هادي يحمد
كاتب تونسي
في ذهنية كلّ جهادي تقع عملية شحن عقائدي متدرجة وكثيفة، تفسّر لنا كلّ هذا الإقبال على الموت، لا يمكن أن نفهم عملية “الانتحار” التي هي في عُرفهم “شهادة”، عبر ركوب السيارات المفخخة، أو ارتداء الأحزمة الناسفة، أو غيرها من ضروب الانتحار، من أجل عقيدة “الجماعة”، إلا بالبحث عن الأصول المولّدة للعنف ذاتها وحوافزها.
هذه المقالة تكشف ما أسميه “الأساطير المؤسسة للسرديّة الجهادية”.
السؤال الأساسي الذي تدور حوله المقالة: هو البحث عن المحفزات الأساسية للفعل الجهادي، الذي هو فعل يتراكم زمنياً ومضمونياً عن طريق مجموعة أوهام أو أساطير، تتحول في ذهنية الجهادي إلى حقائق مطلقة، ومنها نفهم كلّ هذا الإقبال على الموت، وكلّ هذا البحث الغريب عن “الشهادة”.
الأمر لا يتعلق بمجرد وُعود أُخروية بجنّة “عرضها السموات والأرض”، وبـ “حور عين”، فقط على أهمية الوعد الأخروي، ولكنّها ترتبط بتأثيث سياقي تعبوي لذهنية الجهادي وإقناعه بأن يُقاتل، أو أن يُفجّر نفسه من أجل “نصرة الأمة” و”غلبة الإسلام” على ما دونه.
سأحاول التطرق إلى الموضوع من خلال خُلاصات دراساتي العديدة، وكتابيَّ حول الظاهرة الجهادية: الأول كان تحت عنوان “تحت راية العقاب: سلفيون جهاديون تونسيون”، الذي صدر عام 2015، والثاني كان تحت عنوان “كنتُ في الرقّة: هارب من الدولة الإسلامية” الذي صدر عام 2017.
كلا الكتابين يتبعان مسارات وقصص الجهاديين، من خلال هذه المسارات سنحاول البحث عن تشكّل هذه الأوهام والأساطير، التي تحوّلت إلى يقينيات، والتي أسّست للسرديّة الجهادية.
طبعاً يحتاج استعمال مصطلح “الجهادية” في التعاطي مع الظاهرة إلى تبريرات وحُجج تفسّر سبب الاعتماد عليه دون غيره من المصطلحات التي تُوَصّفُ الظاهرة. الأمر في نظري يتطلب نقاشاً طويلاً، ربما ليس هنا مجاله، ولكن يستلزم تحديدات لا بدّ منها.
إشكالية المصطلح
بداية؛ من المهم القول إنّنا أمام ظاهرة معقدة ومركبة، وهو ما أدّى إلى اختلاف اصطلاحي حقيقي، حول إطلاق مصطلح يكون جامعاً وشاملاً لها؛ نحن أمام تعدّد اصطلاحي في تسمية الظاهرة؛ فنحن نسميها إرهاباً، والأكيد أنّها كذلك، ونحن نسمّيها أصولية، وهي بالتأكيد كذلك، مع إقرارنا بأنّ ليس كلّ الأصوليات مُؤدية الى العنف؛ فهناك جماعات أصولية كثيرة في العالم، دينية وعرقية، لا تستعمل العنف.
من المهم التحديد أنّه عندما يتعلق الأمر بمفهوم العنف؛ فإنّنا نعني هنا العنف المادي المسلح دون غيره؛ لأنّ مفهوم العنف بحدّ ذاته واسع ويحتمل تأويلات عدّة، فهناك العنف المعنوي، كما هناك العنف اللفظي والعنف الرمزي، وغيرهما من أشكال العنف.
فضلاً عن تسميات الإرهاب، الأصولية، هناك من يطلق على الظاهرة التطرف العنيف، وهي التسمية التي أصبحت تُطلق على الظاهرة من قبل المنظمات الدولية؛ كالأمم المتحدة، ومنظمة اليونسكو، وغيرهما من منظمات المجتمع المدني.
كما يطلق على الظاهرة أيضاً مصطلح راديكالية، ويطلق عليها تاريخياً أيضاً، اختصاراً، الإسلامية “islamisme”، وفاعلوها “les islamistes”.
