نزهة بوعزة
إن التحول الديمقراطي لأي دولة عادة ما يحتاج إلى منطق الصيرورة التاريخية وكذا محرك هذا التغيير التاريخي المأمول، فقد يرتبط الحافز بعملية التراكم أو بحدث لا متوقع أو طاريء يعمل على تعجيل هذه الصيرورة أو يكسر مسارها نحو مآلات لم تكن تدخل بباب المنتظر.
ويمكن القول، إن الحِراك العربي السلمي الذي عاشته بعض الدول العربية خلال “الربيع العربي” كان محفّزاً إيجابياً نحو تحريك عجلة التغيير الديمقراطي لبعض الأنظمة العربية وعلى رأسها المغرب، مما طرح بعدا تغييراً مخالفاً للمنطق التقليدي القائم على عملية التراكم أو التغيير الذي تتحكم وتعمل على توجيهه البنية الفوقية للدولة، حيث الاحتجاجات السلمية فرضت رؤيتها بضرورة التغيير متجاوزة بذلك كل التراتبية المؤسساتية التقليدية الوسيطة، مما جعل هذا الحراك السلمي بمثابة فاعل تاريخي نحو مزيد من الديمقراطية التشاركية، ولو بشكل جزئي، فقد بادرت الدولة في إطار عملية استباقية نهج مسار ديمقراطي قائم على سنّ دستورٍ جديد للبلاد يتوافق والرؤية التشاركية لكل الفاعلين في المجتمع المغربي.
وبالتالي استفاد من هذا الأمر “حزب العدالة والتنمية” المغربي، بشكل كبير، رغم أنه لم يكن من دعاة مواجهة السلطة كما أنه لم يرفع مطلب استعجال عملية التغيير، بل إن المطالبة بالتغيير جاءت من أطراف أخرى، وعلى رأسها “حركة عشرين فبراير”، إلا أنه بالمقابل استطاع اكتساح صناديق الاقتراع، ليتولى بعد ذلك رئاسة الحكومة لولايتين متتاليتين.
ضبابية المشروع الإسلامي
وهذه التجربة السياسية أبانت عن ضبابية المشروع الإسلامي في ظل الواقع السياسي المغربي، وقد كان لهذه الضبابية نصيب كبير في الهزيمة المدوية للحزب الإسلاموي، فكيف يمكن قراءة ذلك؟
عندما نثير هنا الصيرورة التاريخية فإننا نثير بالمقابل منظور الدولة لهذه الصيرورة وهو منظور يستلهم الديمقراطية كأساس لرسم الدولة الحديثة مستقبلاً، أي نحن إزاء الوضعية السياسية التي تعيشها الدول العربية منذ الاستقلال، وهي الحتمية القائمة على مطلب الديمقراطية كأرضية لممارسة السياسة لكل الأطراف التي يجب أن تخضع لشروط هذه الأرضية ومنها التحزبات الدينية.
غير أن مفهوم الصيرورة التاريخية عند التحزبات الإسلامية، وعلى رأسها “حزب العدالة والتنمية”، صيرورة معكوسة، حتى وإن سلمت عملياً بالأرضية الحديثة للدولة، مادامت تنطلق من مسار تاريخي يستنجد آليات تنظيره السياسي من “البراديكم الديني” (الفكر الديني) الماضوي، فيرسم أفق انتظاره من خلال استرجاع نموذج الدولة الإسلامية، في حين أن أرضية التوظيف السياسي هي أرضية تجعل الأفق المستقبلي منفتحاً على مسار الدولة في نموذجها الغربي، وكأننا أمام مسارين متعاكسين، الأمر الذي يصعب تأمل ائتلافهما معاً.
وحتى وإن بدا الأمر راهناً ممكناً فهو إمكان ظرفي لا يؤسس لأفق بعدي واعد، مما يجعلنا أمام مقاربتين مختلفتين وضوح التنظير وضبابية التوظيف، فالضبابية هنا تأتي من فعل عدم اتفاق الرؤية أو غياب تطابق التنظير مع التطبيق مما يخلق فجوات لاتلائم التنظير المعلن، حيث يخضع العمل السياسي للارتباك والمزاجية المتعلقة بالدرجة الأولى بالقائد أو شخصية الأمين العام للحزب، الأمر الذي يجعلنا ننفتح على نوع من المشيخة السياسية، فما معنى ذلك؟
“المشيخة السياسية”
يظل المشترك بين جل الأحزاب الدينية هو استحضار الأصل الديني في مسألة التناول السياسي، هذا الأمر وضع هذه الأحزاب أمام أمرين الجانب؛ النظري والجانب العملي، الأول مرتبط بشكل كبير بالتصورات المسبقة للعمل السياسي المؤطّر نظرياً بعملية استحضار “البراديكم الديني”، أما الثاني فيتعلق بطبيعة ونمط العمل السياسي الذي يتحكم في العملية السياسية بشكل عام.
