سعود الشرفات
كاتب أردني
إنّ أهمّ ملامح التصوف (العالمي) المتجاوز للأديان ليس تأثيره الفعّال في المجتمعات المعولمة المعاصرة؛ بل تلك السمة الرومانسية الطاغية التي يتسم بها “أفهوم” التصوف ودلالاته، كما يقول الفلاسفة.
وما من شك بأنّ التصوف -الذي يُوصف بالإسلامي- اليوم يحظى بجلِّ الاهتمام العالمي ومن مختلف الأوساط، بداية من الدوائر الأكاديمية البحثية وصولاً إلى الدوائر الأمنية والاستخبارية، باعتباره مسالماً متسامحاً وديعاً، يركن إلى الروحانيات والماورائيات، وهو ما يبعده ويصرفه كلياً عن الاهتمام بشؤون الحياة العامة، وبالتالي الاشتغال بالسياسة على مختلف أنواعها.
ورغم أهمية التصوف بشكل عام تاريخياً -وليس هذا مجال بحثنا- إلا أنه من المتفق عليه لدى الكثير من المتابعين أنه بدأ يأخذ زخماً، ويُتداول في أوساط ضيقة كبديلٍ /أو/ مضادٍ للعنف أساساً، وللعنف السياسي والتطرف والإرهاب، وتحديداً إثر هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية ضد أمريكا، ذلك أنّ أمريكا، كمنظومة معرفية واسعة وعميقة، منظوراً إليها كوريث للحضارة الغربية، على الأقل الإنجلوساكسونية، وكإمبراطورية مهيمنة، صرخت بسؤال معروف الآن لكلّ المتابعين والخبراء والمؤرخين، وهو سؤال السذاجة المتغطرسة: “لماذا يكرهوننا”؟
وفي مسيرة الإجابة عن هذا السؤال، تبرّع وتطوّع كثيرون، في مختلف أنحاء العالم، لتقديم الإجابات ومحاولة اجتراح الحلول بنية حسنة لتقديم البديل، في الوقت نفسه وجد آخرون في هذا الملف فرصة للعمل والاسترزاق.
إحدى هذه الإجابات كانت تقديم مشروع توظيف “التصوف الإسلامي” كحلٍّ للتخلص، أو التخفيف من ربقة الإرهاب، حتى لا أقول التطرف والتطرف العنيف، لأنّ المسألة تجاوزتهما إلى فعل الإرهاب الشامل والصريح.
رغم الجدل الديني والسياسي، والرومانسية الطاغية التي حظيت بها الصوفية الإسلامية، إلا أنها كانت من أكثر الفرق الإسلامية في التاريخ الإسلامي التي نُكّل برموزها الشهيرة لأسباب سياسية متعددة، ما زالت مثار جدل بين المؤرخين حتى الآن.
الصوفية الحركّية
بعيداً عن التفصيلات والاجتهادات الكثيرة، والمتضاربة حول تاريخ الصوفية في الإسلام، فهذا الخليفة العباسي المقتدر بالله يأمر بصورة متوحشة بتعذيب وقطع رأس “الحلاج” أبي المغيث الحسين بن منصور سنه ٩٢٢م بتهمة الكفر والزندقة.
وهذا بطل الحروب الصليبية، وأحد أهم رموز التسامح والفروسية في العصور الوسطى، خاصة في أوروبا الغربية، صلاح الدين الأيوبي السني الأشعري، يأمر بقتل شهاب الدين أبو الفتوح يحيى السهروردي (المقتول) فيلسوف وشيخ الإشراق وصاحب كتاب “حكمة الإشراق” بتهمة الكفر والزندقة، في حلب العام ١١٩١م، رغم ما يُروى عن صلاح الدين أنه كان من أتباع الطريقة القادرية الصوفية، وكان له “خانقاه” بالديار المصرية أقامه للصوفية، خانقاه معروف في مصر، هي الدور التي يجتمع فيها أهل التصوف للذكر، وبنى مدارس الصوفية في جبل قاسيون في الشام. ومعلوم للمتابعين أنّ (الحلاج والسهروردي) كليهما قد وُصما بالكفر والزندقة من قبل شيخ الإسلام ابن تيمية.
لكنّ الكثير من الدراسات والأبحاث التاريخية المعاصرة تؤكد أنّ السبب الرئيس للتخلص من زعماء وشيوخ الصوفية كان السياسة والتنافس السياسي، ثم المنافسة الفردية والمكائد القائمة على الغيرة والحسد والتنافس على الحظوة والقرب من الخليفة أو الحاكم أو السلطان، وأنّ الدين / أو/ صحيح الدين قد وظِفّ ولعب دوراً محورياً في هذه المعركة بشكلٍ خدم السلطة والأنظمة، وكان وبالاً على الصوفية لاعتبارات كثيرة جداً.