لكلّ هذه الاصطلاحات سياقاتها ومنازل استعمالاتها؛ ففي الإعلام نجنحُ إلى استعمال مصطلح الإرهاب كمصطلح يُعبّر عن الظاهرة، تُشرّع المعاني السلبية لهذا المصطلح للانخراط في “الحرب” على الظاهرة، باعتبارها تُهدّد الدولة والسلم الاجتماعي معاً.
رغم أنّنا نتحدث في هذه المقالة على الإرهاب بشكل مخصوص، وهو إرهاب الجماعات الإسلامية، فإنّه من المهم القول إنّ مصطلح الإرهاب، وعلى الأقل نظرياً لا يرتبط بدين معين، فبعض الجماعات الدينية الأخرى من غير الإسلامية، استعملت العنف في مراحل دينية سابقة ولاحقة من التاريخ، كما أنّ هناك دولاً، ولمصالحها الاقتصادية والسياسية، تستعمل واستعملت الإرهاب، وهو الذي دُرج على استعماله من قبل الباحثين والمفكرين “بإرهاب الدول”.
من بين هذه المصطلحات المُتعدّدة للظاهرة نفسها، والتي يمكن أن نحدّدها هنا، وهي استعمال العنف من قبل الجماعات الإسلامية المتطرفة.
أميل لاستعمال مصطلح “الجهادية” أو التنظيمات الجهادية في تُوصيف هذه الجماعات، وذلك لعدّة أسباب، من بينها: أنّ “المصطلح أقرب للتوصيف الواقعي فنحن أمام تنظيمات تتخذ من مقولة “الجهاد” عنواناً رئيساً لأعمالها العنيفة؛ بل إنّ مقولة الجهاد هي مقولة رئيسة ومركزية في أدبيات هذه الجماعات.
تاريخ الجماعات الإسلامية هو تاريخ مستمرّ لاستعمال هذا المصطلح، يمكن أن نُعدّد تاريخ منظمات عديدة استعانت بالمصطلح كعنوان رئيس في تسمياتها من قبيل “قاعدة الجهاد” التي أسّسها أسامة بن لادن، عام 1988، وتنظيم “التوحيد والجهاد” الذي أسّسه أبو مصعب الزرقاوي، عام 2003، ثمّ حوّله فيما بعد إلى تنظيم “قاعدة الجهاد ببلاد الرافدين”.
تحوّل مصطلح الجهاد عبر الزمن لعنوان جامع لتسميات العشرات من التنظيمات الجهادية الأخرى في العالم.
لا يتعلق الأمر بتسميات المنظمات والجماعات فقط؛ بل في أنّه يمثل المفهوم المركزي الذي يتخذه مُنظرو هذه الجماعات في أعمالهم وكتاباتهم، من قبيل أبي محمد المقدسي، عبر كتاباته المتعددة، ومنبره “التوحيد والجهاد”، مروراً بأبي مصعب السوري، وأبي قتادة الفلسطيني، وكتابه “الجهاد والاجتهاد”، وانتهاءً بمنظري تنظيم الدولة الإسلامية، أو داعش، من قبيل: أبي بكر ناجي، وتركي البنعلي، وغيرهما.
طبعاً هناك تحفّظ من قبل البعض على إضفاء الشرعية على أفعال هذه المنظمات في حالة استعمال مصطلح الجهاد أو الجهادية، الأمر نفسه ينطبق على استعمال مصطلحات من قبيل “الدولة الإسلامية” مثلاً، أو “الحركات الإسلامية” التي تطلقها هذه الجماعات على نفسها، وهي اعتراضات -في نظري- عاطفية أكثر منها تستند إلى فهم لجوهر الظاهرة وطبيعتها.
يطول الحديث في الحقيقة حول إشكالية المصطلح على أهميتها، وسأكتفي بأنّ العديد من المختصين في مراكز الأبحاث في أوروبا والولايات المتحدة، تستعمل مصطلح الجهادية كمصطلح تعدّه الأقرب إلى العلمية في التعبير عن الظاهرة.
