محمد غازي الجمل
منذ فوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، فرض الاحتلال حصارا سياسيا واقتصاديا على الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم تركز هذا الحصار على غزة عقب الحسم العسكري وانفراد حماس بحكم القطاع وخروجها من مشهد الحكم بالضفة المحتلة عام 2007.
وهدف الاحتلال من خلال حصاره لمعاقبة الفلسطينيين على انتخاب حركة ترفع شعار المقاومة و”كيّ وعيهم” بما يمنعهم من تكرار فعل كهذا، إضافة إلى محاولة تغيير فكر وإستراتيجية حماس للقبول بالانخراط في مسار التسوية السلمية والتخلي عن العمل المقاوم.
ولم يكن موضوع الحصار غائبا عن دوافع حماس في القيام بعملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما زال في صلب التدافع بخصوص شروط وقف الحرب التي يدور التفاوض حولها.
وفي ضوء مركزية ملف الحصار سياسيا واقتصاديا وعسكريا، نستطلع فيما يلي مفهوم الحصار وأهدافه وطرق مقاومته تقليديا، وتجربة قطاع غزة بهذا الصدد.
تكتيك الحصار وأهدافه
ارتبط الحصار تاريخيا بحالة الحرب، إذ كان تكتيكا يهدف إلى إجبار دولة أو مدينة على الاستسلام، من خلال قطع المؤن والإمدادات العسكرية عنها لفترة طويلة.
ومن أقدم التجارب بهذا الشأن حصار الإسبارطيين للأثينيين في القرن الخامس قبل الميلاد. وكان الحصار في حالة السلم، وترتيبات العقوبات الاقتصادية، حاضرين أيضا في اليونان القديمة.
وتناول الفيلسوف الصيني الشهير صن تزو تكتيك الحصار في كتابه “فن الحرب” محذرا من مخاطره على المهاجمين أغلب الأحيان.
واستمر الحصار كتكتيك مركزي منذ العصور الوسطى إلى الوقت الحالي، مع تطور أشكاله، ودعمه بغطاء سياسي دولي من منظمة الأمم المتحدة، كما حدث في حصار العراق وليبيا والسودان.
حصار العراق
ويعد حصار العراق من الأمثلة على استخدام الحصار في وقت السلم لتحقيق أهداف سياسية، إذ فرض القرار الأممي رقم 661، في أغسطس/آب 1990، عقوبات اقتصادية خانقة عليه لتجبره على الانسحاب الفوري من الكويت، لكنّها استمرت عقب ذلك نحو 13 عاماً، ودمرت، هي والحرب، مقومات الدولة المدنية والعسكرية على حد سواء. وهذا ما دفع دينيس هاليداي مساعد الأمين العام الأممي ومنسق الشؤون الإنسانية بالعراق للاستقالة عام 1998.
ووصف هاليداي ما رآه لدى زيارته العراق حينها -في مقابلة أجراها مع موقع “العالم ما بعد الحرب- بقوله: إن العقوبات كانت شاملة وذات نهايات مفتوحة، بمعنى أنها تطلبت قرارًا من مجلس الأمن لإنهائها.
وفي حرب الخليج، قامت الولايات المتحدة وبدعم من بريطانيا وبعض الدول بقصف العراق واستهدفت البنية التحتية المدنية، بما في ذلك أنظمة الاتصالات والطاقة الكهربائية، مما قضى على إنتاج الغذاء والبستنة وجميع ضروريات الحياة الأساسية. كما أغلقوا الصادرات والواردات، وتأكدوا من أن العراق غير قادر على تصدير نفطه الذي كان المصدر الرئيسي لإيراداته في ذلك الوقت.
وقام المحاصرون باستخدام سلاح اليورانيوم المنضب، وأدى التراكم الهائل للمخلفات النووية إلى انتشار سرطان الدم بين الأطفال. وفي الوقت نفسه، حظرت واشنطن ولندن بعض مكونات العلاج، وبدا الأمر مرة أخرى إبادة جماعية إذ حُرم الأطفال العراقيون من حقهم في البقاء على قيد الحياة.
