توفيق فائزي
في عبارة “تحرير الدين” ثلاث دلالات، سنسعى في هذا المقال إلى بيانها، فنقول: لا يكون الخوف على السياسة من الدين أو الخوف على الدين من السياسة إلا إذا لم يقوما بأحد أهم غاياتهما، وهو تحرير الإنسان. أما إن قاما؛ أي الدين والسياسة، بإنجاز غاياتهما تلك، فلا خوف على السياسة من الدين أو على الدين من السياسة، بل سيكونان متفقين ببلوغهما تلك الغاية. والدلالة الأولى لعبارة “تحرير الدين” هي: أن الدين عامل فاعل يحرر الإنسان، فتكون نسبة التحرير إلى الدين نسبة إلى من يقوم بذلك الفعل.
ونلجأ أحيانًا، خوفًا على السياسة من الدين أو من الدين على السياسة، لحل صارم بالفصل بينهما، وذلك بتخصيص أماكن للدين كالمساجد أو الكنائس، يُحرّم فيها تناول المدنيات، وتخصيص أماكن للسياسة كالبرلمان ومؤسسات القضاء، يحرّم فيها الإحالة على الدين. ولكن لهذا الفصل محاذيره، وقد يؤدي إلى الوقوع في فخ شموليةٍ ضد الدين، شمولية يكون إعمالها بأن تراقب عين المفتش ((Inquisiteur كل قول يصدر عن القائمين على الدين، فيُحرَم من كل إحالة على الواقع المدني، بل قد يبلغ الأمر إلى فحص النوايا وإثبات ما لم يثبت بعد، أو تحميل القول ما لا يحتمل. ونجد أن المطالبة بتنقية قول القائم على الدين من المدنيات يتبعه المطالبة بحرمان السياسي من أية إحالة على الدين كذلك، ولو كان استشهادًا بحديث أو آية قرآنية أو بسملة أو حمدلة أو أي سلوك ديني عفوي، لأنه نتيجة تربية طويلة تبدأ من لحظات الطفولة الأولى، حين نطالب القائم على الدين بألّا يشارك مشاركة مدنية، كما لو أننا نطالب من مارتن لوثر كينغ أن يبقى في الكنيسة ولا ينزل إلى الشارع للمطالبة بالحقوق المدنية للسود. وأن نطالب السياسي بأن يخلي قوله من الإحالة على انتمائه الديني، كما كنا نطالب مارتن لوثر كينغ أن يصفي أقواله السياسية من كل استشهاداته من الكتاب المقدس، فنشرع بذلك في إغلاق باب الحرية الدينية. وفي عنوان مقالنا إشارة إلى الدلالة الثانية، وهي في الحقيقة دعوة إلى تحرير الدين، ودفاع عن الحرية الدينية التي هي في بعض تجلياتها جزء لا يتجزأ من حرية التعبير.
لا يخشى من مزج لغة الدين بلغة السياسة أو لغة السياسة بلغة الدين، وهو أمر واقع ويتعذر تفاديه، ولكن يُخشى من المزج غير السليم، ومن التوظيف غير السليم، ومن عدم الوعي باختلاف طبيعة اللغتين. ولذلك، يحتاج الأمر إلى علم خاص لطيفٍ موضوعه، وهو علم المناسبة بين خطاب الدين وخطاب السياسة، وإلى تحويل ذلك العلم إلى عمل فيُتلطف للمناسبة بين الدين والسياسة لتحقيق غايتهما المشتركة. لدينا أمثلة من الواقع عن مزج سليم، بل مزج جعل الخطابين ينسجمان ويحرران، مثال مارتن لوثر كينج، ومثال لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية[1]. ويتحول القائم على الدين إلى محرر، إذا كان خير ممثل للدين الذي يحرر. وليس استلهام مارتن لوثر كينج لروح الدين المسيحي ومشاركته السياسية في الفضاء العام إلا خير دليل على كيفية من الكيفيات التي بها ينجح هذا الانسجام بين اللغتين، فلا خوف إلا من الحرية.