في المنهج والتبريرات المُخاتلة
أهمية التدقيق في المسألة الاصطلاحية تتنزل في إطار الفهم الأكثر علمية للظاهرة، بعيداً عن التفسيرات والتبريرات العاطفية، وفي هذا السياق؛ يجنح العديد من الباحثين من ذوي النزعة التبريرية الاعتذارية، وأحياناً من خلفيات سياسية، إلى القول: إنّ الأمر لا علاقة له “بالجهاد” كمصطلح ثقافي وحضاري، بالتالي؛ يَرُدُّون أصول العنف الجهادي إلى أسباب اقتصادية، من قبيل الفقر، أو اجتماعية؛ من قبيل التهميش والحُقْرة، أو سياسية؛ من قبيل القمع.
في هذا الباب بالذات تتنزل أهمية هذا المبحث، أي “السرديّة الجهادية”، وأصولها، والبحث عن حوافزها؛ هل يتعلق الأمر بمجرد دوافع اقتصادية واجتماعية وسياسة على أهميتها، أم أنّ الأمر يتعلق بأسباب أخرى أكثر عمقاً؟
في مبحث النظر في الأصول المولّدة للعنف الجهادي هناك تفسيرات متعدّدة تخضع لفهم جزئي للظاهرة أحياناً، ولمنطق إيجاد المُبرّرات السياسية لها أحياناً أخرى؛ نحن هنا أمام مدارس متعدّدة لتفسير الظاهرة بقيت نتائجها محدودة وجزئيّة في فهمها، بالتالي لم تستطع الحدّ من انتشارها وتواصلها عبر الزمن.
لا تزعم هذه المقالة تقديم فهم مكتمل للظاهرة، ولا إيجاد الترياق المناسب لوقف انتشارها، ولكنّها محاولة لفهم أكثر عمقاً للآليات الداخلية التي تحركها.
في هذا المبحث بالذات؛ أعتقد أنّ هناك قاعدة تحليلية في موضوع الجهادية لا يمكن التغافل عنها، أو التقليل منها لفهمها، هذه القاعدة التحليلية نصّها: أنّه: لا يمكن فهم الظاهرة الجهادية إلا في شموليتها؛ أي أنّنا لا يمكن أن نفهم الظاهرة الجهادية دون الأخذ بعين الاعتبار بكافة أشكالها وتمظهراتها في العديد من البلدان، فالاقتصار على تمظهراتها في بلد واحد، كتونس مثلاً، أو مصر، أو السعودية، أو غيرها من البلدان، يُوقع في الخطأ وعدم الإدراك الحقيقي لطبيعتها.
فالذين يستندون على التفسير الاجتماعي – الاقتصادي؛ أي الفقر والتهميش، كسبب رئيسي لولادة وانتشار الظاهرة في تونس على سبيل المثال، سيجدون أنّ المثال السعودي أو الجزراوي، أي الجهاديين القادمين من الجزيرة العربية، يُقلّل من أهمية تحليلهم وفهمم للظاهرة، وربما ينسف كلّ الحُجج التي تقول إنّ الفقر والتهميش كعوامل اقتصادية واجتماعية هي السبب في انتشارها.
فالجزراوية؛ الذين انضمّوا بالآلاف للتنظيمات المتطرفة، يتمتعون في غالبيتهم بمكانة اقتصادية واجتماعية متميزة في بلدانهم، ولم يكن التهميش أو الفقر دافعاً لانضمامهم لهذه الجماعات.
فضلاً عن التفسير الاقتصادي – الاجتماعي؛ هناك تفسير سياسي- ديني، يقول إنّ القمع السياسي والتضييق الديني يؤديان إلى تفريخ التنظيمات المتطرفة وإقبال الشباب على هذه الجماعات، وانضمامهم إليها.
ينسف مثال الجهاديين القادمين من أوروبا وأمريكا، والدول الغربية عموماً، هذا التفسير؛ فالآلاف من الأوروبيين الذين انضموا إلى تنظيم داعش أو القاعدة من قبل جاؤوا من بلدان تتمتع بحريّات دينية واسعة، وديمقراطيات عريقة، بالتالي؛ فإنّ القول إنّ القمع السياسي والديني مصدر أساسي لولادة الظاهرة له محدوديته؛ بل لا معنى له في هذه الحالة.
إذا طُبّق تفسير القمع السياسي والديني كسبب لنشوء الظاهرة أو نموها، في بلدان من قبيل فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا؛ فإننا نعجز عن فهم كيفية انضمام شباب هذه الدول بالآلاف لتنظيم داعش، على سبيل المثال.
