كريتر نت – متابعات
أغلب نماذج وسيناريوهات وخطط اليوم التالي لمستقبل غزة افترضت قدرة الجيش الإسرائيلي على كسر وتدمير الجماعة الإسلامية بالكامل، وقليلون هم من فكروا في إنهاء الحرب التي تشهد بقاء بعض القدرات العسكرية والإدارية لحماس في مكانها.
وبعد مرور أكثر من أربعة أشهر على هجوم حركة حماس المروع على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، لم يقترب الجيش الإسرائيلي بأي حال من النصر الحاسم الذي سعى إليه ضد الجماعة الإسلامية.
وتشير الأدلة إلى أن حماس فقدت قدرات كبيرة للحفاظ على مقاومتها المسلحة، فقد انخفض عدد الصواريخ التي يتم إطلاقها باتجاه المدن والأهداف الإسرائيلية بشكل ملحوظ، ولا توجد سوى جيوب صغيرة للمقاومة في شمال قطاع غزة، حيث لا تزال بعض الصواريخ تُطلق.
وتشير التقديرات إلى أن ما تبقى من قوات حماس يتواجد بشكل كبير في جنوب غزة، خاصة في خان يونس ورفح.
ومع ذلك تنشر الجماعة، بشكل شبه يومي، مقاطع فيديو لمقاتليها وهم يطلقون مقذوفات مضادة للدبابات على الوحدات المدرعة والقوات الإسرائيلية، وتوثق هجمات مختلفة، ما أدى إلى سقوط ضحايا إسرائيليين، بمن في ذلك 21 جنديًا إسرائيليًا في 23 يناير الماضي.
والأهم من ذلك أن حماس تحتفظ بقوة كبيرة، بما في ذلك الأنفاق الإستراتيجية التي تستخدم كمرافق إيواء ومراكز دعم عملياتي، على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي كشف عن تدمير العديد منها.
بعض مقاتلي حماس قد يتخلون عن العنف إذا عُرض عليهم مسار يكونون فيه جزءا من نموذج أمني جديد
وتشير التقديرات الإسرائيلية الجديدة، المستندة إلى أدلة غير معروفة، إلى وجود حوالي 450 ميلاً من الأنفاق تحت غزة، وهو أكثر بكثير مما كان يعتقد في البداية.
ويقول أحمد فؤاد الخطيب، الباحث حول شؤون قطاع غزة وسياساته، في تقرير نشره المركز الأطلسي إن “الفشل في استعادة الرهائن الإسرائيليين المتبقين يشكل دليلاً إضافياً على أن حماس لا تزال تمتلك شبكات مخفية قوية وخلايا ذات كفاءة قتالية”.
وبينما تصبح الظروف الإنسانية في جميع أنحاء غزة كارثية بالنسبة إلى السكان المدنيين في القطاع الساحلي فإن الضغط الدبلوماسي والسياسي المتزايد على الحكومة الإسرائيلية قد يفرض تغييرًا كبيرًا في نطاق العملية العسكرية وأهدافها.
ولئن تحدث المخططون الإسرائيليون عن المراحل اللاحقة للعملية العسكرية التي ستستمر عدة أشهر أخرى، فإنها تمثل جهودًا منخفضة الكثافة ومن المرجح أن تركز على أخطر التهديدات المسلحة وليس القضاء على كل عضو في حماس وحكومة حماس.
ويفرض هذا سؤالاً ملحاً وغير مريح: ماذا يفعل صناع القرار الإسرائيليون والأميركيون والعرب والدوليون في مواجهة قطاع غزة المدمر، حيث ضعفت البنية الأساسية العسكرية بشدة ولكنها مازالت تحت بعض السيطرة بفعل الوجود المتبقي لحماس؟
ثلاث مراحل
قوة حماس.. مراحل متدرجة ومترابطة
يرى الخطيب أن هناك مراحل متدرجة ومترابطة قد تساعد في التعامل مع سيناريو المراحل الثلاث.
وتتطلب المرحلة الأولى التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض تتضمن إطلاق سراح الرهائن كجزء من صفقة تبادل الأسرى بوساطة قطر ومصر، وبدء وقف طويل الأمد لإطلاق النار، وبداية التحول التدريجي إلى النظام السياسي في غزة.
والأهم من ذلك أن هذا يتطلب خيارات تتاح أمام كبار قادة حماس وأعضائها لمغادرة غزة بموجب ضمانات دولية، على غرار رحيل ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد حصار بيروت عام 1982.
وسيكون الاهتمام في هذه المرحلة منصبا على إنهاء وجود القيادة العسكرية لحماس عبر الوسائل السياسية. ونظرا لعدم وجود أي من القادة السياسيين للجماعة تقريباً في غزة حالياً، فإن هذا من شأنه أن يترك أعضاء حماس المتبقين من دون أي دافع للعمل نيابة عن منظمة بلا قيادة.
