كريتر نت / لندن
مع سقوط آخر جيب من الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم داعش في سوريا على أيدي القوات الكردية هذا الشهر، وفرار الآلاف من السكان، بمن فيهم المقاتلون، من هذا الجيب أو استسلامهم، لا يزال اللغز باقيًا: أين ذهب “الخليفة”؟
قال “جيمس جيفري”، المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا للصحفيين يوم الاثنين: “لا نعرف مكانه”. وردًّا على سؤال حول ما إذا كان العثور عليه يمثل أولوية، أجاب جيفري: “إن العثور على القيادة العليا لداعش أو الجماعات الإرهابية الأخرى يمثل أولوية دائمًا”.
في السنوات الأربع والنصف التي انقضت، ومنذ ظهور “أبو بكر البغدادي” العلني الأول والنادر في الموصل لإعلان الخلافة – وفي الجزء الأخير من هذه الفترة أعلنت الولايات المتحدة مكافأة قدرها 25 مليون دولار لمن يأتي برأسه – استعصى زعيم التنظيم على القنص. وقد تردد أكثر من مرة أنه قُتل أو أصيب بالعجز، وما يلبث أن يظهر في العلن لاحقًا! وفي الصيف الماضي انتشر تسجيل صوتي يعتقد الخبراء أنه له، حثّ فيه أتباعه على شن هجمات بشكل مستقل، ولم يسمع عنه أحد منذ ذلك الحين.
هل إلقاء القبض على البغدادي أمر مهم؟
قال المتحدث باسم التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد داعش قبل عامين: إن البغدادي لم يعد ” ذي أهمية منذ فترة طويلة”، كما أشارت وكالة أسوشيتيدبرس. وخاطبني المتحدث باسم التحالف في رسالة بالبريد الإلكتروني هذا الأسبوع قائلا: “المهم أن نلاحظ أن وجوده أو غيابه داخل داعش لا يؤثر على وضعهم الحالي”.
وقد قضت الولايات المتحدة ما يقرب من عشر سنوات في البحث عن زعيم القاعدة “أسامة بن لادن”، إلى أن قتله فريق من قوات البحرية الأمريكية في ربيع عام 2011، وأعلن الرئيس “باراك أوباما” أن موته يمثّل “أهم إنجاز حتى الآن في الجهود الأمريكية لهزيمة القاعدة”. ومع ذلك، قال: “ليس هناك شك أن التجربة ستستمر في شن هجمات ضدنا”. وهذه التجربة تعلّمنا أن اعتقال “البغدادي” قد يستغرق بعض الوقت، وأن جماعته يمكنها أن تستمر من دونه.
من الناحية التاريخية، ساعدت أربعة عوامل رئيسية في تحديد ما إذا كان التخلص من الزعيم – “قطع رأسه” – يؤدي إلى القضاء على جماعته، كما أوضحت “أودري كورث كرونين”، مؤلفة كتاب “كيف ينتهي الإرهاب”: أن هذه الجماعات “جرت هيكلتها هرميًّا.. لقد تميزت بالشخصية. لقد كانوا في المتوسط أصغر سنًّا من الجماعات الأخرى، كما أنها تفتقر إلى خليفة جيد”. ونجح هذا النهج إلى حدٍّ بعيد، فعلى سبيل المثال، في حالات منظمة “الدرب المضيء” في بيرو، ومنظمة “أوم شينريكيو” في اليابان، و “اللواء الأحمر” الإيطالي، هناك الكثير من الحالات التي انتهت فيها الجماعات بقطع رأس أحد قادتها، ولكن على الأقل في الصورة التاريخية العريضة، يحدث ذلك غالبًا عندما تكون قادرًا على القبض على قائد ثم تقوم بتقويض شرعيته، ولكن هذا أمر شديد الصعوبة عندما يتعلق الأمر بالجماعات الإسلامية؛ لأن مسألة تحديد أين يوضع شخص ما بالضبط في السجن أمر محير للغاية”، بيد أن القاعدة وداعش والجماعات التابعة لها أثبتت أنها أكثر تعقيدًا.
ففي قضية بن لادن، “كان دائمًا مطاردًا ومرصودًا، وكان دائمًا جزءًا من الجهود” ضد القاعدة، كما أخبرتني “ندا باكوس”، المحللة السابقة في وكالة الاستخبارات المركزية والمشاركة في تعقب القاعدة. وأوضحت المستندات التي تم استردادها من مجمعه بعد وفاته، أنه – حتى في حالة الاختباء – استمر في تقديم التوجيه والمشورة للتنظيم. ولكن عندما توفي، تطور التنظيم وانتشر في العديد من الدول، وقد أثبت مرونته بعد هذه الضربة الرمزية.
وهكذا كانت قيادته في العراق بهذه المرونة، ورغم أن “داعش” أعلنت ولاءها لبن لادن في عام 2004 إلا أنها رسمت لنفسها طريقًا مستقلاً، حيث وضعت الأساس لما سيصبح داعش فيما بعد، واستمر تنظيم القاعدة في العراق بعد وفاة زعيمه، أبو مصعب الزرقاوي، في عام 2006، حيث تحول في نهاية المطاف إلى الدولة الإسلامية في العراق وسوريا تحت قيادة البغدادي.