عملية المقارنة بين تمظهرات الظاهرة في العديد من البلدان وحدها قادرة على كشف المحركات الداخلية للظاهرة، الأمر يتعلق بالبحث عمّا يمكن أن نسمّيه العامل المشترك الجامع، أو البصمة المكرّرة بين جميع الجماعات الجهادية بصرف النظر عن اختلافات سياقاتها وتاريخها وبيئاتها.
مسارات الجهاديين واختلاف انتماءاتهم، الاجتماعية والجغرافية واللّسانية والإثنية، تمكّننا من نتيجة لا يرقى إليها أيّ شكّ؛ هي أنّ العامل الثقافي – العقائدي يُعدّ أكثر العوامل شمولية في تفسير الظاهرة، هذا العامل نجده في كلّ أمثلة التنظيمات الجهادية، مهما تفرقت جغرافياتها، واختلفت أصولها الإثنية أو اللغوية.
نحن هنا أولاً أمام تفسير ثقافي – عقائدي، مبني على شحن عقائدي مستمدّ من قراءة مهيمنة للنصوص الدينية، وثانياً: أمام تفسير ثقافي- عقائدي ينبني على استغلال السياق السياسي والاجتماعي والتاريخي، الذي أنتج الحركات الإسلامية بشكل عام، والحركات الجهادية بشكل خاص.
في هذا الإطار؛ من المهم القول إنّ الحجج التحفيزية والتجيشية ذاتها التي استعملتها حركة الإسلام السياسي، ممثلة في تنظيم الإخوان المسلمين، والتي تخلّت عنها في بلدان عدّة لظروف مختلفة، تستعملها الحركات الجهادية اليوم.
نحن هنا أمام قضية الأصول الأولى، أمام الحاضنة الفكرية والأيديولوجية نفسها.
في تاريخ حركات الإسلام السياسي؛ تبدو كتابات سيد قطب النصوص التي تعود إليها كلّ الحركات الإسلامية، إخوانية كانت أو سلفية جهادية، على اعتبارها “الأصل المشترك”.
ليس من مهمة هذه المقالة البحث في جديّة حركات الإسلام السياسي، ممثلة في تفرعات الإخوان المسلمين في العالم، في تبني قيم الديمقراطية والمزاوجة بينها وبين الإسلام، وليس من مهامها إثبات أو التشكيك في سلمية الحركات الإسلامية التي تُدرج نفسها في “اللعبة الديمقراطية”؛ فهذا مبحث آخر يطول الحديث فيه.
من المؤكَّد أنّ المقولات المحركة للحركات الجهادية، اليوم، هي المقولات ذاتها التي أنتجها وكرّسها الإسلام السياسي في بداياته، يكفي أن نشير إلى أنّ شعارات “الإسلام هو الحلّ”، أو “الإسلام دين ودولة”؛ هي شعارات إخوانية؛ هذه الشعارات هي، وبامتياز، في قلب المشروع الجهادي اليوم.
ربّما تخلت بعض الأحزاب الإخوانية، لأسباب عدّة، على هذا الشعارات في العديد من البلدان، ولكنّها ما تزال تمثل القلب النابض لكلّ المشروع الشعبوي والتعبوي الإخواني، الأمر ينطبق على مطلب “الدولة الإسلامية”؛ الذي هو مطلب إخواني بامتياز، يكفي هنا الرجوع إلى أدبيات حسن البنا وسيد قطب، وكل مُنظّري حركات الإسلام السياسي؛ لفهم مركزيّة هذا المطلب في أدبياتهم.
هذا المطلب هو اليوم جوهر ومُرتجى وحلم التنظيمات الجهادية، وقد رأينا آثاره في إعلان أبي بكر البغدادي تأسيس هذه الدولة قبل أن تنهار بعد حوالي خمسة أعوام من إنشائها.
