غسان عبدالخالق
كاتب أردني
رغم أنّ الثقافة العربية القديمة والراهنة تنطوي على فائض من الخيال الشعري المحلّق، ورغم ريادتها على صعيد ابتكار واستدخال أدب الحيوان الذي تمثل (كليلة ودمنة) نموذجه الأعلى، ورغم إسهامها المشهود على صعيد الخيال الفلسفي الذي تمثّل في (آراء المدينة الفاضلة) للفارابي وفي (حي ابن يقظان) لابن طفيل، إلا أنّ هذه الثقافة ما زالت عصيّة على (الخيال العلمي)! وباستثناء بعض المحاولات الساذجة الموجّهة للفتيان والأطفال على نحو تعليمي فج، فإنّ الثقافة التي استفاض شعراؤها ونقادها في تقليب الخيال على وجوهه المختلفة، تفتقر تماماً إلى الخيال المقصود بالطلب، ألا وهو الخيال العلمي.
وحتى تحقق هذه المقالة مطلوبها، فإنّ من الضروري المسارعة إلى القول بأنّ أبرز مواصفات الخيال العلمي تتمثّل في (إمكانية الحدوث)؛ أي أنّ الكاتب المندوب لهذا الضرب من الإبداع، ينبغي أن يكون ضليعاً جداً في الحقل العلمي الذي سيعمل على (تخييله)، إلى الحد الذي يمكنه معه أن يقنعنا بمنطقية المقدّمات أو التمهيدات التي سيوظفها على نحو موضوعي ومنهجي، ليقحمنا بعد ذلك في مغامرة نعرف بأنّها من نسج الخيال، لكنها تتسم بالانسجام والتسلسل والإدهاش؛ فالخيال العلمي إذن، ليس ضرباً من الحكايات الاعتباطية أو الخرافية، رغم أنّه قد يوظف الخرافة أحياناً، لملء بعض الفراغات التي يعجز عن تقديم إجابات مقنعة بخصوصها.
ومن نافل الحديث القول، بأنّ الخيال العلمي، قد مثّل وما يزال يمثّل أحد أبرز روافع التقدّم في الغرب، بل يكاد يكون الجواد الأكثر قدرة على جرّ عربة الإبداع والابتكار. ولا أبالغ إذا قلت إنّ الإنسان لم يهبط على القمر في عام 1969م، بل هو هبط عليه منذ أن أصدر جول فيرن رائعته (من الأرض إلى سطح القمر) في عام 1865م، فأطلق بذلك حالة من التوق الاجتماعي والسياسي والتكنولوجي لتحقيق هذه النبوءة التي سُبقت بالعديد من النبوءات التي تجسّدت على أرض الواقع بعد أن كانت ضرباً من الوهم، وأُعقبت بالعديد من النبوءات التي غدت أمراً واقعاً لا يمكن التشكيك فيه!
وقد ألهبت السينما هذا الخيال العلمي، بما لا يُعدّ ولا يحصى من الأفلام التي عملت على إخراجه من حيّز التذهين إلى حيّز التعيين، فصارت أدواتها وتقنياتها جزءاً لا يتجزّأ من هذا الخيال الباهر من جهة، وأسهمت في ترويجه وجمهرته حتى صار صناعة تدر مليارات الدولارات ويتسابق لمتابعته وتذوقه وتحليله والإفادة من معطياته؛ العالِم ورجل الأعمال والفيلسوف والسياسي والناقد والإعلامي ورجل الشارع من جهة ثانية.
ولعل من المضحك المبكي على هذا الصعيد، حقيقة أن أول محاولة حقيقية للطيران في تاريخ البشرية، قد أقدم عليها الفيلسوف والعالم والشاعر الأندلسي عباس بن فرناس في أواخر القرن الثالث الهجري، ومع أنّ هذه المحاولة لم تكلل بالنجاح، إلا أنها شرعت باب المحاولات التي كلّلت في القرن التاسع عشر بالنجاح.
ورغم أنّ الخيال العلمي ليس من المفردات التي يمكن أن تندرج تحت طائلة الثالوث المحرّم في الوطن العربي (السياسة والدين والجنس)، ورغم أنّ أضلاع هذا المثلث قد تعرّضت لاختراقات لا تخفى على المراقب النبيه، إلا أنّ هناك ما يشبه الإضراب التام عن الخوض في الخيال العلمي، سواء على صعيد الكتابة الإبداعية أم على صعيد الكتابة النقدية أم على صعيد المقاربات الدرامية والسينمائية أم على صعيد المؤتمرات والندوات العلمية!
قد يستدرك عليّ مستدرك فيقول: انطلاقاً مما قدّمتَ به لهذه المقالة، فإن (إمكانية الحدوث) تبدو بعيدة جداً في عالم عربي يمور بالجامعات والمعاهد ومراكز البحث وأساتذة العلوم بأنواعها لكنه يفتقر إلى البيئة العلمية الجاذبة للإبداع والابتكار والاختراع! وقد يستدرك عليّ مستدرك آخر فيقول: وكيف ترجو للخيال العلمي ازدهاراً في عالم عربي ما زال بعض مواطنيه يشكّكون في حقيقة هبوط الإنسان على القمر؟! بل كيف ترجو لهذا الضرب من الخيال أن يزدهر في عالم عربي منقوع بالحروب الأهلية والمواجهات الطائفية والمذهبية والإقليمية؟! بل كيف تجرؤ على التفكير بهذا الترف وسواد الناس في العالم العربي لا يكادون يحصّلون قوت يومهم؟! وقد يستدرك عليّ ثالث فيقول: كأنك نسيت ما يجثم على صدر هذا العالم العربي من أنماط تفكير تقليدية تلوذ بالواقع وتُعليه رغم مضامينها غير الواقعية، وتحارب المجهول لأنها اعتادت معاداة ما تجهل؟ وقد يستدرك عليّ رابع ماكر فيقول: وكأنك تتجاهل عامداً حقيقة أن الخيال العلمي ليس مجرّد حكاية علمية مختلقة، بل هو مزيج من التوق إلى الاكتشاف المعرفي وإطلاق العنان للتساؤل الوجودي ومحاكمة العديد من المعايير الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة؟!
ورغم إقراري التام بوجاهة هذه الاستدراكات التي اجتهدت في إيرادها على ألسنة قرّاء ضمنيين، إلا أنني ما زلت مقتنعاً بأنّها – منفردة ومجتمعة- لا تفسّر هذا الجفاء الغريب للخيال العلمي، ولأن هذه الاستدراكات أيضاً – منفردة ومجتمعة- قد تظاهرت سابقاً في مجتمعات الغرب المتقدم، وعلى نحو أقسى بكثير من تظاهراتها في مجتمعاتنا العربية، ومع ذلك، فقد حلّق الخيال العلمي في تلك المجتمعات الغربية، برّاً وبحراً وجوّاً، فيما ظلت أجواؤنا نهباً للجراد فقط!
نقلاً عن حفريات