أهم هذه الاعتبارات أنّ لغة الخطاب والتواصل الصوفي كانت معطلة كناقل واضح وأمين للأفكار والطروحات السياسية تحديداً، نظراً لأنّ الخطاب الصوفي يتسم بالغموض والتعقيد الذي يفوق فهم واستيعاب غيرهم، وتحديداً العوام. وهو ما استُغل ضدهم طوال تاريخ صراع الملل والنحل، والفرق الإسلامية في مواجهة السلطة أو في مواجهة بعضها البعض.
بل كان لها جذور وبنى ومشاريع سياسية تمّ التعبير عنها في الكثير من المرات من خلال ما يطلق عليه في بعض أدبيات الدراسات الصوفية “الصوفية السياسية” أو “الصوفية الحركية”، التي تعتمد على الثورة ضد الظلم والطغيان، والتي طوّر نظريتها العامة الحلاج وتلامذته، وقد تجلت في دعم ثورات معروفة في التاريخ الإسلامي، مثل ثورة الزنج على الخلافة العباسية في منتصف القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، التي تمركزت حول مدينة البصرة، جنوب العراق، وامتدت لأكثر من 14 عاماً (869 – 883م) ، وحركة القرامطة في الأحساء والبحرين.
وشاركت الطرق الصوفية بقوة وحضور كبير في الحروب الصليبية، وبرز منها مشاهير القادة العسكريين، مثل القائد نور الدين زنكي الذي كان يجالس رجال التصوف، وهو الذي قرّر كتاب الغزالي “إحياء علوم الدين”، وهو من أشهر كتب التصوف، للجيش كله، وفي حروب المماليك ضد التتار برز من قاداتها القائد العسكري سيف الدين قطز الذي انتصر على التتار في معركة عين جالوت سنة (656)هـ، وكان من تلامذة الشيخ العز بن عبد السلام الذي يعتبره البعض من كبار رجال التصوف. والقائمة تطول بمساهمة زعامات الصوفية في الحروب الصليبية وقتال التتار والمغول.
الصوفية كبديل
أظن أنّ عملية التنكيل البشعة بزعماء الصوفية قد عطلت من مسيرة هذه الحراكية، كما أنها أثرت بشكل عميق على البنية العقلية والنفسية لزعماء الطرق الصوفية، ودفعتهم إلى التقوقع والانكماش الإجباري طيلة القرون الماضية. ولم يكن لهم دور في الصراعات والحروب والأزمات الداخلية.
لكن ما أن توفرت لهم الفرصة المناسبة حتى شاركوا فيها بكل قوة وحماس. ومثال على ذلك الحركة السنوسية التي تُنسب إلى الشيخ محمد بن علي السنوسي 1202هـ ـ 1276هـ (1787ـ 1859م)، التي ظهرت في ليبيا وحاربت الاستعمار الإيطالي، وبرز منها الشيخ عمر المختار. وانتشرت في أفريقيا الشمالية كلها، وقد امتدت زواياها من مصر إلى مراكش. ووصلت جنوباً إلى الصحراء في السودان والصومال وغرباً إلى الجزائر، وكذلك انتشرت الدعوة السنوسية في خارج أفريقيا، حيث وصلت إلى أرخبيل الملايو في الشرق.
وفي المغرب برز الشيخ عبد الكريم المغربي قائد حركة المرابطين ضد الاستعمار الفرنسي. وفي الجزائر ظهر الشيخ عبد القادر الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي. وفي أندونيسيا ظهر الإمام الزاهر من آل أبي علوي، وهو الذي أخرج هولندا من منطقة آكي في أندونيسيا.
إنّ الصوفية بشكلٍ عام لم تكن حركة “دروشة” وانسحاب من الفضاء العام، وبعيدة عن الاشتغال بالسياسة وهموم العامة والانخراط الإيجابي في السياسة العامة وشؤون الدولة ونقد ومقاومة الظلم والطغيان كما يصوّرها البعض، وليس صحيحاً أنّ الصوفية كانت بمنأى عن المكائد السياسية، والحركات السرية الثورية، ويمكن أن تعطينا سيرة الحلاج ونظريته بالصوفية الحركية بمقاومة الظلم والطغيان دليلاً على ذلك.
إنّ عدداً من الطرق الصوفية مثلها مثل بقية جماعات الإسلام السياسي الحركية المعاصرة، ويمكن أن تكون مثلها إذا أتيح لها ذلك، وتمّ توظيفها بشكل مناسب.
وتدلّ المؤشرات التي تحدثنا عنها أعلاه حول النشاط الحركي للطرق الصوفية أنها قادرة على لعب دور كبير في المستقبل، للمساهمة في مكافحة التطرف العنيف والإرهاب، لكنها لا يمكن أن تكون الحلّ النهائي.
نقلاً عن حفريات