في الأساطير المؤسسة
شكّلت شعارات مثل “الإسلام هو الحل” و”الإسلام دين ودولة”، وشعارات أخرى، المحتوى المضموني للتفسير الثقافي – العقائدي للظاهرة الجهادية؛ هذا التفسير بُني في رأيي على أربع أساطير مؤسِّسة، شكّلت على الدوام العوامل المحفزة لعملية الشحن العقائدي والتعبئة التي تأسس عليها مشروع الإسلام السياسي، والتي تمثّل العمود الفقريّ لكلّ عملية التجييش الجهادي اليوم، هذه الأساطير تباعاً هي:
١– أسطورة المَظْلُوميّة
نحن أمام حافز مُؤسّس للظاهرة الجهادية خاصة، والإسلام السياسي عامة، في تنظيرات قادة الحركات الجهادية؛ إنّ العالم العربي والإسلامي يعيش مَظلمة مستمرة، هي مظلومية في الماضي والحاضر والمستقبل.
إذا بحثنا في الجذور التاريخية لمقولة المَظْلُوميّة؛ فإنّنا ربما نعود إلى هزيمة الأندلس والحروب الصليبية، أو ربّما نعود إلى ما قبلها؛ أي إلى هزائم وغزوات واجتياحات أخرى عاشها العالم الإسلامي.
المظلومية تشكّلت تاريخياً، واستفاد منها الإسلام السياسي، كما استفادت منها العديد من الحركات السياسية الأخرى، ولكنّها بلغت عند أصحاب الطرح الجهادي ذروتها، يطول تعداد المظلوميات، ولكنّنا سنقتصر في تحليلنا على مظلوميات تاريخ الحركة الجهادية المعاصرة.
في هذا السياق؛ سوف نعثر على خمس مظلوميات أساسية، كانت حافزاً لهجرة الآلاف من الشباب المسلم، للقتال إلى جانب التنظيمات الجهادية:
أ– مظلومية القضية الفلسطينية: شكّلت على الدوام منبعاً لكلّ التجييش السياسي، بَنت عليها الحركات اليسارية القومية شرعيتها في الستينيات والسبعينيات، ليقع افتكاك هذه المظلومية بصفة حصرية اليوم، من قبل حركات الإسلام السياسي في المنطقة (حماس، الجهاد الإسلامي، حزب الله).
ب– مظلومية الغزو السوفييتي لأفغانستان (1979)، وبداية هجرة الشباب العربي للقتال هناك، كانت الحرب الأفغانية حافزاً مضافاً للمظلومية الفلسطينية، ونشأ مع هذه المظلومية الجيل الأول من الجهاديين: الأفغان العرب، جيل خاص، كانت أولى معاركه في الجزائر إبان العشرية السوداء.
ج- الاحتلال الأمريكي للعراق: بعد عقدين تقريباً من المظلومية الأفغانية؛ تأسست مظلومية جديدة، هي المظلومية العراقية، ونشأ معها الجيل الثاني من الجهاديين.
د– المظلومية السورية: مع انطلاق “الثورة السورية”، بلغت التنظيمات الجهادية فورتها التاريخية، وهاجر الشباب بالآلاف إلى “أرض الشام” للجهاد، ونشأ فيها الجيل الثالث من الجهاديين.
ه – مظلومية الاستعمار: فضلاً عن هذه المظلوميات الأربع التي ذكرتها سابقاً، تتغذى الجهادية من مظلوميات أخرى عديدة، غير أنّ مظلومية الاستعمار القديم والجديد، تشكّل أبرز المظلوميات التي تستعملها الحركات الجهادية للتعبئة والتجنيد عن طريق استعمال قضية نهب استغلال الثروات الوطنية كمحفز وعامل لكراهية “الآخر”.
من المهم التنويه في سياق الحديث عن القضايا الآنفة الذكر؛ إلى أنّنا لا نتحدث عن “عدالة” هذه القضايا، أو شرعيتها السياسية أو الإنسانية، بقدر ما نتحدث عن توظيفها في عملية التعبئة والتجييش الجهادي.
وقد تتخذ المظلومية أشكالاً أخرى محلية لا ترتبط بالضرورة بالعدو الخارجي؛ بل بالعدو الداخلي (الحُكام والسلطات)، من قبيل منع السلطات والحكّام من “تطبيق شرع الله”، أو “الزجّ بالشباب المسلم في السجون”؛ بسبب تديّنه، وهي مظلومية كثيراً ما استعملتها حركات الإسلام السياسي عامة، والحركة الجهادية خاصة، في تونس ومصر، على سبيل المثال.