وفي تحليلهما للحصار وأهدافه، رأى الباحثان العراقي طارق يوسف إسماعيل والأميركي وليام حداد في كتابهما “العراق.. الضريبة البشريَّة للتاريخ” أن الحصار كان مخالفا للقانون الدولي وأن الدوافع الحقيقية لواشنطن ولندن كانت الهيمنة على الشرق الأوسط الذي يحتوي على أكبر موارد النفط وأغناها، والسعي لتحييد نفوذ العراق.
وبالنظر لهذا السلوك من الولايات المتحدة وبريطانيا والصمت الأممي تجاهه، يمكن فهم تجرؤ دولة الاحتلال على فرض الحصار على الفلسطينيين لأسباب سياسية، وهي تصويتهم بنسبة مرتفعة لصالح حماس بالانتخابات التشريعية، وتشديدها الحصار على القطاع عقب سيطرة حماس عليه، وصولا إلى قطع الماء والكهرباء والوقود عنه عقب “طوفان الأقصى” دون خوف من ملاحقة أو محاسبة دولية.
أنواع الحصار
يطلق مصطلح الحصار عادة على نوعين هما: الحصار الشامل والعقوبات الاقتصادية، وتفرق تعريفات الحصار بين ما هو فعّال أو غير فعّال أو شكليّ، ويرتبط الأمر بمدى القدرة على إنفاذه.
وعلى سبيل المثال، تمكنت إيران من الالتفاف على العقوبات الدولية بطرق منها اتفاقات المقايضة المعززة بتحركات سياسية وعسكرية تسعى لنزع شرعية العقوبات، والتلويح باستخدام القوة الخشنة لحماية صادراتها واستهداف مصالح الدول التي تسعى لتطبيق إجراءات الحصار. وسلوك كهذا يستهدف إبقاء الحصار في حالة غير فعالة.
ولم تنجح 6 عقود من العقوبات الأميركية على كوبا في تغيير سياستها، رغم إسهامها في المعاناة الواسعة النطاق للشعب الكوبي، والأمر شبيه في حالة كوريا الشمالية، حيث عزز النظام تحالفه مع خصوم واشنطن، وطوّر برنامجا نوويا وصناعات عسكرية عزّرت قوته وأضعفت احتمالات تعرضه لهجوم خارجي.
وتمكن البوسنيون من تحييد فعالية حصار الصرب لعاصمتهم سراييفو الأعوام 1992- 1996 من خلال حفر نفق زوّد المدينة بالمقاتلين والاحتياجات المدنية والعسكرية، مما أدّى إلى تغيير مسار الحرب وأسهم في نيلهم الحكم الذاتي.
حصار غزة
ويعدّ ما يتعرض له قطاع غزة مزيجا من العقوبات الاقتصادية في أوقات الهدوء والحصار الشامل أوقات الحرب، ويوثق المرصد الأورومتوسطي هذا بقوله إن إسرائيل فرضت الحصار على القطاع عقب فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية، ثم شددته بعد سيطرتها عسكريًا على القطاع في يونيو/حزيران 2007، إذ أعلنت هذا القطاع كيانًا معاديا.
كما فرضت إسرائيل عقوبات إضافية مسّت على نحو مباشر بالحقوق الأساسية للسكان، وشمل ذلك فرض قيود مشددة على دخول الوقود والبضائع وحركة الأفراد مـن وإلى القطاع.
وعلى مر السنين، عملـت السـلطات الإسرائيلية علـى ترسيخ سياسة عـزل القطاع، من خلال فصله عـن الأراضي الفلسطينية بالضفة والقدس الشرقية، إلى جانب التحكم في كمية ونوعية البضائع والمواد التي تدخل إلى القطاع وحظر المئات منها، مما تسبب بركود اقتصادي شامل، وارتفاع حاد في معدلات الفقر والبطالة.
وعلاوة على ذلك، أثّر الحصار الإسرائيلي على نحو خاص على القطاع الصحي في غزة، إذ لا تتوفر كثير من الأصناف واللوازم الطبية الأساسية، ويضطر كثير من المرضى للانتظار لأشهر من أجل إجراء العمليات الجراحية.