وتتطلب المرحلة الثانية إنشاء إدارة مؤقتة تقوم في البداية بإعادة تدوير معظم هيئات الحكم القائمة والمسؤولة عن الوظائف الإدارية في مختلف قطاعات غزة.
ويمكن لمزيج من الموظفين الذين يتقاضون أجورا من السلطة الفلسطينية -بمن في ذلك العاملون في قطاعي المالية وإدارة المياه، إلى جانب المعلمين والأطباء ومسؤولي السلامة العامة الذين توظفهم حكومة غزة- أن يحقق بسرعة بعض التشابه مع الإدارة العاملة.
ويمكن القول إن هذه المرحلة هي الأكثر أهمية لأنها ستستلزم الاحتفاظ ببعض البنية التحتية للسلامة العامة في غزة، وسوف تساعد في مكافحة الجريمة والفوضى وتعطيل توزيع المساعدات الإنسانية.
حماس فقدت قدرات كبيرة للحفاظ على مقاومتها المسلحة، فقد انخفض عدد الصواريخ التي يتم إطلاقها باتجاه المدن والأهداف الإسرائيلية بشكل ملحوظ
ويعد الاستخدام المؤقت لموظفي السلامة العامة الحاليين أمرًا بالغ الأهمية لتسهيل إزالة الأنقاض والذخائر غير المنفجرة بسرعة، فضلاً عن إنشاء ميناء مؤقت لاستقبال المساعدات وسفن توليد الطاقة.
ومن شأن هذا الإجراء أيضًا أن يتيح تشكيل هيئة إدارية جديدة يمكنها تشكيل قوة شرطة مهنية بمشاركة ودعم فلسطينيين وعربيين ودوليين.
وبغض النظر عن الشكل الذي ستبدو عليه السلطة الفلسطينية بعد تنشيطها وما إذا كان ذلك يتوافق مع التوقعات المعلنة للولايات المتحدة والمجتمع الدولي، فإن أطر السلطة الفلسطينية الضعيفة، والتي لا تزال فاعلة، كافية لبدء واقع جديد في غزة بعد توقف العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي.
وهذا يستلزم في المقام الأول تمثيل مصالح غزة في المحافل الدولية لضمان أن يكون للفلسطينيين صوت في جميع مناقشات التخطيط. وستكون السلطة الفلسطينية حيوية في إعطاء الشرعية السياسية والدبلوماسية لجهود ما بعد الحرب الرامية إلى تقديم المساعدات وإعادة الإعمار والإصلاح السياسي واستعادة الخدمات العامة والوظائف الإدارية، وإدارة المعاملات المالية المختلفة (مثل دفع رواتب العمال)، والأهم من ذلك إنشاء بنية تحتية أمنية جديدة داخلية وخارجية.
ولا يمكن للوضع في غزة أن يتحمل انتظار ظهور سلطة فلسطينية تم تنشيطها بالكامل وفقاً لتوقعات الولايات المتحدة؛ وبدلاً من ذلك فإن العمل بما هو موجود سيبدأ في الواقع طريق التجديد اللازم لتحقيق الفاعلية المرجوة للسلطة الفلسطينية.
وتدعو المرحلة الثالثة والأكثر صعوبة إلى البدء بجهود إعادة الإعمار على مسار موازٍ لتحويل النظام السياسي في غزة. ومن شأن إعادة بعض عناصر السلطة الفلسطينية، إلى جانب المراقبين العرب والدوليين، أن تشير إلى أن عملية سياسية جديدة قد بدأت في التبلور.
وخلال هذه المرحلة قد تحظى سيناريوهات اليوم التالي، التي تم توضيحها بالفعل لغزة، بفرصة التنفيذ. وبالإضافة إلى ذلك، في هذه المرحلة، قد توفر عمليات إعادة التوجه الإقليمي الأوسع، وخاصة بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، محفزًا على إعادة تنشيط حل الدولتين واتخاذ خطوات عملية نحو تنفيذه.
وينبغي أن تركز الاعتبارات الأساسية على وتيرة التغيير التدريجي وسط دمار غير مسبوق، مع ضمان تأمين حدود غزة مع إسرائيل وعدم تكرار ما حدث في 7 أكتوبر 2023.