٢– أسطورة الخلاص الإسلامي
محور هذه الأسطورة؛ مقولة “الإسلام هو الحلّ”، صحيح أنّ هذا الشعار هو شعار إخواني بالأساس، وبه استقطبت الحركات الإخوانية، وعلى امتداد أكثر من نصف قرن، أتباعها، وعبّأتهم، وحرّضتهم، غير أنّ هذا الشعار اتّخذ صبغته القصوى ونسخته النقيّة مع الحركات الجهادية.
محتوى هذه الفكرة؛ أنّه “لا يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح أولها”، كما يقول الحديث، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بتحكيم الإسلام شريعة ومنهج حياة؛ عن طريق اعتماد “الحاكمية” على مصطلح المُنظر الإسلامي الهندي “أبي الأعلى المودودي”.
تعد الحركات الجهادية بأنّ “خلاص البشرية”، وفق عبارة سيد قطب، وهنا نعود إلى ما عدّه المنظّر الأول، أو المُعلم للحركات الجهادية العربية في العالم، لا يأتي إلا بتحكيم الإسلام، إذا تخلّت الحركات الإخوانية في بعض الأقطار، وربّما مرحلياً، عن هذا الشعار؛ فإنّه تحوّل في منهج الحركات الجهادية إلى أحد الحوافز الأساسية للتجنيد.
فكرة الخلاص فكرة مركزية في الأدبيات الإسلامية، وهي لا تتعلق فقط بإعطاء أمل للحركة الإسلامية و”للأمة الإسلامية”، للنهوض والتقدم؛ أنّها أكثر من ذلك هي خلاص للعالم أجمع، هذه الفكرة نجدها منذ الأسطر الأولى لمقدمة “معالم في الطريق”؛ حيث يقول سيد قطب: “تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية، لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها، فهذا عرض للمرض، وليس المرض، ولكن بسبب إفلاسها في عالم القيم”، وينتهي قطب إلى تقديم الترياق: “والإسلام (وحده)؛ هو الذي يملك تلك القيم وهذا المنهج” (ص 3 و4، مقدمة “معالم في الطريق”، مكتبة الشروق، الطبعة السادسة، 1989).
خَلاص العالم في السردية الجهادية لن يأتي إلا عن طريق حلّ وحيد؛ هو “تطبيق الإسلام”، غير أنّ تطبيق هذه المقولة واعتمادها لا يتم إلا بمقولة أخرى، لا تقل عنها خطورة، وهي أسطورة الفرقة الناجية.
٣- أسطورة الفرقة الناجية
عندما يَقتنع الشاب الجهادي بأنّ أمّته مظلومة ومهدَّدة، وأنّ لا سبيل لإزاحة الظلم عنها إلا بتحكيم الشريعة، وبالتالي الاقتناع الكامل بأسطورة “الخلاص الإسلامي” كحلّ، تقوم التعبئة العقائدية بإقناعه بفكرة جوهرية أخرى؛ هي أنّ هذا الخلاص الإسلامي لا يمكن تحقيقه إلا بصفوة الصفوة من المسلمين، أو الطلائعيين الحاملين للمشروع الإسلامي، وهذا لا يتأتى إلا بغرس فكرة أساسية، وأسطورة لا تقل أهمية عن الأسطورتين الآنفتين، وهي أسطورة “الفرقة الناجية”؛ التي تحمل رسالة الإسلام وتوصلها ليس فقط للمسلمين، في نقاوتها وطهارتها، ولكن للعالم بأكمله!
ربّما يطول الحديث في البحث عن جذور فكرة “الفرقة الناجية”، لكنّها فكرة مُتأصلة في المخيال الإسلامي، قديماً وحديثاً، فيشعر “الإخواني” بأنّه انضمّ فعلياً إلى “الفرقة الناجية” عندما تقع تزكيته وينضمّ إلى “نظام الأسرة” الذي حدّد هرميته تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، كما يشعر الجهادي بأنّه انضمّ فعلياً إلى “الفرقة الناجية”؛ عندما يتمّ ضمّه إلى “جلسة سرية” تضمّ الإخوة المُقتنعين “بالمنهج” الجهادي.
