عبدالجبار الرفاعي
كاتب ومفكر عراقي
الفضلُ يعود للإسلام التعددي الهندي في نشأة علم الكلام الجديد؛ لأن مؤسِّسيه الأوائل كانوا من أبرز مفكري الإسلام في شبه القارة الهندية، ثم انتقل بعد ذلك إلى إيران، والعالَم العربي، وبدأ الاهتمام به أخيراً في كل عالَم الإسلام.
ولعلّ وليُّ الله الدهلوي هو أول من عمل على ترسيخ أسس الإسلام التعددي الهندي، والذي تكرست بنيته لاحقاً في أعمال: أحمد خان، ومحمد إقبال، وفضل الرحمن.
كان وليُّ الله الدهلوي (1703 –1762)، الذي يسميه بعضُ الباحثين مجدّدَ القرن الثامن عشر، يمتلك رؤيةً تتّسع لعبور التراث، وتحاول أن تعيدَ قراءةَ القرآن الكريم والحديث النبوي في ضوء الأفق التاريخي لعصر البعثة؛ إذ أزاح شيئاً من ركام التفاسير المكرَّرة والشروح التي دفنت القرآنَ الكريم وغيّبت المقاصدَ الكليةَ لرسالته القيمية، وحاول أن يرى النصَّ القرآني بلا وسائط تحجبه.
على الرغم من أنّ برامجَ التعليم الديني لوليّ الله تركّز على الحديث والعلوم التقليدية، لكنه شدّد على ضرورة التعامل مع القرآن الكريم مباشرةً خارج التفاسير، ولم يقبل من التفسير إلّا بحدود ما يشرح معاني الألفاظ وإعرابَها نحوياً. كما أدرج التصوّفَ في نهاية برنامجه التعليمي، وهو ما لم تألفه برامجُ التعليم الديني من قبل في شبه القارة الهندية (للشاه ولي الله الدهلوي سند معروف في كتاب “الفتوحات المكية” للشيخ محيي الدين بن عربي. وألف الدهلوي 12 كتابًا في التصوف، معظمها بالفارسية، ومنها:
ألطاف القدس، شفاء القلوب، لمعات، الهوامع، فيوض الحرمين. راجع: الشاه ولي الله الدهلوي، الفضل المبين في المسلسل من حديث النبي الأمين، تحقيق: محمد عاشق إلهي البرني المدني، دار الكتاب ديوبند، 1418هـ، حديث مسلسل بالأشاعرة، ص: 63).
ويجدر أن يتصدى أحد الباحثين المختصين بآثار محيي الدين بن عربي وولي الله الدهلوي، لاكتشاف منابع إلهام فهم الدهلوي للوحي في آثار ابن عربي. ولعله تلقّى التصوّفَ من والده الذي كان متصوفاً كبيراً. لوليّ الله أثرٌ ملموسٌ في انتشارِ دراسة الحديث أيضاً، وهيمنةِ المدرسة الحديثية، هذه المدرسةَ التي انتهت إلى مواقف سلفية متشدّدة في شبه القارة الهندية لاحقاً.
نعثر على شذراتٍ في آثار الدهلوي، تلمح إلى آراء اجتهادية، لا تكرّر المكرَّر في التراث. وقد أضاءت هذه الآراءُ لبعض مفكري الإسلام الهندي في القرنين التاسع عشر والعشرين شيئاً من عتمة حاضرهم، وأسهمت في توجيه بوصلة تفكيرهم الديني. حتى وصف محمد إقبال الدهلوي بقوله: “أول مفكر مسلم حاول إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام” حسبما ذكر رشيد بن زين، في كتابه “المفكرون الجدد في الإسلام”. نقله عن الفرنسية: حسان عباس. تونس: دار الجنوب للنشر، 2009، ص 18.
