جهاد حسين
كاتب سوداني
في إحدى الصفحات التي دوّن فيها الكاتب الراحل، نصر حامد أبو زيد، آراءه النقدية والفكرية، وتحديداً في كتاب “نقد الخطاب الديني”؛ كتب في شأن إخضاع النص القرآني لسلطة العقل: “ولأنّ الخطاب الديني يدرك أنّ الاحتكام إلى هذه السلطة (أي سلطة العقل) يُفقِده كلّ أسلحته، ويكشف قناعه الأيديولوجي؛ فإنه يعجز عن الحوار على أرض العقل، ويلجأ في وجه محاولات تأسيسه في ثقافتنا إلى التكفير، وهو سلاح فعّال في واقع مختلف يعاني أغلبية أفراده من الأميّة التعليمية، ويعاني أغلبية متعلّميه من الأمية الثقافية”.
وبغضّ النظر عن قضية الخطاب الديني وسلطة العقل؛ لم تكن هنالك سطور تستحقّ التوقف عندها طويلاً من هذا الكتاب، بقدر ما استحقه السطر الأخير من المقطع المُقتبس منه، الذي ذكر أزمة المجتمع ولخّصها في أزمتين، هما؛ “الأمية التعليمية والأمية الثقافية”، وإذا تمّ تجاوز معضلة الأمية التعليمية التي قد تحدث لفئات كبيرة من الناس في أيّة بقعة جغرافية، لسبب خارج عن إرادتهم، فإنّ الأمية الثقافية للمتعلمين ستظلّ هي المُعضِلة الأعقد التي تحتاج إلى المواجهة؛ والمواجهة الصادمة، إن صحّ التعبير.
يقول أحد الأصدقاء: “لم أندهش بقدر ما تملّكني الاستياء؛ عندما سألت مديري في العمل، الذي حاز شهادة الماجستير في إدارة الأعمال، وكان سؤالي له بسيطاً؛ ما هو رأيك في نظرية التطور لداروين؟ فلم أجد منه غير الردّ البسيط المعتاد؛ هذه النظرية كفر! رغم أنّ هذه النظرية هي مجرد نظرية علمية، كان بالإمكان لأيّ شخص أن يطالعها بمعزل عن تلك المسلمّات الدينية التي تدّعي أنّ النظرية تدعو للكفر بها”.
هذا الصديق، الذي كان في بداية مسيرته الفكرية في نقد النصوص الدينية، حاداً بدرجة كبيرة في أطروحاته، بسبب اكتشافه لتغييبه الذي حدث له في حياته بسبب التربية والتعليم، يقول في شأن إحدى تساؤلاته التي دعته لخوض هذا المعترك: “كنت أسأل نفسي، مِراراً وتكراراً، لماذا حين أحتاج للنصوص الدينية وتفسيراتها وتأويلاتها، أو لأيّة فتوى من الفقه؛ أُسلِّم عقلي لشيخ لا يملك أيّة ذخيرة علمية أو معرفية، سوى النصوص الدينية، وأنا الحائز على شهادة البكالوريوس في الهندسة الميكانيكية؟”.
فإذا كان قد طرح سؤاله بشأن لجوئه للشيوخ، مدّعياً أنّ مؤهله العلمي، بدرجة البكالوريوس، يُغنيه عن ذلك، ويمنحه القدرة على التفكير بشأن تأويلات النصوص الدينية، وإيجاد الحلول في بعض الفتاوى؛ فمديره الحائز درجة الماجستير قد دحض له هذا الاعتقاد تماماً، مؤكداً أنّ المشكلة ليست في الحصول على درجة علمية، بعد أعوام طويلة من التعليم، إنّما هي مشكلة أخرى أعقد من هذا الأمر بكثير.
تلك الإشارة العبقرية من الراحل المقيم، نصر حامد أبو زيد، في حال هذا المجتمع، كانت بمثابة الإجابة العميقة للأزمة التي ظلت بمثابة سؤال محيّر في ذهن الصديق الخائض في معتركه الفكري، الذي كان، وما يزال، ينقد به مسلّماته التي قام عليها من مجتمعه.
والحقيقة تقول: إنّ أزمة الأمية الثقافية التي تكاد تكون هي أكثر أسباب شلل هذه الأمة، تُجسِّد المشكلة التي تصحب الكثير من المضامين والمفاهيم والآليات، التي تسير بها معظم مجتمعات الشرق الأوسط، في التربية والتعليم تحديداً، باعتبارها أكثر الأبواب تأثيراً في تشكيل الفرد فيهم.
فإنّ الفرد في مجتمعات الشرق الأوسط، منذ طفولته، يقوم على تلقين المضامين، خصوصاً في تلك المرحلة، التي يبدأ فيها عقله في التفتح والفضول لمعرفة كلّ ما هو حوله، وهي المرحلة التي تبدأ منها خطورة تحجيم العقل، بتحديد مسار تفكيره.
فالطفل قد يجد نفسه مُعاقباً نتيجة طرحه لسؤال بديهي يخطر بباله، ومثل هذا الموقف يحدث بشكل اعتيادي في المدارس، هذا إلى جانب آلية التعليم التي تقوم على التلقين، كما يعلم الجميع؛ فالذخيرة التي يتحصل عليها الفرد من المنهج التعليمي، تكون في سبيل الحصول على درجة النجاح في الامتحان النهائي للمرور إلى المرحلة التالية، وهكذا تكون العملية إلى آخر درجة علمية يتحصل عليها الفرد في حياته.
إنّ التربية القائمة على التلقين لكلّ مضمون بمثابة الشيء المُقدس؛ هي التربية ذاتها، والآلية ذاتها التي ينتهجها المسلمون في تلقينهم للنصوص المقدسة إلى تلك الدرجة التي يُحَرّم مسّها بسؤال بسيط، قد يؤدي بالفرد إلى الموت، وهي التي تجعل من الحائز شهادة الماجستير، على تلك الدرجة من التغييب، التي يقول فيها إنّ نظرية علمية هي كُفر.
إنّ الأزمة لا تتجسد في أمية الحائز درجات علمية عليا في معرفته لأبسط المعلومات خارج صندوقه الذي قام عليه، إنما تتجسد في الكثير من الأمثولات التي قد تظهر حتى على الكثير من المتمردين من زُمرة المثقفين والسياسيين.
فقد يخرج الفرد منهم من صندوق الأصولية الإسلامية، لينتقل إلى الأصولية الشيوعية، أو أيّة أصولية أخرى؛ التي قد تقود لتقديس أشخاص آخرين، بدلاً عن الرموز الدينية التي تقدّسها غالبية أفراد المجتمع، وهي حتماً أزمة أمية ثقافية، لا تنتهي رواسبها بمجرد التمرد على المسلّمات.
وإضافةً إلى ذلك؛ فإنّ الأزمة تتجسد في تلك الأمثولات التي تُبيِّن بدرجة كبيرة مشكلة توظيف العقل، ولعلّ المقال السابق الذي كان بعنوان “ماذا نريد من المعرفة”، يمثّل مشكلة توظيف العقل في حصوله على المعرفة اللازمة لتحليل الواقع المحلي، وإنتاج معرفة جديدة؛ فكيف للعقل أن يتمكّن من توظيف نفسه بالشكل المطلوب، ليكون جزءاً من زخم التطور الحالي، بعد أعوام طويلة من التعطيل بسبب التلقين؟!
نقلاً عن حفريات