حسن مصطفى
هل يمكن التفريق بين “الفقيه” و”المرجعية الدينية”، أم أن الإثنين شيءٌ واحد؟
“الفقيه” شخصية مختصة في العلوم الدينية، وتحديداً الفقه والأصول والعقيدة والحديث النبوي وتفسير القرآن الكريم، كونه وصل إلى مرتبة “الاجتهاد”، أي القدرة على استنباط الأحكام الشرعية.
“المرجعية الدينية” أكبر مما سبق، فهي ليست مجرد فردٍ يقدمُ إجابات للمسائل الشرعية، بل هي جهاز مؤسسي متكامل، له تراتبيته، رأس هرمه “الفقيه” ومن ثم أعضاء “المجلس الشرعي للإفتاء” والمساعدون، والممثلون في المدن والدول المتنوعة الذين يديرون شبكة واسعة من “الوكلاء” المعتمدين، ولديهم مهمات محددة تتعلق بـ: الإجابة عن أسئلة الجمهور، وتسلم أموال الخمس وصرفها أو إرسالها إلى المكتب الرئيس للمرجع، كما إمامة الجمعةِ والجماعة، والحكم في الشؤون القضائية وفض النزاعات في بعض الأحيان.
هذه الفروقات الواضحة بين “الفقيه – الفرد” و”الجهاز المرجعي”، تدفع نحو السؤال التالي: أي النموذجين يمكن الاستفادة منه محلياً في إطار الدولة الوطنية الحديثة؟
في مقالتي السابقة “المرجعية الدينية في الخليج.. فكرة تجاوزتها الدولة المدنية”، في صحيفة “النهار العربي”، في 25 شباط (فبراير) الجاري، أشرت إلى أن “مفهوم المرجعية الدينية بشكلها التقليدي الحالي تتعارض مع الإنسان المدني في العصر الحديث، إضافة لكونها تعطي رجال الدين سلطة غير مستحقة، وتخلق سلطة متجاوزة للحدود الوطنية؛ ومن هنا، فإنّ العمل على نزع القداسة وتحرير العقل، يتطلّب التقليل من نفوذ رجال الدين، وليس منحهم مزيداً من القوة”، خصوصاً أن وجود سلطتين واحدةٌ دينية وأخرى مدنية سيقود إلى الصدام بينهما، فضلاً عن أنه وضعٌ لا ينسجم مع بنية الدولة الحديثة والتي هي فضاء مدني صرفٌ وليس دينياً!
بناءً على ما تقدم، فإن تأسيس مرجعية دينية، لها شبكة وكلاء وسلطة رمزية ومادية قوية على الأتباع، سيكون على النقيض تماماً مع التطورات الاجتماعية والمفاهيمية التي تجري في دول الخليج العربي كافة والسعودية بخاصة. وذلك يدفع نحو سؤال آخر: هل يعني ذلك إقصاء علماء الدين ومنعهم من مزاولة أي أدوار اجتماعية أو روحية؟
إن المجتمعات الخليجية عموماً هي مجتمعات محافظة يحضرُ فيها الدين يومياً في حياتها، وعليهِ من غير المنطقي أن يتم التعامل مع الدين بطريقة تعسفية، أو القول إن علماء الدين لا مكان لهم في الحياة العامة نهائياً! ولذا، فإنه بقدرِ ما يجب التعامل منهجياً على منع استخدام الدين في السياسة أو الترويج لخطابات متشددة وطائفية، يجب في الوقت ذاته المضي قدماً في مراجعة الخطاب الديني ونقده وبناء رؤية حديثة تقوم على “رحمانية الدين” وجعله قوة من أجل السلام والتعاون بين البشر وحفظ السلم الاجتماعي.
هذا العمل ستكون رافعته الأساس هي “الدولة” التي عبر مؤسساتها تقوم بصناعة “نخبٍ دينية متنورة” ذات وعيٍ تاريخي وفلسفي وشرعي وقانوني وحياتي عام، وتدركُ بوضوح حدود عملها من دون أن تسعى لأن تكون محل الدولة أو تنتزع مسؤوليتها!