إعادة التأهيل
السؤال المفتوح الأكثر إزعاجاً هو: ما الذي بقي من آلاف مقاتلي كتائب القسام الذين سيظل لديهم بعض أسلحتهم وتدريبهم العسكري؟ هل يمكن إعادة تأهيل هؤلاء المقاتلين، والتخلص من التطرف، وإعادة تدويرهم في إدارة جديدة في غزة؟ وهل يمكن للأمثلة المعاصرة، مثل ما حدث مع متمردي القوات المسلحة الثورية في كولومبيا أو أعضاء الجيش الجمهوري الأيرلندي في أيرلندا الشمالية أو مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية (الذين أصبحوا نواة السلطة الفلسطينية)، أن تُعتمد كأمثلة قابلة للتطبيق لإعادة التأهيل السياسي؟ إذا كان أعضاء حماس الذين لم يتورطوا في جرائم فظيعة ضد الإسرائيليين على استعداد لأن يكونوا جزءاً من الإدارة الجديدة، فهل ستدعم إسرائيل والولايات المتحدة برنامج إعادة التأهيل؟
ومن الممكن أن توفر مجموعة من الحوافز، وضمانات السلامة، والآفاق الواعدة، منافذ قابلة للحياة لمقاتلي حماس الذين لا قائد لهم والذين يبحثون عن وسيلة للخروج من المستنقع.
ويمكن أن تكون الأساليب الإبداعية مثل برامج إعادة شراء الأسلحة -وخاصة تلك التي تسعى إلى جمع معدات إستراتيجية مثل الصواريخ المضادة للطائرات، وأنظمة الصواريخ بعيدة المدى، وآلات ومعدات تصنيع الأسلحة، والألغام، وقاذفات القنابل الصاروخية، والذخائر الثقيلة- قادرة على إثبات نجاحها.
وهو أمر حيوي في تقليص توافر الأسلحة داخل غزة. وهذا، إلى جانب المراقبة المستمرة لمنع التهريب في المستقبل، من شأنه أن يقلل من قدرة مقاتلي حماس المتبقين على مواصلة التمرد في مرحلة ما بعد الحرب، وخاصة إذا تم نفي معظم قادتهم أو القضاء عليهم.
وثمة نهج آخر يستحق النظر فيه، وهو التجربة الناجحة مع مجالس الصحوة في العراق (المعروفة أيضا باسم أبناء العراق)، والتي سعت إلى مكافحة الفظائع التي ارتكبها تنظيم القاعدة في ذروة التمرد العراقي، فقد تمت إعادة تأهيل زعماء العشائر السنية، وضباط الجيش العراقي السابقين، وحتى المتمردين والمسلحين السابقين، في بنية أمنية جديدة للاستفادة من خبراتهم ومعارفهم المحلية في مكافحة المتمردين.
وقد أثبت هذا النهج قيمته البالغة في ترويض العنف واسع النطاق في محافظة الأنبار و”المثلث السُنّي”، وفي نهاية المطاف دعم نجاح الجنرال ديفيد بتريوس في تحقيق الاستقرار في العراق في ذلك الوقت.
ومع ذلك فقد تم عكس نجاح مجالس الصحوة بسبب رفض الحكومة العراقية التي يهيمن عليها الشيعة دمج المقاتلين السنة في قوات الأمن العراقية، ما مهد الطريق للعديد من مقاتلي هذه المجالس للانضمام إلى دولة العراق الإسلامية بعد سنوات.
بينما تصبح الظروف الإنسانية في جميع أنحاء غزة كارثية فإن الضغط الدبلوماسي والسياسي المتزايد على الحكومة الإسرائيلية قد يفرض تغييرًا كبيرًا في نطاق العملية العسكرية
وعلى نحو مماثل قد يتخلى الكثير من مقاتلي حماس عن التشدد إذا عُرض عليهم مسار طويل الأمد ومستدام نحو نظام جديد يحفزهم على التخلي عن العنف أو أن يكونوا جزءاً من نموذج أمني جديد.
وكان برنامج اجتثاث البعث الكارثي في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 بمثابة قصة تحذيرية لنهج محصلته صفر في إعادة البناء وإعادة التأهيل السياسي.
ورغم أن هذه السياسة ربما كانت حسنة النية في الرغبة في استئصال فلول نظام صدّام حسين من النظام السياسي العراقي الجديد، فإنها ساهمت في الفوضى التي تلت ذلك والتمرد من جانب العاملين في الخدمة العامة الساخطين الذين لا أمل لهم في البلد الجديد.
وبعد الهجوم الذي شنته حركة حماس في السابع من أكتوبر الماضي قد يكون من الصعب التسامح مع سيناريو تتم بموجبه إعادة تدوير بعض البنية الأساسية لحماس وتحويلها إلى نظام سياسي فلسطيني في المستقبل.
ويتطلب التراجع عن عقود من الإرهاب والسيطرة الإدارية التي تمارسها حماس في القطاع إقناع الفلسطينيين بالعدول عن القهر الأيديولوجي والسياسي الذي تفرضه الحركة على غزة.
ويحتوي التاريخ المعاصر على أمثلة متعددة للجهات الفاعلة السياسية واللاعبين الذين شاركوا في الإرهاب العنيف قبل إعادة تأهيلهم كجزء من الاتفاقيات والعمليات، وما تبقى من حماس في غزة قد لا يكون مختلفا.