أنجيل الشاعر
كاتبة سورية
رأى بعض القراء في مقالتي السابقة عن الحرية الفردية “هل نجرؤ على الاختيار الحر؟” نوعاً من رؤية مثالية أو طوباوية، وخاصّة حين يتعلق الأمر بحرّية المرأة، وهي من أهم مقاييس الوعي الاجتماعي وأهم معايير التقدم. فما يزال الجدال مفتوحاً حول أولوية الحريات العامة على الحريات الفردية أم العكس، وهو جدال يتصل بما يُسمّى الخلية الأساسية للمجتمع، هل هي الفرد أم الأسرة، ويتصل في الوقت نفسه بتعريف الأسرة، هل هي الأسرة النووية الحديثة، أو العائلة الممتدة أو العشيرة.
الأسرة النووية الحديثة، بالتحديد، هي اكتمال رجل بامرأة وامرأة برجل، وفقاً لاختيار حر، هو أساس المحبة والوئام، ينتج من هذا الاكتمال (لا من مجرد الشراكة) أسرة حديثة ومجتمع معافى؛ ومن ثمّ، فإنّ الفرد الحر (المرأة والرجل) هو الخلية الأساسية لمجتمع حديث، لذلك تُعدّ الحريات الفردية شرطاً لازماً لتشكل مجتمع مدني حديث، قوامه منظمات ومؤسسات طوعية، (جمعيات ونوادٍ ومنظمات ومؤسسات وشركات ونقابات وأحزاب سياسية)، تتوسط بين الأسرة والدولة. فلا يُعقل ولا يجوز أن يُجبر شخص على الانتساب إلى جمعية أو نادٍ أو نقابة أو حزب.
الحرية الفردية، التي تؤسس المجتمع المدني، هي حرية مدنية، لا حرية طبيعية، كحرية البدوي أو زعيم العشيرة أو رأس الطائفة أو السلطان المستبد، ولذلك هي حرية نسبية دوماً، محدودة بالقانون أولاً وبالقيم الاجتماعية ثانياً، ومقترنة بالمسؤولية في جميع الأحوال. وهي؛ أي الحرية الفردية، مشروطة بحرية الآخر والأخرى، بل هناك من يقول إنّ حرية الآخرين لها الأولوية؛ لأنها الضمانة الموضوعية لحرية الذات. حرية الفرد وحقوق الإنسان هي التي تؤسس الحريات المدنية العامة والحقوق المدنية العامة، وتتقوّى بها.
في المبدأ: الحرية هي ماهية الفرد الإنساني (ذكراً وأنثى) وجوهره، فإذا جُرِّد أو تجرَّد منها، لسبب من الأسباب، تحوّل إلى كائن بيولوجي، كغيره من الكائنات الحية، ولأنّ الإنسان “كائن اجتماعي”، فاعل ومتفاعل، فاعل في المجتمع ومتفاعل معه، ومتفاعل مع ذاته أولاً ومع المجتمع ثانياً، ومع الطبيعة ثالثاً، وهو يعمل ويفكر، يحبّ ويكره، يتسامح ويغضب، يعتدل ويتطرّف، فكلّ تلك الأفعال هي أفعال فردانية، ومظهر من مظاهر الحرية؛ أي الحرية الفردية، لكنها تنعكس على الجماعة (المجتمع) إمّا بالسلب وإمّا بالإيجاب.
إذن فلا وجود للحرية إلّا في نطاق المجتمع. لذلك، تُصنّف المجتمعات من حيث تمتّع أفرادها بحريتهم لصنفين أساسيين: الصنف الأوّل: مجتمعات بطركية/ذكورية لا تعترف باستقلال الفرد وحريته، ولكنها تعوّضه عن الحرية بأمرين اثنين: أولهما هو الاعتراف المشروط بالأهلية (وهذا مقصور على الذكور) والأمر الثاني هو المشاركة في رأس المال الرمزي للجماعة، الذي عرّفه “بيير بورديو” على أنه “المكانة الاجتماعية التي تمنحها الجماعة للفرد نتيجة لما يتمتع به من مزايا”، ويقصد بها المزايا التي تتناسب مع ثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده، وهذا أيضاً مقصور على الذكور في مجتمعاتنا، فلا يجوز للأنثى أن تكون زعيمة قبيلة أو عائلة أو عشيرة إلّا إذا كان زوجها أو والدها يمتلك تلك المكانة الاجتماعية المرموقة.
