طارق أبو السعد
كاتب مصري
في مطلع القرن العشرين، بدأت مصر تستعيد وعيها، وتكتشف كنزها المدفون، وانتعشت روح الوطنية والحس القومي، وتم ترسيخ المنهج العلمي، ومطاردة الوهم والدجل والشعوذة.
فبعد أنْ قَتل الانتماءُ المزيف إلى الدولة العثمانية، الإحساسَ بالوطنية أو القومية، وبعد أنْ نشر المتستّرون بالدين الوهمَ والخزعبلات بين صفوف الشعوب، ظهرتْ للمصريين الحقيقة، واكتشفوا الطريق نحو تأسيسٍ جديدٍ لذاتٍ جديدة، فأخذتْ مصرُ تتخلى عن مظاهر التغييب العقلي، ومهّدتْ لتوطين الحياة العقلية المستنيرة، سواء في الفكر الإسلامي “الذي كان مشروع محمد عبده” كأحد تجليات التنوير، أو الفكر القانوني “مشروع السنهوري”، أحد تجليات الدولة المدنية الحديثة، وكان من ثماره أنْ بدأتْ موجةُ التنوير بالوصول إلى دستور عام 1923م، الذي أسّسَ لحياة برلمانية واعدة.
ومع أول خطواتنا، في طريق الحداثة، من خلال الأدب والفكر والثقافة، ظهر لنا التيار الإسلامي “كتيار فقهي متشدّد”، وعدّ نفسَهُ ناصحاً أميناً للأمة، فانتدب قادةُ هذا التيار أنفسَهم، ليشخّصوا الدّاء ويصفوا الدواء، زعموا أنّهم سيزيلون غبار التخلف عنّا! فماذا كان تشخيصهم لما تعانيه الأمة؟ هو الابتعاد عن دينهم!!
يقول مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا: “..أعتقد أنّ السرّ في تأخّر المسلمين؛ هو ابتعادهم عن دينهم، وأنّ أساس الإصلاح العودةُ لتعاليم الإسلام وأحكامه، وأنّ ذلك ممكن لو عمل المسلمون، وأنّ فكرة جماعة الإخوان المسلمين تحقّق هذه الغاية)، وأصبحت هذه الجملة هي شعار كلّ فصائل الحركة الإسلامية من بعده، الكلّ يُصرّ على أنّ المسلمين ابتعدوا عن دينهم، وأنّ ما أصابهم من احتلال واختلال، إنّما هو عقاب من الله على هذا التخلي، وأنّ طرد المحتل يحتاج، أوّلاً، إلى العودة للدين الصحيح، التي سيتبعها أنْ يستعيد المسلمون مكانتهم في العالم. ولمناقشة هذه الفرضية، يجب أنْ نسأل أنفسَنا: هل فعلاً ابتعد المسلمون عن دينهم؟ وما المقصود بالدين؟ وهل هناك مظاهر دينية محددة، إذا حدثت في أيّ مجتمع، نقول إنّ هذا هو السبب في الانتصار أو السبب في الهزيمة؟ وإذا كان الانتصار مكافأة من الله للفئة المؤمنة، فهل يمكن القول إنّ المنتصر هو دائماً الأكثر إيماناً؟
إنّ التشخيص الخاطئ يؤدّي، بالضرورة، إلى علاج خطأ، وهذا العلاج يُعطّل الطاقات، ويبدّد المجهود، ويشتّت الأنظار عن العلاج الصحيح، وعلى المدى البعيد، يولّد الحسرةَ وانكسار الأمل، تماماً كما حدث أيام الحملة الفرنسية، عندما قدّم العاجزون حلاً وهمياً لمقاومة الفرنسيين الغزاة، فقالوا لهم إنّ عليهم البقاء في المسجد، وتلاوة القرآن، والدعاء لله أنْ ينجّيهم من البلاء، فلم يحثّوهم على استخدام الوسائل الحربية، أو تنظيم أنفسهم، كما نظّم الفرنسيون أنفسهم.
وها هم أبناء الحركة الإسلامية في القرن العشرين، يُصرّون على استخدام المنهج نفسه، فعندما أصابت الجميعَ الصدمةُ الحضارية، عندما التقينا بالغرب المتقدم، هرب الإسلاميون من تحمّل مسؤولية حثّ الأمة على امتلاك أدوات الحضارة، لتكون سبباً في رفع الهزيمة، وأول خطوة على طريق الإصلاح، وبحثوا في بضاعتهم، فلم يجدوا ما يقدّمونه للأمة العربية والإسلامية، سوى اتهام الشّعب بأنّه سبب البلاء، وسبب الهزيمة، لابتعادهم عن دينهم! “رغم أنّهم الطّرف المجني عليه في هذه المعادلة”.