وخلال إدارة أوباما، اتبعت الولايات المتحدة استراتيجية لاستهداف القيادات النافذة في داعش، وفي ذات الوقت طاردت البغدادي نفسه. وفي يناير 2018 قال المحلل العراقي “هشام الهاشمي” خبير مكافحة الإرهاب لصحيفة الجارديان: إن البغدادي كان آخر 43 قائدًا بارزًا لا زالوا صامدين، وأنه يتعين على القادة من جيل الوسط أن يواصلوا تغيير مواقعهم مع استمرار قتل زملائهم.
غير أنه من المحتمل أنّ يكون هذا الجهد حدّ من فاعلية البغدادي كقائد، كما أن البقاء تحت الأرض والهروب بين المنازل الآمنة وتجنب استخدام معدات الاتصالات، يجعل من الصعب عليه إدارة التنظيم وإلهامه. ففي جماعة اشتهرت باستغلالها لوسائل الاتصال الحديثة، قيل إن البغدادي لم يعد يستخدمها خوفًا من الكشف عن مكانه، وقيل إنه فعل ذلك عدة مرات تقريبًا. ومع ذلك، فإن إحدى السمات الرئيسية لتنظيم داعش كانت التزامه بمبدأ “الجهاد بلا قيادة”، والذي يعني في جوهره: التكتيك المتمثل في السماح للتابعين المرتبطين بشكل فضفاض بشن هجمات مستقلة عن بعضهم البعض. كما يمكن للأتباع، أن يشنوا هجمات باسم “البغدادي” دون سماع الكثير مما يمليه عليهم.
ولم يقم “داعش” مطلقًا بأي شيء يقترب من حجم هجمات 11 سبتمبر 2001 التي دبرها بن لادن على الأراضي الأمريكية، فيما أعادت تلك الصدمة تشكيل الطريقة التي تتصرف بها أمريكا في العالم. وعلى الرغم من أن عمليات العنف الخطيرة التي نُفذت في الولايات المتحدة وفي أوروبا، سواءً كانت مستوحاة من داعش أو بتوجيهها، فقد نفّذ التنظيم معظم مذابحه وفظائعه في العراق وسوريا؛ لذا فالأساس المنطقي للانتقام والعدالة والسعي وراء إيجاد البغدادي ومعاقبته على وجه الخصوص ليس قويًّا كما كان بالنسبة لحالة بن لادن.
ولا شك أنه هذا لا يعني أن العثور على البغدادي ليس مجديًا، بل يجب ألا يكون بالضرورة هو الأولوية العليا للمعركة التي تلت سقوط الخلافة. وفي الواقع، أشار المسئولون الأمريكيون إلى أن العثور عليه هو مجرد أحد الأولويات الكثيرة. وكما أشارت باكوس، فإن الجمهور ليس لديه شعور جيد بالدور الذي يلعبه؛ وبالتالي، فإنه ليس لديه أيضًا شعور جيد بما يمكن أن يحدث لداعش بعد وفاته. لكن باكوس عادت وحذرت قائلةً: “هذه المنظمات تتعلم كيف تعمل، وهي ليست دائمًا في قلب الرأي العام … و[البغدادي] لا يزال لديه رؤية واستراتيجية، وهو يحرك ذلك سرًّا. هذه مشكلة كبيرة”.
ويمكن أن يؤدي القبض على البغدادي أو قتله إلى نتائج عكسية على المدى الطويل، على سبيل المثال، إذا تعرّض لقتل انتقامي يبدو غير شرعي لعدد كبير من أتباعه، أو إذا كان موته نفسه يعزز مكانته كشهيد. فالقتل لمجرد الثأر قد يؤدي فقط إلى تحفيز البحث عن الانتقام من الجانب الآخر. وقالت كورث كرونين: “لا أقول إن مجرد إلقاء القبض على القائد سيكون هو الحل.. إنه إلقاء القبض على القائد وضمان سيادة القانون ومؤسسات الحكم الأساسية”.
وبغض النظر، قالت باكوس: “أنت لا تركز فقط على شخص واحد يتمتع بشعبية، والزعيم الرمزي [لجماعة إرهابية]. ومن وجهة نظر البغدادي الآن، فإن السؤال الأكبر هو: من الذي يأمر بإطلاق النار من المنظور العملياتي؟ وإذا كان هو الآمر فهو يستحق الموارد، وإذا لم يكن كذلك، فعليك أن تركز على المكان الذي تحتاج إليه. ويعترف المسئولون الأمريكيون بذلك على الرغم من إعلان نهاية الخلافة، وسياسة سحب معظم القوات الأمريكية من سوريا. وقال “جيمس رولينزون”، الناطق باسم التحالف، في رسالة بالبريد الإلكتروني: إن داعش “ينتقل بنشاط إلى شبكة من الخلايا النائمة من أجل الاستمرار في التطلع إلى الخلافة وتهديد المدنيين في أنحاء المنطقة والعالم.