اهتم وليُّ الله الدهلوي بالكشف عن تعبير الشرائع عن مجتمعاتها، واصطلح على تعبير الشرائع عن مجتمعاتها بـ “الارتفاقات”، وهي تعني أنّ شرائع النبوات تتناسب وايقاع حياة ونمط عيش المجتمعات التي ظهرت فيها، ولا تخرج إلا بشكل محدود عن طبيعة حياتهم وظروفهم وعاداتهم وتقاليدهم. بمعنى أنّ هناك “ارتفاقاً” أي تناغماً بين الشريعة وحاجات المجتمع؛ إذ تنسجم الشرائع مع الأحوال الاجتماعية وطبائع الأقوام، لذلك تختلف وتتفاوت تبعاً لاختلاف المجتمعات، وقد بحث الدهلوي هذا الموضوع بشكل موسع في المبحث الثالث من كتابه “حجة الله البالغة”.
ويرى الدهلوي أنّ دورَ النبي، عليه السلام، في تلقيه الوحي لم يكن سلبياً، فهو ليس مجردَ صدىً تمرّ من خلاله كلماتُ الله، فـ “عندما يريد الله إيصال هدى معين، يقدّر له أن يدوم إلى نهاية العالم، يخضع نفس الرسول ليرسل الكتاب الإلهي في قلبه الطاهر، بطريقة خفيّة وشاملة… فتنطبع الرسالة في قلب الرسول كما وجدت في العالم السماوي. وهكذا يعرف الرسول ويقتنع بأنّ ذاك هو كلام الله… بعد ذلك، وتبعاً للحاجات ينطق الرسول بخطاب بديع الصنعة، هو ثمرة لقدراته العقلانية، ولعون الملاك” (كما ذكر بن زين في كتابه ص 136-137، عن كتاب الدهلوي: فيوض الحرمين).
ويعتقد الدهلوي بأنّ وحيَ القرآن الكريم إنما يحدث في “قالب كلمات واصطلاحات وصياغات سبق أن وجدت في ثقافة النبي” (بن زين: المصدرنفسه، ص136 عن كتاب الدهلوي: شطحات.).
ونقرأ ما يشير إلى شيء من هذا الفهم أخيراً لدى محمد مجتهد شبستري؛ إذ يعكس الوحيُ في رأيه أصداءَ ثقافةِ النبي ورؤيتِه للعالم، وهو ما شرحه بالتفصيل في سلسلة محاضراته الموسومة: “القراءة النبوية للعالم” التي ترجمت ونشرت مجلة قضايا اسلامية معاصرة في الأعداد: 53- 68، الصادرة في السنوات “2013–2017”.
مصائرُ الأفكار لا تنتمي لبداياتها، فقد انتهت آراءٌ عقليةٌ حرّة إلى مصير مريع، بعد أن أمست مغلقةً مفرّغةً من أيّة بصمة للعقل.
هذا هو المآلُ الذي انتهى اليه ميراثُ وليّ الله الدهلوي في شبه القارة الهندية، فقد استحوذ عليه وشوّههُ تيارُ أهل الحديث السلفي المناهضُ لكلّ أشكال التفكير العقلي، والذي رفض حتى علم الكلام. آراءُ الدهلوي كانت مُلهِمةً لجماعة من مفكري المسلمين في الهند لاحقاً مثل: أحمد خان، ومحمد إقبال، وفضل الرحمن، على اختلافٍ بينهم في بيان مفهومِهم للوحي وحقيقتِه ومدياتِه، وإن كانوا يتفقون على الدور الفاعل للنبي الكريم، عليه السلام، في الوحي.
ومثلما كان الإسلام التعددي الهندي سباقاً في الاجتهاد الكلامي خارج علم الكلام التقليدي، كان الإسلام الأُحادي الهندي حريصاً على استئناف التراث كما هو، وبعث مقولاته المناهضة لبناء دولة حديثة نصابها المواطنة، والتشديد على الدعوة لدولة دينية تستنسخ نموذج دولة ما قبل الدولة في العصر الحديث، وتعلن مناهضة ما يمثل الدولة الحديثة من دساتير ونظم وقوانين وحريات وحقوق. وذلك ما شددت عليه كتابات أبو الأعلى المودودي، التي أضحت ملهمة لأدبيات الجماعات الدينية العربية وغيرها.
نقلاً عن حفريات