طبعاً فكرة “الفرقة الناجية” نجدها في تيارات إسلامية أخرى، من قبيل الجماعات الصوفية وجماعة الدعوة والتبليغ، وغيرها من الجماعات، ولكن هَمّنا هو البحث في هذه المقولة كمحرك أساسي لفعل التكفير والقتل، الذي هو سمة التيارات الجهادية.
على هذه المقولة “الفرقة الناجية”، وما يستتبعها من فقه “نواقض الإسلام” تنصّب التيارات الجهادية نفسها كممثل وحيد لله، وبالتالي شرعية القتل باسمه.
طبعاً تُبنى مقولة “الفرقة الناجية” على الحديث النبوي المشهور، الذي يقول: “ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وهذه الملّة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة” (حديث رواه أبو داود والحاكم، وصحّحه ابن تيمية في مجموع الفتاوى والشاطبي في الاعتصام).
طبعاً يختلف الفقهاء في رواية الحديث، وألفاظه تزيد وتنقص، وصحته وضعفه كذلك، وهذا مبحث آخر، لكنّ الأهمّ أنّه كان نصّاً أساسياً في عملية شَرْعَنة الإقصاء والتكفير التي تعتمدها الجماعات الجهادية.
الاعتماد على هذه المقولة أدّى إلى عملية تكفير لا نهاية لها بين الجماعات الجهادية طوال الخمسين عاماً الأخيرة؛ فقد كفّرت الجماعة الإسلامية المسلحة، في التسعينيات، مقاتلي الجيش الإسلامي للإنقاذ في الجزائر، وانتهى الجهاز الأمني لتنظيم الدولة الإسلامية إلى تكفير وتصفية أعضاء جماعة “الحازمية”، أتباع أحمد ابن عمر الحازمي، في فترة ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام.
طبعاً لن نتحدث في هذا السياق عن أثر مقولة “الفرقة الناجية” في تكفير الجماعات الجهادية في أحيان كثيرة لعموم المسلمين، وبشكل مستمر للحُكَّام، وتكفير الجماعات والطوائف الإسلامية الأخرى؛ فهذا الأمر لا يحتاج إلى أدلة أو براهين كثيرة.
مقولة “الفرقة الناجية”، واقتناع الجهادي بها تؤدي به آليّاً إلى “الخروج” والانعزال، وربما كانت جماعة “التكفير والهجرة”، التي نشأت في مصر، في أواسط الستينيات، مثالاً جيداً للانعزالية والخروج على المجتمع، التي تأسّست على شعور أعضاء الجماعة بأنّهم يمثلون “الفرقة الناجية” المنصورة، التي وكّلها الله بتنفيذ تعاليمه وتحقيق مُراده في الأرض.
أسطورة اعتقاد الجهادي الراسخ بأنّه ينتمي إلى “الفرقة الناجية” تُعدّ مرحلة متقدمة جداً من التعبئة الجهادية؛ فعندما يصل الشاب إلى هذا الاعتقاد، فإنّه يكون قد اندمج فعلياً في “الجماعة” المنصورة في ذهنيته، وقطع بشكل كامل مع “المجتمع الجاهلي”، الذي كان ينتمي إليه، هذه المرحلة المُتقدمة في ذهنية الجهادي تتراكم مع سيطرة مقولة أخرى، أو أسطورة أخرى، لا تقل عنها أهمية، وهي مقولة انتصار “الإسلام ونهاية العالم”.
٤- أسطورة انتصار الإسلام ونهاية العالم
عندما يصل الجهادي إلى مرحلة انتمائه إلى الفرقة الناجية، يُعبَّأ عقائدياً بمقولة “انتصار الإسلام وسيادته على العالم”، الأمر يتعلق بحتمية إلهية في ذهنية كلّ جهادي، النصر هنا هو وعد الله، ولا يخلف الله وعده، والتاريخ الإيماني يقول للجهادي: إنّ العالم لا يمكن أن ينتهي إلا بانتصار المسلمين وسيادتهم على البشرية، وإنّه سيكون جندياً في هذا الانتصار الكبير، وستذهب أشلاؤه قرباناً لهذا الوعد. بُنيت أسطورة انتصار الإسلام ونهاية العالم في الذهنية الجهادية على العديد من التفسيرات للآيات القرآنية، والكثير من الأحاديث النبوية، من قبيل الحديث الشهير الذي يقول: “لا تقوم الساعة حتّى ينزل الروم بالأعماق، أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض…”.
