إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
المواجهة مع التطرف والكراهية هي، في واقع الحال، حرب أفكار تمتد إلى الثقافة والتعليم والسلوك الاجتماعي والعلاقات والتشريعات المنظمة للحياة اليومية، وليست -لسوء الحظ- عمليات مواجهة مباشرة وواضحة مع جماعات محددة.
وفي ذلك؛ فإنّ المواجهة، في الحقيقة، هي عمليات يومية معقدة وشاملة لتكريس التسامح والعيش معاً، ورفض الكراهية في الإعلام والمناهج التعليمية، وأنظمة العمل واللغة، والأدب، والفنون، والغناء، والموسيقى، والعلاقات الاجتماعية، والدراما، والمسرح، والثقافة الشعبية، والنكات، والمصطلحات، والمفاهيم، والقوانين، والتشريعات.
كما أنّها مواجهة شاملة مع الشعور بالتميز والاستعلاء، ورفض الاختلاف والتعددية والتنوع، وإطلاق مضمون لحريات الأفكار والمعتقدات وأسلوب الحياة، وفرص واسعة للتعبير عن الآراء والمعتقدات والتنوع والاختلاف.
ويعد عدم فرض أنماط من السلوك، أو منعها، لأسباب دينية، إذا لم تكن تمثل اعتداء على القانون أو على أحد من الناس، أحد الأساليب المتبعة في مواجهة التطرف، إضافة لعدم التدخل في تعليم الدين وممارسته وتطبيقه، والانسحاب من الدور المباشر للدولة في تنظيم وإدارة الشؤون الدينية والتعليم الديني والمحتوى الديني.
فلا يمكن تصديق جدية أو جدوى ما تفعله الحكومات والمجتمعات، مع استمرار التجاهل الرسمي والمجتمعي للعنف الكامن والراسخ والمنتشر والمتقبّل على نطاق واسع في الثقافة والحياة اليومية والمناهج التعليمية، والتقبل الواسع للكراهية والتمييز تجاه الآخر من الأديان والمذاهب والفئات الاجتماعية والسكانية وغيرها، سواء داخل الدولة والمجتمعات، بمعنى تجاه فئة من المواطنين، أو خارجها؛ لأنه، ببساطة، لا يمكن فهم العنف المادي تجاه فئة أخرى إلا بالعنف الرمزي المؤسس له، فما من عنف مادي إلا ويؤسسه عنف رمزي.
يغلب على القتلة، لأسباب سياسية أو دينية أو اجتماعية، أنّهم أسوياء (غير مجانين)، ولا يفيد كثيراً في فهم الإرهاب تحليل شخصياتهم، وملاحظة النزوع إلى الانتحار أو الاكتئاب أو الكراهية أو النرجسية، رغم أنّها نزعات ساهمت بالفعل في تكوين شخصياتهم وقراراتهم؛ كما لم تكن مفيدة ملاحظة الاتجاهات الأيديولوجية والسياسية لمرتكبي الجرائم ورصدها؛ فقد كنّا على الدوام نُفاجَأ بأشخاص غير متوقعين يرتكبون جرائم إرهابية فظيعة أو يلتحقون بالجماعات الإرهابية، ولم تُعرف أو تُكتشف اتجاهات ومواقف أيديولوجية متطرفة لكثير من مرتكبي الجرائم.
وهذه الملاحظة ليست للتقليل من أثر المعتقدات الدينية والأيديولوجية ودورها في ارتكاب الجرائم، لكن لملاحظة أنّ تحليل النزعات النفسية والأيديولوجية لم يكن مفيداً، أو كافياً على الأقل، لمواجهة التطرف والإرهاب، كما لم تكن كافية مواجهتهما بالتدابير الأمنية، أو لنقل بعبارة توفيقية: إنّ هذه الأعمال العنيفة، بقسوة وجنون، وما يصحبها أو يغطيها من معتقدات وأفكار ومشاعر متطرفة، كانت تؤسس لها على الدوام منظومة واسعة متراكمة من الاشمئزاز والكراهية للآخر، بما هو ثقافة أو دولة أو إثنية أو طبقة أو مجتمع أو ديانة أخرى.
ولا ننسى دور الإعجاب غير العقلاني والتقديس للذات بما هي التاريخ والحضارة والبلد والثقافة والدين، والنظر إلى كل ما يتعلق بالهوية على أنه صواب ومقدس لا يُسمح أبداً بالمساس به، ثم تعزز هذه الهوية بما هي ابتداء أنشئت إنشاء لحماية الذات بمعتقدات دينية، وتتحول إلى نصوص وعبادات وطقوس ورموز، تختزل كلّ غرائز البقاء والدفاع عن الذات، ومواجهة التهديد والخطر، الذي هو الآخر، بغضّ النظر عن حالته أو صفته أو علاقته، أو حتى معرفته بـ “الحرب على الدين والأوطان”، وماذا يمكن أن تفيد، في حالة الامتلاء بالشعور بالتهديد والخطر الماحق تجاه الآخر، محاولات المؤسسات الدينية والإعلامية للردّ على القائلين بقتل المدنيين والأطفال والنساء، أو استهداف عموم الآخرين في أسواقهم ومساجدهم، كما لو تراد إبادتهم.
تقول أستاذة علم الأعصاب في جامعة أكسفورد، كاثلين تايلور، في كتابها “القسوة: شرور الإنسان والعقل البشري”: “المعتقدات تبني العلاقات المحيطة بالقسوة، وتتحكم برغبات الفعل لدى مرتكب الجرم. أما العواطف، فإنّها تدعم الحافز للفعل؛ فهي القوة وراء كلّ فعل يتسم بالقسوة”، وهكذا تتشكل “شبكات المعاني” التي تمثل نسيج كلّ المخلوقات البشرية، هي شبكات اجتماعية ورمزية تستند قوتها على “تقييدنا”، من حقيقة أنّها جزء منا؛ هي ما نقول أو نفعل، والرموز التي نوقرها، والأدوار التي نلعبها، كلها تحدد هويتنا باعتبارنا بشراً، فكما تحدد أجسادنا وجودنا المادي، فإنّ معتقداتنا التي تحتل مشهدنا الإدراكي والمعرفي وطريقة إحساسنا بها، تحددنا نظراً إلى الرأي والتفكير نفسها أو مختلفين، فتوحدنا معاً، أو تجعل كلاً منّا منفرداً أو في معزل عن الآخرين، وكلنا متحفز للدفاع عن نفسه في مجابهة التهديدات، سواء كان معنى النفس مادياً أو عملياً، لكن، بينما يكون التهديد المادي واضحاً للجميع، فإنّ التهديد بمعناه الرمزي موجهٌ لنا، ولكلّ من يعنينا أمرهم ونهتم بهم.
نقلاً عن حفريات