منتصر حمادة
كاتب مغربي
تتأسس هذه المقالة على فرضية رئيسة؛ مفادها أنّ الظاهرة “الجهادية” ستطول أكبر مما هو متوقع، بمقتضى التعقيد الذي يطال تناول الظاهرة في الشقين، النظري والعملي معاً، وبيان ذلك كالآتي:
منذ عقود، والظاهرة الإسلاموية، في نسختها القتالية أو “الجهادية”، تمر من تسمية إلى أخرى، ومن تنظيم إلى آخر، دون أن تظهر مؤشرات نوعية تبشر بقرب أفول الظاهرة؛ بل ازداد المشهد تعقيداً خلال العقد الأخير، خاصة بعد منعطف كانون الثاني (يناير) 2011؛ أي منعطف أحداث “الفوضى الخلاقة” في المنطقة العربية.
كانت الأقلام المتفائلة تعتقد أنّ صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن، ستكون مناسبة لفرص ورشات النقد الذاتي، وفتح أبواب تجديد الخطاب الديني، للحدّ من التغلغل الكبير للتديّن الحركي، في تفرعاته الثلاثة: الدعوية والسياسية والقتالية، بما في ذلك تجلياته الحركية، التي تدعي “الوسطية” و”الاعتدال”، إلا أنّ أحداث “الفوضى الخلاقة” أكدت أنّ العديد من المشاريع الإسلاموية، الإخوانية والسلفية، على سبيل المثال، كانت في مرحلة كمون، تنتظر لحظة الكشف عن ذاتها وتفعيل مشروعها، كما اتضح ذلك للعامة قبل الخاصة، مع “جمعة قندهار”، المؤرخة في 29 تموز ( يوليو) 2011، والتي قادها أنصار “الوسطية” و”الاعتدال” أو مؤتمرات شعبية إسلاموية علنية، تدعو صراحة إلى إحياء “دولة الخلافة”، دون الحديث عن هجرة الآلاف من شباب المجال الإسلامي العربي، أو المجال الغربي، إلى الديار السورية من أجل “نُصرة الجهاد”، بحسب الخطاب الإسلاموي المروج له آنذاك.
أشرنا في الفرضية أعلاه إلى ثنائية التعقيد التي تطال تناول الظاهرة “الجهادية”، في الشقين؛ النظري والعملي معاً، بما يقتضي التوقف عند معالم كل شقّ.
1 ــ نبدأ بالشق النظري؛ ويهم تعاملنا الجمعي مع الظاهرة، وعنوانه الانقسام الكبير في تحديد أسبابها، بين عدة اتجاهات، منها؛ ما يُسلط الضوء على المُحددات الدينية، التراثية والمعاصرة في آن، من قبيل تسليط الضوء على أدبيات “الجهاديين” المعاصرين مثلاً، من طينة أعمال عمر عبدالحكيم، الملقب “أبو مصعب السوري”، وهو أحد أهم منظري العمل الإسلاموي في نسخته القتالية، عبر “موسوعة المقاومة الإسلامية العالمية”، أو “أبو بكر ناجي”، الاسم الحركي لكتاب “التوحش”، وغيرها من الأسماء.
ومن هذه الاتجاهات ما يصرف النظر عن المحددات الدينية، مفضلاً التركيز على المحددات السياسية، كما نقرأ في القراءات البحثية والإعلامية الصادرة عن المرجعيات الإخوانية، وهذا أمر متوقع لاعتبارات عدة، أهمها؛ وجود بعض القواسم المشتركة بين الإسلاموية السياسية والإسلاموية القتالية، كما اتضح ذلك بشكل جلي في بعض نتائج أحداث “الفوضى الخلاقة”، هذا دون الحديث عن انخراط أسماء فكرية في تغذية الخطاب الإسلاموي، من حيث تدري أو لا تدري، بينما كانت أنظمة المنطقة أو بعضها، تراهن على هذه الأسماء من أجل سحب البساط عن هذا الخطاب “ظاهرة يسار الإخوان مثلاً، تصب في هذا الاتجاه”.
كما نجد من الاتجاهات ما لا يعير قليل، أو كبير، اهتمام للمحددات الدينية سالفة الذكر، ولا حتى أداء العقل السياسي العربي المعاصر، أو عقل ما بعد الحصول على الاستقلال في المنطقة، مقابل التركيز بالتحديد على المحددات الإستراتيجية الدولية؛ بل نجد ضمن تفرعات هذه القراءة مَن يروج لخطاب المؤامرة، من قبيل أنه سواء تعلق بالأمر بظاهرة “الأفغان العرب”، بُعيد الغزو السوفييتي لأفغانستان، أو تنظيم القاعدة أو تنظيم داعش؛ فإنّها تنظيمات أفرزتها القوى الغربية من أجل استنزاف أداء دول المنطقة.
2 ــ نأتي للشقّ العملي؛ وهو الشق الذي يساهم في تعقيد المشهد؛ لأنه نتيجة تفعيل مقتضيات الشق النظري، ولو انطلقنا، على سبيل المثال لا الحصر، من تفعيل مُحدد المؤامرة في الشقّ النظري على الشق العملي، سيصعب حينها إقناع كل من يُروج هذا الطرح بأنّ لدينا مشكلة حقيقية مع أدبيات إسلاموية “جهادية” تدعو إلى إقامة “دولة الخلافة”، والانخراط في محاربة “العدو القريب”، و”العدو البعيد”، وتؤمن إيماناً جازماً بمقتضى “الحاكمية” و”الولاء والبراء” وغيرها من مصطلحات ومضامين هذه الأدبيات.
وإذا كان هؤلاء مقتنعين بهذا المُحدد، فمن الطبيعي أن تكون إحدى نتائج هذه القناعة، مزيد انتشار للخطاب الإسلاموي في نسخته القتالية لدى كلّ من لديه قابلية للنهل منه، وخاصة لدى فئة الشباب والمراهقين، كما عاينا ذلك في مجموعة من النماذج العربية والأوروبية، خلال العقد الأخير؛ أي في مرحلة ما بعد ظاهرة “الأفغان العرب”، وما بعد “تنظيم القاعدة”.
بالنسبة إلى التيار الذي يُركز على المُحددات السياسية، كما هو الحال مع التيار الإخواني على الخصوص، فمن الطبيعي ألا يُركز هذا التيار على أهمية فتح ورشات لسحب البساط عن الأدبيات الإسلاموية القتالية، ليس بمقتضى القواسم المشتركة بين المرجعيتين وحسب، ولكن لأنّ فتح هذه الورشات، معناه المساس بأهم رأسمالي رمزي، بتعبير عالم الاجتماع الفرنسي “بيير بورديو”، يملكه المشروع الإسلامي الحركي؛ أي المساس بالتوظيف السياسي للخطاب الديني في مجتمعات تعج بالأمية العلمية والفقر المادي والفساد الإداري، وليست صدفة أنّ الأقلام البحثية المحسوبة على المرجعية الإخوانية، لا تتطرق أساساً إلى نقد الأدبيات الإسلاموية القتالية.
ومن يرغب في استحضار تأثير الخطاب الديني في استقطاب الأتباع وحشد الجماهير؛ يمكنه استحضار السياق الزمني لولادة التصوف في نسخته الطرقية، والذي جاء ابتداءً من القرن السادس الهجري، مع ولادة الطريقة القادرية والطريقة الشاذلية والطريقة الرفاعية، وغيرها من الطرق، في سياق زمني كانت فيه شعوب المنطقة تمر بما يُشبه أزمات وجودية، جسدتها مجموعة من الأحداث، لعلّ أهمها واقعة سقوط بغداد، عام 656 هجرية.
نخلص في هذه الوقفة الأولية عند الأسباب التي تساهم في تغذية الظاهرة “الجهادية”؛ إلى أنّ عمر هذه الظاهرة أطول مما يتوقع أغلب المتفائلين، بسبب تشابك الثنائية سالفة الذكر؛ أي ثنائية القراءة النظرية الاختزالية، والتعامل الميداني المرتبك، وليس المُحدد الخارجي المُجسد اليوم في القوى الأجنبية إلا عامل من العوامل المغذية لعمر الظاهرة، ولا يحول دون الانتباه إلى العوامل الذاتية الخاصة بنا.
وإذا كانت ظاهرة الخوارج، التي بزغت في حقبة الصحابة، دون أن تكون المنطقة حينها محاصرة بنظام دولي أو صدام قوى عظمى، فلنا أن نتخيل المشهد اليوم في سياق إقليمي أصبحت فيه المنطقة مقاماً من مقامات الحروب والصراعات.
وبالنتيجة؛ لا يمكن تناول واقع ومستقبل الظاهرة الإسلاموية في نسختها القتالية، فالأحرى تناولها في نسختها السياسية أو الدعوية، دون استحضار مُجمل هذه المُحددات، وإلا سوف نساهم في تغذية أسباب وجودها واستمرارها، وهذا عين ما هو قائم اليوم، وما هو مرشح كي يطول.
نقلاً عن حفريات