الحبيب الأسود
لا يمكن الحديث عن استقبال رمضان دون التوقف عند ظاهرة الفوانيس التي ترتبط به، والتي انطلقت من مصر وانتشرت في دول الجوار كالسعودية وليبيا والسودان، وعمّت فلسطين، وخاصة قطاع غزة الذي يستقبل شهر الصيام لهذا العام في ظروف استثنائية.
ويقول بعض المؤرخين إن ظاهرة الفوانيس وجدت في مصر منذ عهد إيزيس التي ذكرت لأول مرة في المملكة المصرية القديمة (2686 – 2181 ق.م) كإحدى الشخصيات الرئيسة في أسطورة أوزوريس، حيث كان المصريون القدامى يعمدون إلى إضاءة الفوانيس داخل منازلهم وخارجها، وأينما ذهبوا، وهو ما استمر لاحقا في العصر القبطي، عندما كانوا يستعملونها لاستقبال أعياد الميلاد وعيد الغطاس، إلى أن تحولت إلى جزء من العادات والتقاليد الشعبية في الاحتفالات الكبرى.
ويروى أن المعز لدين الله الفاطمي حين دخل مدينة القاهرة ليلا قادما من تونس في الخامس من رمضان عام 358 هجرية، خرج لاستقباله المصريون في موكب كبير شارك فيه الرجال والنساء والأطفال على أطراف الصحراء وهم يحملون المشاعل والفوانيس الملونة والمزينة لإضاءة الطريق له، وقد أعجبته تلك المشهدية الرائعة فاتخذها جزءا من بروتوكول نشاطه الليلي وخاصة في شهر رمضان، وهو ما أدى إلى ازدهار صناعة الفوانيس بشكل كبير.
ومما تذكره كتب التاريخ أن حفيده الحاكم الفاطمي السادس، والإمام الإسماعيلي السادس عشر المنصور بن العزيز بالله المعروف باسم الحاكم بأمر الله، والذي حكم من 996 إلى 1021 م، أصدر أوامر صارمة بتركيب فوانيس في كل زقاق وأمام كل منزل، وتغريم كل من يعصي الأمر، كما حرم النساء من مغادرة بيوتهن طوال العام باستثناء شهر رمضان حيث سمح لهن بارتياد المساجد ليلا، وكانت كل جماعة من النساء تسير نحو المسجد وقد تقدمها غلام يحمل فانوسا كإشارة لضرورة فسح الطريق لهن.
وقد تحدث المقريزي (1364 – 1442 م) عن ظاهرة الفوانيس في مصر، في كتابه “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”، فأعادها إلى جذورها القبطية والمصرية القديمة، وقال “وأدركنا الميلاد بالقاهرة ومصر وسائر إقليم مصر موسما جليلا، يباع فيه من الشموع المزهرة بالأصباغ المليحة والتماثيل البديعة بأموال لا تنحصر، فلا يبقى أحد من الناس أعلاهم وأدناهم حتى يشتري من ذلك لأولاده وأهله”.
كما ذكر المقريزي أنه شاهد متسولين “في الطرقات أيام هذه المواسم، وهم يسألون الله أن يتصدق عليهم بفانوس، فيشتري لهم من صغار الفوانيس ما يبلغ ثمنه الدرهم وما حوله”، وربط بين تلك الظاهرة وتراجع الوضع الاقتصادي للبلاد في زمن الأيوبيين، فأشار إلى أنه “لما اختلت أمور مصر، كان من جملة ما بطل من عوائد الترف عمل الفوانيس في الميلاد إلا قليلا”.
ولعل من أشهر الأغاني التي تتحدث عن الظاهرة، أغنية الفنان الراحل محمد فوزي مع الأطفال “هاتوا الفوانيس يا ولاد.. هاتوا الفوانيس.. هنزف عريس يا ولاد.. هنزف عريس.. هيكون فرحوا تلاتين ليله هنغني ونعمل هلّيله وهنشبع من حلوياته”، وكل عام والجميع بخير.
نقلاً عن “العرب” اللندنية