات الجهاز التنفسي. وبخصوص المساعدات الدولية المقدمة إلى سكان القطاع، يستشهد التحقيق بتانيا الحاج حسن، التي عملت في غزة مع منظمة “أطباء بلا حدود”، التي ترى في هذه المساعدات مجرد “مسكنات”، والتي تؤكد أنه من أجل مكافحة الأمراض المعدية، “يجب أن تكون المستشفيات الدائمة الموجودة في غزة قادرة على الاستخدام بأمان، من دون أن تتعرض للتهديد بالقصف أو الحصار، ومن دون التعرض لخطر الحرمان من الوقود اللازم للعمل أو الماء أو الأدوية الأساسية” [8].
من جهته، حذر ألكسندر فور، المنسق اللوجستي لـ”منظمة أطباء بلا حدود” الفرنسية في فلسطين، في حديث أجرته معه قناة TV5Monde من مخاطر “القنبلة الوبائية الموقوتة” في قطاع غزة، معتبراً أن “جميع المخاطر المرتبطة بالأمراض المنقولة بالمياه والعيوب في أنظمة الصرف الصحي والحصول على مياه الشرب كانت موجودة عملياً منذ بداية الحرب، لكنها تضاعفت عشرة أضعاف اليوم”، وخصوصاً بعد أن “أصبحت الهياكل القائمة، وتحديداً محطات تحلية المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي، خارج الخدمة”، جراء التفجيرات ونقص الوقود. بيد أن هذه المخاطر تزايدت كثيراً، كما تابع، بسبب الزيادة السكانية ومحدودية الموارد المتاحة، وذلك بعد أن استضاف “جنوب قطاع غزة، ولا سيما رفح وخان يونس، ما يقرب من 1.9 مليون نازح من إجمالي عدد السكان البالغ 2.2 مليون نسمة، وهذا الاختلاط يزيد من الاحتياجات ومخاطر الأمراض”.
ويلفت الانتباه إلى الأوبئة التي تنشأ من “انخفاض درجات الحرارة وهطول المطر، ونوم الكثير من الناس في الخارج، وهو ما يؤدي إلى زيادة خطر الإصابة بالتهابات الجهاز التنفسي الحادة مثل التهاب الشعب الهوائية”، مقدّراً أن هذا الاكتظاظ السكاني في الجنوب “هو قنبلة وبائية موقوتة”، لا يمكن نزع فتيلها إلا “بوقف فوري لإطلاق النار، ووضع حد للقصف العشوائي، وإنهاء العمليات البرية التي تؤدي إلى نزوح السكان وزيادة الضغط الديموغرافي المكثف في الجنوب”، والسماح “بوصول المساعدات الإنسانية إلى شمال غزة”، فضلاً عن إزالة الحظر الذي تفرضه إسرائيل على البضائع المستوردة إلى القطاع، ذلك إنه “في ظل الظروف الحالية، إذا ظهر وباء اليوم، فلن تتمكن أي جهة فاعلة من الاستجابة له؛ فإذا أخذنا حالة الكوليرا على سبيل المثال، فيجب معالجة المياه والأجسام بالكلور، إلا أن هذا المنتج محظور استيراده إلى قطاع غزة، وكذلك كل ما هو ضروري لإنتاج الطاقة مثل المولدات الكهربائية أو الألواح الشمسية”[9].
خاتمة:
فرضت الأوضاع المعيشية القاسية جداً التي يواجهها سكان قطاع غزة، جراء حرب الإبادة المتعددة الأشكال التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي عليهم، على هيئة الأمم المتحدة ووكالاتها المختصة، مثل “برنامج الأغذية العالمي”و”اليونيسيف” و”منظمة الصحة العالمية” و”الأونروا”، أن تضع برامج عاجلة لإغاثة هؤلاء السكان، بحيث صار من ينجو منهم من آلة الحرب الإسرائيلية يعتمد على المساعدات الدولية من أجل بقائه على قيد الحياة. بيد أن التقييدات التي تضعها حكومة الحرب الإسرائيلية، جعلت هذه المساعدات غير قادرة على تلبية الاحتياجات الأساسية لسكان القطاع، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة ووكالاتها إلى المطالبة بفتح طرق دخول جديدة للمساعدات، وعبور عدد أكبر من الشاحنات الحدود كل يوم، وتخفيف القيود المفروضة على حركة العاملين في المجال الإنساني، وتوفير الضمانات الأمنية للأشخاص الذين يحصلون على المساعدات ولمن يقومون بتوزيعها [10].
* باحث ومؤرخ – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت.