في مثل هذا اليوم الموافق ” ٢٨ مارس ” من العام الفائت ٢٠١٨م ، توقف قلب ، القاضي صالح محسن مقبل ، الخال الجميل ، والرجل الشهم النبيل ،والقامة الموسوعية النادرة ، وقبل هذه الصفات جميعاً ، الإنسان الأصيل المترع طيبة وصدقاً وعطفاً .
نعم ، كان بودي الكتابة أكثر عن الخال وهو حاضراً بهيئته ووقاره ، مميزاً بصوته وابتسامته أو قهقهته المتألقة المتضوعة في بهو المكان مضيفة له البهجة والسحر والحيوية .
ذاك الإنسان الاستثنائي الجامع بين أصالة وإيثار الريف ، ونقاء ورقي المدينة . إنَّه عجينة فريدها لا يضاهيها غزارة معرفة ومعلومة أو ذاكرة مُتَّقدة غير شخصية الفيلسوف الدكتور ابو بكر السقاف ،ربنا يعطيه العافية والصبر .
وبرغم هول الفاجعة أجدني اليوم اكتب للراحل عنَّا كغيمة ربيع توارت في الآفاق ،غير مدركة بفداحة الرحيل لناس وارض استوطنهما الجفاء والبؤس والنفاق والحزن وغياب القدوة والصدق والرجال أيضاً .
نعم اكتب للرجل الذي يحسب له احتضاني والتأثير فيَّ ، وفي مرحلة صعبة ومهمة من تكوين ذاتي ، بل واجزم انَّه نحت في ذاكرتي افكاراً وتواريخاً واحداثاً وأخلاقاً لا تقدر بثمن .
فأول هذه الاشياء معنى أن يكون المثقف إنساناً متواضعاً وبسيطاً وقريباً من عموم النَّاس ، فهذه غاية نبيلة ينبغي أن يتحلَّى بها كل مثقف ومستنير .
المسألة التالية أن تكون شغوفاً ولعاً بالقراءة والاصغاء لكافة المعارف الإنسانية وان كانت في كثير من الأحيان صادمة أو مزعجة ، فالمهم هنا هو إمعان وغلبة العقل والمنطق وفي مختلف المناحي الفكرية والفلسفية والدينية والسياسية .
صدقاً ، اكتب له اليوم عرفاناً ووفاءً بما منحني أياه من نبل وإيثار ونصيحة ورعاية ، فهذه الأشياء لا تمنح إلاّ من العُظام ، والخال الحاج صالح رحمة الله عليه ، كان من هؤلاء الرجال العظِّام الذين يمنحونك اشياء ثمينة وبكل عفوية وشهامة .
إنَّه من الرعيل الأول في مضمار الكفاح الثوري ، فبرغم كونه ضابطاً في البوليس البريطاني إلا أن وعيه المبكر بحتمية التحرر جعلته يخاطر بوظيفته ومركزه ، ودونما خوف أو منِّة .
والجميل ، أيضاً ، أنَّه لم يؤذ أحداً بقسوة مستغلا ًسلطته الامنية أو القضائية في مرحلة تالية أو أن مكانته وحظوته لدى رفاق دربه من قادة الدولة الوطنية المستقلة ، أغرته كيما يتخلَّى عن روحه النبيلة ، أو تواضعه وتسامحه مع خصومه .
لطالما وصفه اصدقائه قبل خصومه بالجرأة الكاسرة لرتابة الصمت الجمعي وللحقبة الشمولية السائد فيها الرأي الواحد ،والصوت الواحد ، والحزب الواحد ، ومع كل ذلك ، كان لا يُضمر شراً أو حقداً لأحد .
واحسبني عايشته ردحاً من الزمن ، فوجدته هو ذاته بطباعه وصرامته في الوظيفة والبيت ، فلا فارق ولا تصنُّع ، فإذا ما اختلف معك أو نقدك فلا يعني نهاية الدنيا ، بل على العكس يستقبلك بوجه ضاحك بشوش .
والاستثناء الوحيد هنا هو أنه لا يفعل ذلك مع من لا يحترم آداب الاختلاف او يحيل المسألة الى ثأر وانتقام وتصفية حساب شخصي ، فهذا الصنف من البشر لا يحبذه مطلقاً .
