عز الدين سعيد الأصبحي
ذات يوم، وفي قلب القاعة المكتظة بالحاضرين بمشهد يعرفه الكثير أيام جماهيرية ليبيا، قبل ثلاثة عقود، كانت منصة الخطابات تكاد تلامس الجمهور المتصبب عرقاً وحماسة، جمهور جُمع من دول شتى متشنج إلى درجة تجعلك تتمنى السلامة والخروج من اللقاء الذي صار مأزقاً حقيقياً، فقط تخرج بسلامة الروح لا أكثر.
يصعد الخطيب تلو الآخر وترى الأعناق تشرئب، والحناجر تهتف بشعارات لا تتوقف عن الإنجاز الثوري، وفي كل مرة يذكر فيها اسم الزعيم ترد الجماهير بصراخ يكاد يدخلها في غيبوبة.
تحول المكان وكأننا في قاعة زار عجيبة، حتى صعد المنبر مشارك أجنبي ألقى خطاباً حماسياً بالبرتغالية وبصوت ألهب القاعة المكتظة أكثر.
اكتشفت أن معظم الحضور لا يعرف البرتغالية مثلي، لكن الرجل أدرك نفسية القطيع، فبقى بين الفينة والأخرى يذكر اسم الزعيم بقوة فترد القاعة بهتاف أقوى وتصفيق لا يتوقف، كان القطيع منسجماً مع حالة الغيبوبة التي يعيشها.
وفي مشهد آخر غير بعيد، في ضاحية بيروت التي بقيت لعقود عاصمة للكتاب والنشر وفضاءً للحرية والتنوع الديني، ترى مشهداً يدمر كل ذلك التاريخ، ويختزل بلد التنوع في مشهد عجيب آخر، حيث الآلاف مرتصة في انتظار الزعيم يطل بعمامته على الشاشة يلقي خطاباً غيبياً.
هنا يحضرك قول غوستاف لوبون ومقولته الشهيرة التي يقول فيها:
“ينزل الفرد درجات عدة في سلّم الحضارة بمجرد انخراطه في جمهور منظم، قد يكون إنساناً مثقفاً عندما يكون فرداً منعزلاً، لكنه بمجرد انضمامه إلى جمهور من الناس، يصبح مخلوقاً بشعاً، يتصرف بفطرته ويشبه الفرد داخل الجمهور حبة رمل وسط حبات رمل أخر”، قد يحضرك القول لأنك غدوت حبة رمل.
وفي تجمع للجماعات المتحوثة (نسبة إلى الحوثي) في صنعاء، ما يشبه حبات الرمل تلك بل وأكثر وضوحاً حيث مئات الأشخاص الذين حتماً كانوا لفترة وجيزة طبيعيين، صبغوا أنفسهم بالمناسبة الدينية/ السياسية من قمة الرأس حتى أخمص القدمين باللون الأخضر.
فالتعليمات الثورية التي جاءت استجابة لنداء إلهي هذه المرة تتطلب إبراز اللون الأخضر، وهو غير لون القذافي وإن كان أشد جنوناً، والشخص الذي لا يتزين بالأخضر يصبح كافراً وضد الثورة أيضاً،
فتم طلاء صنعاء بلون شجرة القات، وكأنها حفلة زار أخرى.
المنظر ظهر أكثر جنوناً من أي خيال سينمائي، الأفواه تمضغ القات بأوراقه الخضراء فتنتفخ الأوداج وتجحظ الأعين، لتجد نفسك حاضراً في مشهد لفيلم عبثي عن الزومبي الأخضر لا في حفل سياسي حاشد.
حوّلوا أنوار منازلهم وملابسهم وأشكال أسمالهم إلى نسخة من أوراق شجرة القات الملعونة تلك.
ويشتد الجنون إلى ذروة فقدان العقل، إذ يقفون رافعين أذرعهم بطريقة التحية النازية المعروفة، ويطلقون صرختهم الشهيرة بـ”الصرخة الخمينية”، هذه المرة باللغة العربية غير المفهومة كونها ممضوغة بالقات لا بالبرتغالية حتماً!
تجد بين المصبوغين بالأخضر أساتذة جامعة فاقدي الأمل ومهندسين سابقين وأطباء تركوا المهنة والتحقوا بركب المعجزات.
ويحضرنا جميعا هنا قول جوزيه ساراماغو عندما قال:
” الأكثر رعباً من العمى هو أن تكون الوحيد الذي يرى”، وبالتالي يذوب الكل في القطيع.
إنها العزلة القاتلة التي تقودُ بلداً نحو الغيبوبة التاريخية حتماً.
لا تعنيني كل تنظيرات البطولات الوهمية، وتقاطع المصالح المتهالكة، فنحن نسير نحو هاوية الغيبوبة التي تصعب العودة منها.
نعم تحضرني قراءات عن خطورة العزلة الجماعية للمجتمعات، هذه العزلة التي تصنع وهماً وتكون السبب الأصيل في ما يعانيه الناس الآن.
ولعل أوضح صورها “تكمن في ترسيخ الخرافة ونشر الجهل، وإهمال التعليم وتنشئة أجيال كافرة بمعنى الدولة والمجتمع”.
وبسبب الانقطاع عن العالم حضارياً، نجد هذا الانتشار لثقافة التزمّت والتشدد وعدم القبول بالآخر، وتجدها لدى كل الأطراف.
وهي ظاهرة مقيتة تنمو دوماً كسبب ونتيجة معاً للجهل وفقدان مصادر المعرفة.
وبسبب تلك العزلة، يعاني الناس الهلوسات أبرزها: “الاعتقاد بالمؤامرة”، إذ يعتقدون أن العالم كله يتآمر على إنجازهم الثوري! لذا ترى القطيع فرحاً يستعرض أسلحة شتى يتباهى بالقوة الزائفة، مردداً وهماً بأنه سيقود مسيرة إيمانية تغير الكون، ثم نصرخ في وجه العالم نريد مرتبات وخبزاً للأطفال! ونُصرّ على نشر خطاب الكراهية والتشظي، “فالعزلة دائماً ما تفقد أصحابها قدرة الشعور بالآخرين.. فتحولهم إلى مسوخ مؤذية وبشعة”.
نعم سنحتاج إلى جهد هو أشد تعباً من جهد بناء المدن في إعادة بناء البشر.
وسيرهقنا الوقت أكثر في عملية استعادة نخبة مدركة للخطر وقادرة على التضحية، نحتاج النخبة القدوة في كل شيء قبل أن تفسد كلية.
وإذا كان الملح يقي اللحم الفساد، فمن يصلح الملح.. إذا الملح فسد؟
نقلاً عن “النهار” العربي