ومظاهر هذا الابتعاد هي: عدم اكتمال صفوف المساجد في الصلاة، خاصة صلاة الفجر، التي لا يحضرها إلّا قلة قليلة.
ولمّا آمن كثير من الناس بتشخيصهم، نظراً إلى الابتزاز الديني والعاطفي، الذي مارسه الإسلاميون عليهم، وبعد أنْ شاع بين بسطاء الناس، أنّ تخلفهم سببه الابتعاد عن الدين؛ قدموا لهم الوهم بأنّه حلّ، لكن تحت أسماء جديدة، مثل: “حتمية الحل الإسلامي”، أو “الإسلام هو الحل”، أو “الإسلام دين ودولة”، فتغيّر سلّم الأولويات عند الجماهير، وبدل السّعي لامتلاك أدوات العمل، أصبح شُغلُنا الشّاغلُ إثبات أنّ الإسلام هو الحل، وبدل دراسة التاريخ ومعرفة كيف تقوم الأمم، أو ما سبب انهيارها، أصبح شغلنا إثبات انتمائنا للجزيرة العربية، وليس لذاتنا الإنسانية الحالية، وبدل التعرف على العلوم الاقتصادية، وكيفية النّمو، أصبحتْ مهمتنا أنْ نُحرّم وضع الأموال في البنوك ونضعها في شركات توظيف الأموال الإسلامية، ثم دارت معركة بين مؤيدي التشخيص الخطأ، والعلاج الخطأ، والرافضين لهما؛ فضاعت طاقات الأمة، واستُهلكت في قضايا خلافية تافهة، استنزفتْ قدراتنا في محاولات تطبيق العلاج الخطأ، والمحكوم عليه بعدم الجدوى “تاريخياً وواقعياً”، لا نحتاج الإشارة إلى أنّنا متأخرون في كل المجالات، فهذه حقيقة، لكنْ ليس لأنّنا ابتعدنا عن دين الله؛ بل لأننا ابتعدنا عن الأخذ بالأسباب، العلمية والمنهجية لهذه العلوم؛ فخطورة التشخيص الخطأ، ليس في أنّه خطأ، والتجربة كفيلة بإثبات فشله، إنّما الخطورة في تلك الفئة التي تحارب مَن يقول إنّه خطأ، الخطورة في ترسيخ منهجية غير عقلية أو علمية، الخطورة في اتهام المختلفين مع الإسلاميين، بأنّهم يحاربون الله ورسوله، فهل هناك عاقل يقف أمام الله؟؟ كان يجب على الصفوة والطليعة المثقفة، بالتعاون مع علماء القانون، وعلماء الاجتماع، والتاريخ، والاقتصاد، والسياسة، …إلخ، أن يكشفوا زيف هذا التشخيص، ويفنّدوا فرضياته، فلم تكن مصر في أية لحظة من لحظاتها، قريبة أو بعيدة، عن الدين، لقد كان الشعب المصري شعباً طبيعياً، يؤمن بالله، وبرسوله الكريم، ويطبق الأحكام، وينحاز للأخلاق، في كلّ مرحلةٍ تاريخيةٍ، بما يتناسب مع طبيعة المرحلة التاريخية وخصائصها، والتدين الشعبي هو الأكثر استمرارية والأكثر بقاء.
إنّ المرض الذي كانت مصر تعاني منه، والأمة العربية، هو غياب العدالة المجتمعية والعدالة الاجتماعية، مع العدالة القضائية، وما كانت تعانيه مصر هو غياب الوعي، والضبابية، وغياب قواعد العلوم التطبيقية، كان يجب على العلماء أن يقولوا لهم إنّ مظاهر المرض التي رصدوها خاطئة، فهذا موجود منذ عهد النبي، عليه السلام، ولم تكن الحياة الإسلامية في صدر الإسلام رائعة، كما توهّم هؤلاء؛ فبطون الكتب تخبرنا بحياة اجتماعية فيها ما فيها، فلم يكن العدل الاجتماعي موجوداً، ولا الإصلاح السياسي منشوداً، وغابت المؤسسة العادلة التي تقيم العدل، وغابت حرية الرأي، تستطيع أن تقول إنّ هذا هو المجتمع المثالي الذي يجب أن يعود، ليبتعد المصريون عن طريق الإصلاح الحقيقي؛ لأنّ المتضررين من وعي مصر الذاتي، كان يهمهم تغييب الوعي مرةً أخرى، هؤلاء ارتكبوا جريمة التشخيص الخاطئ، بالتالي، وصفوا العلاج الخاطئ، فمَنْ يشخّص لنا الدّاء، ويصفُ لنا الدّواء الصحيح؟!
نقلاً عن حفريات