مروان العياصرة
كاتب أردني
عربياً، مازالت الإسلاموية الغاضبة، تتوقع أنّها قادرة على إعادة تموضعها في البيئة السياسية العربية التي تتنامى فيها حالة الرفض الشعبي نتيجة لأزمات سياسية ضاغطة، لها أسبابها الداخلية والخارجية، لكنها في الوقت ذاته لا تجد نفسها معنية بهذه الأسباب، إن كانت داخلية أم خارجية، بقدر انشغالها بما توفره لها من بيئة وفرصة مستمرة لإعادة التشكل والحضور والتفاعل.
أوجاع المجتمعات العربية السياسية والاقتصادية على وجه الخصوص تتحول بشكل تلقائي من كونها نتيجة لإخفاقات السياسة وفساد الاقتصاد إلى كونها منصة لخلق أسباب جذرية وعميقة لاستدعاء الغضب الذي تنمو فيه حالات العنف والتطرف المحمولة على متون التيارات والجماعات والأحزاب.
على سبيل المثال، لم يستطع حزب الله في لبنان أن يتموضع بقوة خارج بيئة الرفض والغضب والتطرف، لم يكن يوماً مساهماً في البناء والإعمار والتنمية والاقتصاد، بل كان على الدوام، من أكبر عناصر الاستهلاك بحجة المعارضة والمقاومة التي لم يقاوم إغراءاتها ومكتسباتها وقدرتها الفائقة على حصد المكاسب وجلب الأنصار.
ما الذي قدمته حركات الرفض العربية، وما هو الإسهام الذي أنجزته جماعات العنف والتطرف، سوى أنّها كانت على الطرف الآخر من كل عمليات البناء والإصلاح، رغم ما تتبناه من شعارات في الإصلاح والتنمية الفائقة والنهضة غير المسبوقة، وكان الزمن لكل ذلك بالمرصاد؛ حيث انحسرت كل تلك الشعارات عن أوهام أو هواجس أو شيء ما ربما كان الوهم الذي أكلت وشربت عليه الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها ردحاً من الزمن، وكأنه كان زمناً فائضاً عن حاجتنا، وفائضاً عن أحلامنا وتطلعاتنا وانتظارنا الذي لم نكن نعرف أنه مفخخ ومرصود بالفشل والهزيمة.
كل تاريخ جماعات العنف والتطرف، التي كثير منها توالدت من رحم الإخوان المسلمين، كان عبارة عن رفض عنيف ومتطرف في أغلب صوره، وتحدٍّ غير منضبط للواقع، لكن دون أن يحفز هذا التحدي على تقديم أية استجابة يمكنها الصمود أو الاستمرار لتحقيق الأهداف، ربما لم تكن هنالك أهداف، أقصد، كان الرفض بحد ذاته هو الهدف، وكانت المقاومة المشوهة بلا أفق، كانت هي الأفق، وبالتالي لم يكن هنالك خلاص، كان هنالك طريق مستمر من أجل خلاص غير ممكن وغير منطقي، وكان الممكن الوحيد المتاح هو ما يمكن للجماعة أن تكسبه كي تبقى.
إنّ مسيرة سنوات طويلة من عمر هذه الحركات، دون أن تصل إلى أهدافها لم تكن تستحق أن تعيد حساباتها وتعيد قراءة مشروعها واحتمالاته وممكناته، ودون أن تغير من استراتيجيتها التي فشلت على الدوام، كانت تقنع نفسها وأتباعها أنّ الفشل لم يصبها ولم تخفق استراتيجيتها أبداً، ولا نالت من شعاراتها أية هزيمة، بل إنّ الفشل أصاب الشعوب فقط، وأخفقت المجتمعات في نيل حقوقها وأساءت الحكومات في سياساتها وممارساتها، وفشلت الدولة كلها، لكن الجماعة تبقى سليمة ومصانة ولا تحتمل الفشل.
ثمة سؤال مهم، ربما تحتاج الإجابة عنه لجملة أو سطر واحد فقط، وربما إلى دراسة وبحث واستطلاع، لماذا لم تنمُ جماعات الرفض والتطرف في دول الرفاه الاجتماعي والاقتصادي العربي؟، الإجابة ببساطة هو أنّها جماعات قائمة فقط على توظيف الاحتياج المعيشي للمجتمع باتجاه خلق بؤر الرفض والعنف والتطرف، الحديث عن مستوى القمع الذي يمكن أن تتعرض له ليس منطقياً ولا كافياً، ولا يفسر تماماً ما يحدث لها، فهي تتعرض لقمع في كل الدول وربما بمنسوب ومستوى أكبر وأخطر وأعمق، لكنها تفتقر لعناصر التوظيف التي اعتادت عليها من فقر وتهميش وبطالة وفساد.
ليس الإخوان المسلمون فقط، بل كل حركات الرفض والعنف والتطرف، تتكئ على سبب أو سببين أو عامل أو أكثر من عوامل البقاء والاستمرار، بعضها لا تنمو إلا في بيئة القمع والعنف، وأخرى لا تنشط إلا في بيئة الفقر، وبعضها لا تتحرك إلا في بيئة الجهل والتخلف، فإن تمّت معالجة كل تلك الاختلالات، وصارت المجتمعات تخلو من كل تلك التشوهات والأمراض والأوجاع، هل تفقد هذه الجماعات أسباب وشروط بقائها، فتضمحل وتنتهي وتتفكك، أم تبقى تحاول أن تخلق ظروفاً مشابهة وأسباباً بديلة، أم تتحول إلى شكل آخر من أشكال الرفض والعنف؟
ما يحدث بالفعل، أنّها دائماً معنية بخلق ظروف مشابهة كي تبقى تحتفظ لنفسها بأسباب البقاء، أو ربما بعضها يتحول إلى شكل آخر، لكن هذا الشكل الآخر ليس متوقعاً أن يكون على النقيض من تجربتها وممارستها التاريخية في مجتمعاتها وبيئاتها المختلفة.
جماعة الإخوان المسلمون أيضاً، بوصفها الجماعة الأم لكثير من الحركات والجماعات، وجدت نفسها أمام هذه المعضلة التاريخية، بأنها لم تعد قادرة على الاستمرار والاستقرار في بيئات مستقرة تماماً، ودائماً يجب عليها أن تعزز رصيد الاختلاف والتناقض والخلاف، ولعل التناقض العميق الذي وقعت فيه بنفسها أنّ بيئاتنا غير المستقرة هي عبارة عن ملاذات آمنة لأفكارها وقناعاتها وممارساتها، لكن البيئات المستقرة الخارجية هي ملاذات آمنة لشخصياتها!
نقلاً عن حفريات