أتساءل وبحيرة ودهشة كيف أنه حفظ كبريائه وحياته طوال تلك السنون المخيفة ، فبرغم انَّها حفلت بالاختلافات الفكرية والسياسية والعملية إلَّا أن هذا الاختلاف الذي وصل وفي مواقف عدة لحد المغالاة الكلامية ؛ لكنه مع ذلك بقي إنساناً يمقت العنف ، ويرفض التورط به ومهما كانت المبررات والأسباب الداعية له ، ولهذا السبب عاش حراً ابياً لا يخاف ثأراً أو انتقاماً ..
لعله الصِّدق مع ذاته وذويه ورفاقه وخصومه ، فبرغم أنَّ صوته كان جهيراً إلَّا انَّه نجا وباعجوبة من كافة صراعات وحروب السياسة ، ربما مرد ذلك هو صدقه النابع من حرصه وخوفه على البلاد والعباد وليس لدواعي شخصية نفعية ضيقة ، فالصِّدق قيل بأنه منجاة والكذب مهواة لصاحبه .
اتذكر الان كيف أنه ظل يحمل وداً وتقديراً للرئيس قحطان وابن عمه فيصل الشعبي ،وعلي بن علي هادي القائد المعروف إبان مرحلة الكفاح المسلح ، رحمة الله عليهم جميعاً ، وكذا الفيلسوف الدكتور ابو بكر السقاف وغيرهم من قادة الكفاح الثوري الميتين أو المنفيين أو المغتالين برصاص الغدر والتطرف الثوري .
أمَّا صديقه الشهيد علي عنتر فلم يذكره يوماً إلَّا وذكر محاسنه الطيبة النقية ، فضلاً عن رفاق كُثر حمل لهم الود والاحترام والى اخر يوم من حياته ، بينهم الشهيد علي شائع هادي والسفير محسن ناجي العقلة حفظه الله ، وشخصيات أخرى لم يتسع الحيز لذكرها ، منها قيادات معروفة والاغلب مغمورة أو مجهولة فلم يتسنى لهم البروز رغم أدوارهم النضالية والوطنية .
ففي مسكنه المتواضع في حي السعادة بخور مكسر ، قدر له استقبال رموز كفاحية وطنية وقومية وتقدمية ، وهكذا ظل يستقبل ويودع إلى أن لفظت نفسه صاعدة لباريها إثر عملية قلب مفتوح في السعودية وأثناء زيارته لنجله الدكتور مطيع وعائلته ..
في هذا المكان مكث وديع حداد وفي تلك الزاوية جلس جورج حبش أو ليلى الخالد أو أبو نضال وسواهم من قادة ورموز الثورة الفلسطينية أو حركة القوميين العرب ، ناهيك عن قادة الكفاح الوطني ضد الاستعمار البريطاني أو الإمامة المتوكلية السلالية ..
كان يضحكه ثلاثة أشخاص ؛ الأول علي عبدالله صالح حين يتحدث لقناة فضائية أو يخطب ، لعلمه بإن معظم ما يتحدث به هو تضليل ومغالطة وهُراء ، والآخر يحيى مصلح عضو مجلس النواب في أول برلمان عقب توحد اليمن ، فما من جلسة الا ويكون مصلح حاضراً بتهكماته وقفشاته اللاذعة الساخطة بشدَّة .
بينما الشخص الثالث الراحل عمر الجاوي ، كان يضحكه مشاغباته الجريئة ، كما ويستمتع بتعليقاته وكتاباته الساخرة خاصة تلك الناقدة لنظام ما بعد حرب صيف ٩٤م ..
ومما لا يعرفه الكثير أن الراحل كان فقيهاً في العلوم الشرعية ، نحوياً ضليعاً في لغة الضاد ، شاعراً فصيحاً يكتب القصيدة العمودية بإلمام وشغف وباسلوب بديع لا يُمل ، وان كان مقلاً ، قاضياً ورئيساً لمحاكم عدة ، محامياً بعد حرب الأخوة ، وقبلها طبعا ضابطاً رفيعاً في الأمن ، اذ أنه وبجهده وذكائه ترقي لرتبة ملازم أول في زمن الإنكليز ومن ثم في وزارة الداخلية بعيد الاستقلال ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧م .
وحين اختلف هو ورفاق الدولة الوطنية المستقلة تم عقابه بالتسريح التعسفي من الخدمة بكونه لم ينفذ أمر تعيينه مديراً لأمن المحافظة الرابعة في ذينك الوقت – وشبوة حالياً – ومع قسوة القرار والوقت درس الحقوق كطالب مستجد ودونما يعيقه عائق أو توقفه ظروف عائلته المعيشية .