من المعلوم أنّ تنظيم الدولة داعش وظّف هذا الحديث توظيفاً منقطع النظير، واستغل وجود قرية دابق في سوريا، التي سيطر عليها في مرحلة معينة، للترويج لمعركة انتصار الإسلام ونهاية العالم، واستقدام حوالي 27 ألفاً من المقاتلين الأجانب للمشاركة في معركة نهاية العالم التي لم تَتمْ! كما اتّخذ تنظيم داعش من تسمية “دابق” عنواناً لمجلته الإعلامية، كما اتّخذ من تسمية “أعماق” شعاراً لوكالته الإخبارية التي كانت تنقل نشاطات ومعارك التنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي.
تحفل الأدبيات الجهادية بكلّ المؤيدات النصّية التي تنبئ بأسطورة انتصار الإسلام في نهاية العالم، ويجد الجهاديون في علامات اقتراب الساعة ومعركتها النهائية ما يشبع نهمهم في هذه المعركة، التي سيكون اليهود أحد أطرافها الرئيسة، لا نعدم في المدونة النصية ما يشير إلى الأصول التاريخية للكراهية ضدّ اليهود والمعركة ضدّهم كعلامة لهذا النصر القادم؛ من قبيل الحديث الذي يتوعد بالانتصار النهائي عليهم والذي يقول: “لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله” (رواه مسلم).
بمثل هذه الأحاديث، وغيرها، تشكّلت الذهنية الجهادية عبر الزمن متوعّدة بالانتصار النهائي للإسلام ونهاية العالم.
تربّت أجيال متعاقبة من الجهاديين، طوال الخمسين عاماً الأخيرة، على هذه الأسطورة التي كانت أحد أبرز مقولات الشحن العقائدي، والتي دفعت بالمئات من الشباب الجهادي إلى الموت في “الغزوات” والعمليات الانتحارية.
ختاماً، وعبر هذه الأساطير المؤسّسة، وبها نفهم الذهنية الجهادية، وهي بمثابة “يقينيات” لا يرقى الشكّ بالنسبة إلى الذين تبنوا “المنهج” من الشباب العربي والإسلامي.
لا يمكن فهم كلّ هذا الشحن العقائدي، وكلّ هذا الإقبال على الموت والانتحار، دون الأخذ بعين الاعتبار بكلّ هذه الأساطير المؤسسة للسردية الجهادية.
نحن أمام مقولات ويقينيات في ذهنية الجهاديين تُدرجُ في هذا التفسير الثقافي – العقائدي للظاهرة الجهادية.
ما العمل أمام مثل هذه الأساطير أو اليقينيات في ذهنية الجهاديين، والتي نجدها منتشرة في نصوصنا الدينية، وفي مناهجنا التربوية، وفي مدارسنا، وفي أسرنا، وحتى في بعض وسائل إعلامنا التي تزعم أنّها تحارب الإرهاب؟!
طبعاً؛ ليس من مهام هذه المقالة إيجاد الترياق المناسب من أجل تفكيك هذه الأساطير ودحضها، فهذا عمل يتجاوز المجهود المتواضع للكاتب في تفسير الظاهرة، إلى مجهود آخر يتعلق بكلّ النظام السياسي والثقافي والتربوي الذي يريد مكافحة التطرف العنيف أو الظاهرة الجهادية.
يكفي هذه المقالة شرفاً أنّها من ضمن محاولات الإشارة إلى “أصول الشرّ”، وحوافز العنف وما يعتقد الكاتب أنّها “أساطير”، بمعنى أوهام، تحوّلت إلى يقينيات في ذهنية الجهاديين.
كلمة أخيرة مهمة في هذا الإطار: إنّ حصر هذه الأساطير وتحديدها باعتبارها أصولاً أربعة للفعل الجهادي، لا يعني عدم وجود أساطير أخرى، غير أنّ حضور هذه الأساطير الآنفة الذكر في الذهنية الجهادية أمر لا غنى عنه في فهم وتفسير كلّ هذا العنف باسم الله ونصوصه، أساطير تفسر لنا كلّ ظلام النفق الطويل الذي دخلناه منذ حوالي نصف قرن.
نقلاً عن حفريات