نستحضر اللحظة المناظرة التي كانت بين الفيلسوفين: الألماني يورغن هابرماس والكندي شارلز تايلور[2]. أما الأول، فيرى أن هناك فاصلاً يفصل بين العقل العلماني وبين التفكير الديني، فحينما نكون في الفضاء المدني يصلح العقل حكمًا في القضايا التي نناقشها ولا يصلح الدين الذي لا يقنع بخطابه إلا من يشاركنا في الإيمان به. وإن شرعية العصر الحديث، في نظره، آتية من الخروج إلى هذا الفضاء المحايد الذي يجعل من ينتمون إلى أديان مختلفة يتفقون بعقولهم على ما هو الأصلح لعيشهم. واللغة التي تُستخدم هي لغة الدولة الرسمية، وهي لغة عامة يفهمها الجميع، وهي التي يجب أن تُستخدم في المؤسسات السياسية: التشريعية والتنفيذية والقضائية. ويهمنا رأي الثاني الذي استدرك على هابرماس مبينًا عدم أفضلية استخدام لغة الدولة الرسمية على استخدام لغة الدين، وقد بين صعوبة الفصل بين اللغتين. ويقول عن مارتن لوثر كينغ: “هل كان مواطنو مارتن لوثر كينغ غير المتدينين عاجزين عن فهم ما كان يحتج له حينما كان يمثل للمساوة بعبارات توراتية؟ هل كان مزيد من الناس سيفهم لو استحضر كانط؟ وعلاوة على ذلك، كيف يمكن لأحدنا أن يميز لغة دينية عن لغة دنيوية؟”.[3]
لن يكون الفضاء المدني الحقيقي ما يقصي استعمال اللغات الدينية لفرض لغة واحدة، بل هو الذي يفسح للجميع مجال الاستعمال، ولكن الجميع يتفق على قيم أخلاقية مشتركة ويختلف في الطرق التي يبررها بها. وسنجد أن الفرق بين اللغة الدينية واللغة العلمانية ليس أشد من الفرق ضمن اللغة الفلسفية العلمانية بين كانط الذي يبرر الحق في الحياة والحق في الحرية استنادًا إلى مفهومه للكرامة الإنسانية، وبين النفعي الذي يبرر هذه الحقوق انطلاقًا من حساب الألم واللذة، ساعيًا إلى تصغير الأول وتعظيم الثاني ما أمكن، في حين نجد المسيحي يبرر تلك الحقوق بالقول إن الإنسان خُلق على صورة الله.
هل يمكن أن نجد بذلك لغة يمكن أن يتفق عليها الجميع؟ يبين شارلز تايلور أن تأسيس الحق في الحياة أو في الحرية على أحد الأسس المذكورة سابقًا: أن نكون كائنات تتألم وترغب وتلتذ، أو أن نكون كائنات ذات كرامة، أو أن نكون على صورة الله، ليس أمتن من غيره.[4]
ولكن ما الذي يجعل الخوف قائمًا من الدين على السياسة أو من السياسة على الدين؟ نصل إلى الدلالة الثالثة، وهي دعوة أيضًا لتحرير الدين، ولكن، من التوظيف غير السليم للسياسة، ويناسبه تحرير السياسة أيضًا من توظيفها السيء للدين. وليس المشكل في اللغة الدينية واختلاف طبيعتها عن اللغة السياسية، بل في المستعملين للغتين وفي سوء استعمالهم لهما، استعمال يتولد عنه سوء المزج بينهما فيتضاعف السوء.
فيكون التحرير بذلك دعوة لتحرير القائم على الدين أو القائم على السياسة ليُحسن استخدام اللغتين، فيُحسن المزج بينهما بغرض تأسيس موقف ديني أو سياسي، ولغاية مشتركة بين الدين والسياسة، وهي تحقيق الحرية.
نقلاً عن “مؤمنون بلا حدود”