ما بعد “طوفان الأقصى”
أما عقب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فقد أعلنت إسرائيل الحصار الشامل على غزة بعده بـ48 ساعة من قبل وزير الدفاع يوآف غالانت، كما أمر وزير الطاقة يسرائيل كاتس بقطع إمدادات المياه عن غزة.
ووصف تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ”أونكتاد” -في يناير/كانون الثاني 2024- أثر الحصار المترافق مع الضربات العسكرية الإسرائيلية على القطاع بقوله “إن الظروف المعيشية في غزة في أدنى مستوياتها منذ بدء الاحتلال عام 1967”.
بينما أشار تقرير “التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي” المدعوم أمميا، والصادر في 21 ديسمبر/كانون الأول 2023 إلى أن “أكثر من 25% من الأسر في القطاع تعاني من الجوع الشديد”. كما أكد أن جميع سكان غزة “يعانون من أزمة أو مستويات أسوأ من الانعدام الحاد للأمن الغذائي”.
وأظهر أيضا أن 26% من السكان (نحو 577 ألف شخص) قد استنفدوا إمداداتهم الغذائية وقدراتهم على التكيف، ويواجهون جوعا كارثيا (المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل) ومن الجوع الحاد.
وقال التقرير إن هناك خطرا لحدوث المجاعة في غزة خلال الأشهر الستة اللاحقة لصدوره “إذا استمر الصراع العنيف وتقييد وصول المساعدات الإنسانية”.
ووفقا للأمم المتحدة تُعرف المجاعة بأنها “الجوع الذي تواجه فيه ما لا يقل عن 20% من الأسر نقصا شديدا في الغذاء، ويعاني 30% من الأطفال على الأقل من سوء التغذية الحاد، وتحدث في ظله أكثر من حالتي وفاة يوميا من بين كل 10 آلاف شخص بسبب الجوع الشديد أو نتيجة لسوء التغذية والمرض معا”.
مقاومة حصار غزة
منذ فوز حماس بالانتخابات التشريعية وظهور بوادر الرفض الدولي لخيار الشعب الفلسطيني، سعت لتشكيل حكومة تجمع مختلف أنواع الطيف السياسي الفلسطيني بما يضعف شرعية أي إجراءات عقابية دولية على الفلسطينيين، إلا أن الضغوط الدولية والمراهنة على إفشال أي حكومة تقودها المقاومة منع تشكّل حكومة كهذه آنذاك.
كما سعت حماس إلى تصدير خطاب سياسي يخفف الضغوط الدولية وتداعياتها المعيشية على الشعب بالضفة والقطاع، فاعتمدت “وثيقة الوفاق الوطني” أساسا لبرنامج حكومة الوحدة الوطنية برئاسة اسماعيل هنية ومشاركة وزراء من حركة فتح والجبهة الديمقراطية وغيرها من القوى الفلسطينية. إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار الحصار.
وعام 2007، انحصرت سلطة الحكومة التي ترأسها حماس في القطاع، وشدّد الاحتلال حصاره على القطاع، وتعاونت مصر مع اشتراطات الاحتلال، وسلّمت له بالحق في تقرير ما يدخل وما يخرج منه عبر معبر رفح.
تخفيف الحصار
وفي مواجهة هذا الواقع سعت حماس لتخفيف هذا الحصار بوسائل عديدة:
على المستوى السياسي أدارت مفاوضات طويلة للمصالحة مع فتح، وكان من أهم أهدافها تخفيف الحصار على القطاع، وتولي السلطة مسؤولية توفير المستلزمات المعيشية لأهل القطاع، إلا أن ربط السلطة المعلن للمصالحة باشتراط موافقة حماس على اتفاقيات أوسلو كان سببا رئيسيا في عدم نجاح هذا المسار.