لعقود طويلة عملت “جماعات الإسلام السياسي” على محاولة بناء كوادر ودعاة وحتى فقهاء يكونون البديل الشرعي لمؤسسات الدولة، وذلك في محاولات منهم لانتزاع “الأحقية الدينية”، ويمكن ملاحظة ذلك عبر تتبع نشوء مؤسسات مثل “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، الذي نشطت من خلاله جماعات كـ”الإخوان المسلمين” وسواها.
الإشكالية الرئيسة لدى تيارات الإسلام السياسي، أن “غلبت “الجماعة” أو “التنظيم” على “الفقه”، وسيطر الحشد والتجميع على “العلم” وقضت “السياسة” على “الأخلاق” وقضت “المصالح” على “التقوى” في سلسلة طويلة من عملية تحويلٍ تاريخية لعملية صناعة النخب الدينية لتصبح أسرع وتخدم أهداف “الجماعة”، كما يوضح الباحثُ عبدالله بجاد العتيبي في مقالة له بعنوان “صناعة النخب الدينية”، في صحيفة “الاتحاد” الإماراتية في تموز (يوليو) 2022، ولذا فإنه يشدد على أن “«الجودة» الفقهية و”النزاهة” الأخلاقية و”خدمة” المسلمين هي عناصر يجب توافرها في النخب الدينية الجديدة، وهي بوصفها “نخباً” فهي قليلة العدد بطبيعتها وينبغي أن تبقى كذلك، فالمسلمون ليسوا بحاجة لأن يتحولوا جميعاً إلى “فقهاء” و”مفتين” بل في ذلك تضييع لمصالح الشعوب والأفراد وإشغالٌ لهم عن معاشهم ودنياهم وواقعهم ونهضتهم”.
إن الدولة المدنية الحديثة توفر لمواطنيها حرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر، وتعمل على تنظيم المجال العام ورعايته وفق القوانين التي تحترم حقوق الإنسان من جهة، وتصون كيان الدولة من النزاعات الأهلية – الدينية من جهة أخرى.
إن الفقيه في الدولة المدنية الحديثة ليس هو “الحاكم”، إنما فردٌ يعمل تحت سقف القانون، ويمارسُ مهماته العملية وفق الضوابط التي يحددها النظام، ويقوم بتقديم الفتاوى الشرعية – الفردية، في المسائل التي تخص العبادات، من دون التدخل في إصدار فتاوى كبرى في الشأن العام أو الحرب والسلم أو القتال، كي لا يعارضَ مؤسسات الدولة في مهماتها التي حددتها الأنظمة والقوانين.
وفق ذلك، ستكون لـ”الفقيه” أدوار أخلاقية وشرعية واجتماعية، وسيأتي له الناس لكي يستفتوه بما لا يعلمون، كما يسألون الطبيب أو المهندس أو الخبيرِ كل في مجاله، من دون زيادة أو نقصان، ودون توسيع لدائرة نفوذه أو تشدد في الفتوى.
وجودُ فقيه محليٍ له احترامه ومكانته العلمية، يتحلى بالحكمة والوعي والعلم ويدركُ معنى “مؤسسات الدولة” ويحترم القانون ولا يتعدى على الحريات الشخصية والعامة، هذا النوع من الفقهاء الواعين لطبيعة التحولات الكبرى في الخليج العربي، وإن كانوا قلة قليلة، إلا أنهم يستطيعون أن يقوموا بأدوار إيجابية تعمل على حفظ السلم الأهلي والتخفيف من حدة التوترات الطائفية والعنف والكراهية، وعليهم أن يقدموا الدين في صورته الأكثر إنسانية ورحمانية، وإلا لن يكون لـ”الفقيه” تأثير ملموسٌ في حياة الإنسان المعاصر الذي يسعى لأن يعيش حياته في رخاء وتقدم وسلام.
نقلاً عن “النهار” العربي