وبعد تخرجه وظِّف في سلطة القضاء كقاض ٍ ورئيس محكمة والى ان تم إعادة الاعتبار له عقب التوحد ، اذ اعيد لمؤسسة الأمن ، ولكن لم تمهله سنون الخدمة لحين تسوية وضعه مالياً ، فسرعان ما تم تقاعده وبمرتب زهيد يضاهي نصف مرتب جندي هذه الأيام .
لطالما اعجب في سيرة العُمرين العادلة والنزيهة ” الفاروق عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز ” فيما مثله الأعلى في معارضة الحكم الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري .
ولهذا السبب ربما كان يتحاشاه الانتهازيين والمنافقين ، فالحقيقة كالنَّحلة ، في جوفها عسل ، وفي ذنبها إبرة ، وفق تعبير باسكال .
ومثلما يقول المثل العربي الشهير : من لم يحتسب للعواقب لم يكن الدَّهر له بصاحب ” ، واعتقد أن الحاج صالح رحمة الله تغشاه ، من هذا الطراز الفريد الذي ضحَّى بلحيته ذات حقبة تاريخية كيما يحفظ رأسه مرفوعاً بشمم وإباء .
زرته في بيته ، قبل يومين فقط من مغادرته الاخيرة لعدن إلى جدة ، كان نجله الأكبر الدكتور محمد ، عميد كلية الحقوق بجواري ؛ سألني وقتها عن سبب ذهابي للعلاج في المحروسة مصر ، وعندما أعلنته تأثر كثيراً وبدى ذلك واضحاً من عينيه وتقاسيم وجهه الغضن .
فبرغم وجع فؤاده إلَّا انَّه أبى مبادلتي الشكوى وفضَّل اخفاء علته المزمنة المنهكة لبدنه المثقل بالهموم والأماني والحسرات على وطن رآه يسقط في أتون حرب شعواء ، وتمزقه الأنانية ، وتنهشه الفوضى والعبث ..
وتزيد حسرتي وندامتي انَّه توفَّى دونما أعلمه بحقيقة إنَّه ” ابراهيم ” أحد أبطال روايتيي ” حقل الفؤاد ” و ” الشرق أشجان ” فلم اشاء إخطاره بذلك رغم قربي منه ، ورغم اعلامي ذات يوم بقراءته للرواية الاولى ، ودونما يتسنى له معرفة بكونه ” ابراهيم ” الشاب المتدفق حماسة وتدين وعنفوان خلال مرحلة الخمسينات والستينات .
قد يكون خشية بكوني لم أنصفه ، لهذا تواريت بعيداً مفضلاً الصمت وترك المسألة للتاريخ أو أن يهتدي لحظة ويقرأ الرواية الأخرى واحداثها الحاصلة منذ يوم الاستقلال ٣٠ نوفمبر وحتى حرب صيف ٩٤م وسقوط مدينة عدن بيد قوى الظلام والتخلف والفساد ..
وربما الامر االتبس عليه نظرا لذاك المزيج بين شخصيتين ، إذ اكتفيت بدوره كخطيب ومتحدث لبق وكقائد ميداني ، بينما تركت دوره كضابط شرطة في بوليس عدن وعضو في التنظيم السري للجبهة القومية ، لشخصية آخرى في القصة .
فلم ارد أن تكون سيرة ذاتية خالصة بحيث تبدو كلاسيكية رتيبة وانما اضفت لها نفحة خيال خصوصا في مرحلة الطفولة والفتوة ، ما جعلها سيرة غامضة عصية الاسقاط أو التفكيك لرمزية الشخصية .
وختاماً ليس بوسعي القول : إنَّه لمن المؤسف والمحزن معاً ، بكوننا لا نعرف فضائل البشر غير عند رحيلهم ، ومثلما قيل بأن قيمة ملح الطعام لا تعرف بغير عند افتقاده ، كذلك هو حالنا حين لا نعرف قيمة الأب سوى بعد وفاته ..
ليرحمك الله فقيدنا الرائع والأصيل ، وليسكنك الفردوس بجوار الشهداء والصديقين ، وليلهمنا جميعاً ، اهلك وذويك وأصدقائك الصبر والسلوان ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ..
المكلوم / ابنك محمد علي محسن