الصنف الثاني من المجتمعات هي المجتمعات الحديثة التي تعترف بحرية الفرد واستقلاله، وتحترم خصوصيته، وتساوي بين الذكور والإناث، في العمل والقانون والحقوق السياسية والمدنية، وهذا يوصلنا إلى نتيجة مفادها أنّ الحرية مقترنة بالفردية أولاً، ومقترنة بالحداثة ثانياً، ومقترنة بالسلطة والتبعية المتبادلة أيضاً.
في هذا السياق يذهب “إدغار موران” إلى أنّ “الاستقلالية البشرية وإمكانات الحرية لا تنشأ من العدم، بل بوساطة التبعية المسبقة ومن خلالها (الموروث)، والتبعية الخارجية هي التبعية البيئية، والتبعية العليا هي التبعية الثقافية” تنزع كل واحدة من التبعيات المذكورة إلى كبت التبعية الأخرى، من هنا تنشأ النزعة الاستقلالية أو الحرية الفردية، التي بدورها ستفضي إلى الحرية/ الحريات العامة بوساطة العقل البشري المكوِّن لثقافة جديدة مستقلة، وكلما كان العقل غنيّاً ومبتكراً، انخفضت نسبة برمجته حسب الثقافة السائدة أو النظام الاجتماعي أو السياسي السائد، وكلما كان الوعي غنياً أيضاً، كانت الحريات ممكنة أكثر ومتاحة للجميع وفق استراتيجية المواطنة المتساوية، وهذا ما يميّز الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى، إذ كلما انخفض مستوى وعي الإنسان، ارتفعت استجابته للحتميات الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية والاقتصادية، من ثمّ، وازداد منسوب البرمجة والتقليد وصار العقل مقراً للاستعباد.
هل تنتهي حريتنا عندما تبدأ حرية الآخرين؟ من الصعب أن تنتهي حرية أيّ فرد ضمن مناخ ملائم للحرية، ومن الصعب لأيّ فرد حر أن ينهي حريته التي يتمتع بها، أو ينهي حرية غيره، إنما يحترم حرية الآخرين وفق أنظمة وقوانين معيّنة ينصها القانون الوضعي الذي يضمن حريات متساوية وحقوقاً متساوية للجميع؛ فأنا أستطيع أن أسمع الموسيقى من دون أن أزعج الجيران، على سبيل المثال، فأكون قد مارست حريتي، واحترمت حرية الجيران وحقوقهم. فلا تسود مقولة “تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخر” إلّا في المجتمعات التي لا تتمتع بالحرية الفردية، والتي تذوب فيها الفردانية في سديم الجماعة.
تقع مشكلة الحرية الفردية فوق مسألة الاختيار؛ أي بين حرية الاختيار وبين “الحتمية الاجتماعية” والثقافية (ثقافة المجتمعات)، وهي مشكلة الاستحواذ أو التملك، وهي منافية للحريات بشكل عام، لكن مثلما تستحوذ الأنظمة الصارمة على الفرد، يستحوذ الفرد على حريته، ويقاوم من أجلها، فيدخل هنا مفهوم “الاستقلالية التبعية” الذي تحدّث عنه “إدغار موران” فيقرّ هذا المفهوم الحتمية، ويقصي الحتمية المطلقة، كما أنه يقرّ الاستقلالية أو الحرية ويقصي حرية الاختيار المطلقة؛ أي إنّه مقونن ومنظم، فلولا الحكم الكنسي الصارم وتبعية الشعوب الأوروبية لحتميته، لما نالت أوروبا استقلاليتها وحريتها الحالية. فالفرد لا يستطيع أن يكون حراً تماماً إلّا إذا كان قادراً على مجادلة المجتمع، والدفاع عن حريته وحقوقه.
ما تزال الأفكار السائدة والموروثة تسيطر على مجتمعاتنا وتقيد أفرادها وتخرطهم في مصلحتها، فنحن “نرزح تحت رحمة هذه الآلهة، وهذه الوحوش، وهذه العمالقة، ألا وهي أفكارنا؛ وغالباً ما تدوس هذه الأطراف المتنازعة الفظيعة أرواحنا بأقدامها”، حسب تعبير “فيكتور هيجو”.
لسنا في حاجة إلّا إلى الوعي والشجاعة والسمو الأخلاقي، لكي ندرك حريتنا ونحترم حرية الآخرين.
نقلاً عن حفريات