على صعيد العلاقات مع مصر، تجنّبت حماس التصعيد الإعلامي والسياسي حرصا على تخفيف ظروف الحصار، وتعاونت معها في ضبط الحالة الأمنية الحدودية، وهو ما أسهم في وجود ظروف مخففة من الحصار فترات عديدة.
كان رفع الحصار هدفا أساسيا في جولات التصعيد العسكري والحروب التي خاضتها المقاومة مع الاحتلال الأعوام: 2008 و2012 و2014 و2021 و2023، إضافة إلى مسيرات العودة التي استمرت منذ مارس/آذار 2018 وحتى سبتمبر/أيلول 2019.
وفي حين أسهمت هذه الإستراتيجية في تخفيف الحصار مرحليا، إلا أن الاحتلال كان يعمد إلى تعميق جراح الشعب من خلال الدمار الواسع الذي يخلّفه عدوانه على القطاع، وإعاقته إعادة الإعمار بالتفاهم مع السلطات المصرية، وبغطاء أميركي وأوروبي.
ولتوفير اللوازم المدنية والعسكرية ومواجهة الحصار، لجأ أهل القطاع إلى حفر الأنفاق والتهريب عبر البحر والبر، وهو ما أسهم في بناء المنظومة القتالية للمقاومة على مدار قرابة عقدين من الزمن.
غير أن النظام المصري شن منذ أكتوبر/تشرين الأول 2013 حملة واسعة لتدمير الأنفاق وإقامة منطقة عازلة داخل الحدود المصرية، مما قلّل من قدرة الأنفاق على توفير احتياجات القطاع.
وفي رد فعل آخر على الحصار، لجأ أهل القطاع إلى اختراق الحدود مع مصر بأعداد كبيرة للتزوّد باحتياجاتهم الضرورية مرتين، أولاهما في سبتمبر/أيلول 2005، وثانيهما في يناير/كانون الثاني 2008. إلا أن السلطات المصرية أقامت جدارا عازلا عقب ذلك وعززت انتشارها الأمني لمنع تكرار الحدث.
وكان هناك تحرّك دولي تضامني سارت فيه قوافل برية وأساطيل بحرية تحمل مساعدات إنسانية لأهل القطاع، وتسعى إلى الضغط على دولة الاحتلال والسلطات المصرية لرفع الحصار. ومن أبرزها قوافل “أميال من الابتسامات” البرية، وأساطيل الحرية أعوام 2010 و2011 و2015 و2016، والتي منعت قوات الاحتلال وصولها.
وأدّى الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية الأول عام 2010 إلى استشهاد 9 من الناشطين الأتراك، وإلى أزمة دبلوماسية لسنوات مع أنقرة. ومنذ بدء الحصار زاد اهتمام أهل القطاع بمشاريع الإنتاج النباتي والحيواني، بما يشمل أنواع الزراعة المختلفة وتربية المواشي والدواجن والأسماك، إضافة لصيد السمك، وظل هذا محل تدافع مع الاحتلال الذي كان يدمر هذه المشاريع في الحروب ويضيّق عليها بإغلاق المعابر وإعاقة إدخال مستلزماتها وإعاقة تصديرها، ويسهم في مساعي الاحتلال هذه إبقاء السلطات المصرية تخصيص معبر رفح لعبور الأفراد دون البضائع.
وختاما، يظهر استعراض مسيرة الحصار ومقاومته أنه أحد أهم مجالات حرب التحرر من الاحتلال، وأن مصيره مرتبط بمصير هذه الحرب، إذ تتوقف نهايته على أحد أمرين: توقف مقاومة الفلسطينيين للاحتلال وهو غير متوقع، أو انكسار إرادة الاحتلال ونشوء ظرف دولي أو إقليمي يمنع استمرار هذه الجريمة المتواصلة منذ 17 عاما، وهو ما تدفع باتجاهه أمور منها تراجع الشرعية الدولية لدولة الاحتلال، وارتفاع كلفة تأييد سياساتها بالنسبة لرعاتها الغربيين، واتضاح إصرار الفلسطينيين على تجديد ثورتهم على الاحتلال ومقاومتهم إياه بشتى الوسائل.
المصدر : الجزيرة نت