نحن إذن، إزاء حدَّين، ضرورة التأصيل وضرورة التأقلم أو المرونة في التعاطي مع الواقع السياسي لضمان الاستمرارية السياسية.
إذا تتبعنا تاريخ الحركات الإسلامية في المغرب نلاحظ أن الطرح الديني المقدم في برنامج العمل السياسي واضح ومحتفظ به عبر كل مراحل هذه الحركات، لكن عملية التوظيف أو استحضار هذا المعطى التأسيسي للعمل السياسي أو حتى تفعيل هذا الطرح هي من كانت دائماً تخضع للمرونة والازدواجية، مما يخندق “البراديكم الديني” في إطار التوظيف الدنيوي الراهن لهذه التحزبات الدينية، بحيث هنا لا يتم الاحتفاظ “بالبراديكم الديني” استلهاماً للأصل في صورته السلفية النقية، بل يتم قولبته وفق الضرورة الفقهية لحاضر التجربة السياسية التي يخوضها التيار الديني.
وبالتالي نجد أنفسنا أمام توجهَين لمطلب واحد، توجه خطابي يركز على استدعاء الأصل الديني في صفائه البهي، وتوجه نفعي نوعاً ما يستخدم الخطاب الأول لتبرير التوجه الثاني، الإشكال أن هذا التوجه السياسي لهذه الأحزاب لا يسائل نفسه عن هذه الازدواجية بل يتعايش معها بمنطق التغافل أو التجاهل عن قصد، وقد يتم تبريره بمنطق الضرورة السياقية، ففي الواقع تمثل خرجات زعيم “حزب العدالة والتنمية” الإسلاموي نموذجاً مهماً يعكس هذا النوع من التعاطي، وهو تعاطي سنطلق عليه “المشيخة السياسية”، هذا التوجه القائم على حشد وتوجيه الرأي العام انطلاقاً من عملية توظيف “البراديكم الديني” في شقه التقوي المستلهم من المعجم الأخلاقي لما ينبغي أن يكون أو المأمول في إطار استرجاع الشعبية الجماهيرية التي فقدها الحزب جراء فشله في قيادة الحكومة لولايتين.
لقد نهج عبد الإله بنكيران، الأمين العام “لحزب العدالة والتنمية”، منذ استبعاده عن الحكومة خلال ولاية الحزب الثانية منهج الخطابة السياسية حيث يكسر التراتبية المؤسساتية المعمول بها في الشأن السياسي نحو توجيه الخطاب بشكل مباشر نحو أكبر فئة ممكنة باستخدام خطاب بسيط يعمل على خلق حلقة نقاشية تهم الشأن السياسي في الفضاء العام عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهو نهج يحقق لزعيم “العدالة والتنمية” متابعة واستمراراً في الساحة السياسية حتى وهو خارج مضمار الائتلاف الحكومي، حيث يمارس نمطين من المشيخة: الدعوية والسياسية.
والاتجاه الدعوي يمرره عبر وسائل التواصل الاجتماعي حيث يخضع بعض النصوص الدينية للتفسير والنقاش بشكل بسيط وبلهجة مغربية دافئة، وندرج هنا مثال الدروس النبوية أو آية استوقفتني التي يقدمها بشكل متسلسل الأمين العام للحزب من خلال قناته على منصة “اليوتيوب”، وتوجه سياسي ينخرط بشكل مستمر من خلاله في جلّ القضايا الوطنية والعالمية، وهو انخراط يغلب عليه المرونة وانتقاء أدوات ولهجة الخطاب، وكأننا أمام نموذجين لشخص واحد، الأول تقوي طهراني زاهد يعمل على الإرشاد الديني للأمور الدنيوية والأخروية، والثاني ينخرط في إبداء الانتقادات والتوجيهات للائتلاف الحكومي أو التوجه الخارجي العام للدولة.
إن ما يبدو عليه الأمر هو أنّنا أمام نموذج شمولي يستطيع الخوض في كل ما يخصّ الشأن السياسي والديني للدولة، إذ يمثل هذا النموذج صورة عن الرؤية الضبابية للإسلام السياسي القائمة على الجمع ما بين المشيخة الفقهية التقوية والمشيخة السياسية العلمانية على حد سواء، وهي في الحقيقة توليفة على قدر غرابتها على قدر جاذبيتها الشعبية.
نقلاً عن “الحل نت”