عقار الجندي
كشفت الحكومة البريطانية أواخر الأسبوع الماضي عن التعريف الجديد لـ”التطرّف” الذي أثار سلفاً عاصفة من الجدل. وراجت تكهنات حوله تبين أنّ معظمها كان كلاماً بكلام. لكنها صدقت بخصوص الهدف الجوهري، وهو البطش بجماعات إسلامية تلعب دوراً مزعوماً في تنظيم المسيرات المؤيّدة لغزة. فهذه الاحتجاجات استعصت على الحل وصارت مصدر إزعاج.
لم يُجدِ توسّل وزير الداخلية لوضع حدّ لها، كما فشلت سابقاً في إيقافها تهديدات ومحاولات لتشويه سمعتها من خلال الإلحاح على إلصاق تهمتي العنف والكراهية بها. لذا ربما رأت الحكومة انّ تدخّلاً مباشراً ضدّ مشاركين مزعومين يخرجها من عنق الزجاجة ويساعدها على كمّ الصوت المناهض لما يجري في القطاع.
إلاّ أنّها أخطأت التقدير على أكثر من صعيد. أولاً، ليس هناك حاجة ماسّة لتعريف جديد لأنّ الحكومة تستعين بتعريف سابق وضع في 2011 يؤدي الغرض على نحو أفضل من الجديد. وثانياً، لم يكن اختيارها للتوقيت موفقاً. وإشعال معركة التطرّف فيما يزداد المسلمون البريطانيون تبرّماً من حملات الكراهية، أدّى إلى جعلهم يشعرون بأنّهم مستهدفون بشكل مضاعف.
ويعود تفاقم استيائهم في جزء منه إلى إطلاق رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس، وسويلا برافرمان الملقّبة “وزيرة الكراهية”، ونائب رئيس حزب المحافظين سابقاً، لي أندرسون، جملة من المزاعم المعادية للمسلمين. وإذ انشق الأخير بعد عقوبة شكلية، فإنّ أياً من السيدتين لم تتعرّض للمساءلة أو لأدنى قدر من اللوم من قيادة الحزب. يردّ البعض عدم توبيخهما إلى الخلافات الداخلية وضعف سوناك. ويذهب آخرون إلى أنّ ادعاءات الثلاثة جاءت في سياق مخطط يجري طبخه من أجل تسخين الأجواء مع المجتمع المسلم وتمييزه عن المجتمعات البريطانية فجناح اليمين في الحزب الحاكم يظن أنّه مضطر للعب ورقة العرق في الانتخابات القريبة لأنّها ستكون خشبة نجاته من هزيمة مؤكّدة أمام حزب العمال.
ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ التعريف الجديد للتطرّف هو حلقة أخرى في هذا المخطط. ويعتبرون أنّ “تسييس” تعريف التطرّف سيعود على الحكومة بفوائد شتى. سيضع المزيد من العراقيل في وجه مسيرات غزة التي تعرّي موقفها المؤيّد لإسرائيل بشكل مطلق. وبوسعها أيضاً أن تستخدم التعريف المسيّس في حروبها الثقافية ضدّ المسلمين لنيل شهادة حسن سلوك من المتشددين خارج الحزب وداخله، حيث يزدادون نفوذاً ويضغطون على ريشي سوناك للذهاب وقطع أشواط أخرى إلى اليمين.
وينص التعريف على أنّ التطرّف يعني “تعزيز أو ترويج إيديولوجيا قائمة على العنف أو الكراهية أو التعصب، تهدف إلى إنكار الحقوق الأساسية للآخرين أو خلق بشكل متعمّد لبيئة متساهلة (تسمح) لآخرين أن يحققوا هذه الأهداف”.
أول ما يلفت في التعريف هو أنّه فضفاض إلى درجة يمكنه أن يشمل معها كل شيء تقريباً. مثلاً قد ينطبق على الإيديولوجيتين الشيوعية والرأسمالية وأشار العديد من المراقبين والسياسيين إلى أنّ من شأنه أن يباعد بين المجتمعات ويفرّق المسلمين تحديداً عن غيرهم، وإلى أنّه يشكّل خطراً على حق الناس بالتعبير عن رأيها بحرّية. ومن أهم الانتقادات الموجّهة إليه هي أنّه يستند في تصنيفه للمتطرّف على إيديولوجيا الشخص المعني، وليس علـى ما يقوم به على الأرض.
إلاّ أنّ أعقد مشكلاته تكمن في المصدر الذي أنتجه. فمن يصدّق أنّ الحكومة التي فشلت في مكافحة العنصرية والتطرف المتفشية ضدّ المسلمين في أوساط الحزب الحاكم، ستنجح في معالجة الداء نفسه على المستوى الوطني؟.
أشرف على صياغة التعريف الجديد، وزير المجتمعات، مايكل غوف، المعروف بدهائه وخبرته. وقد اعتنق الصهيونية وآمن بها إيماناً راسخاً منذ كان صحافياً. ويدلّ كتابه “درجة الحرارة المئوية 7/7” (2006)، على موقف سلبي متطرّف لا يقبل المساومة تجاه الإسلام. وهو “ملحمة مشوشة من عدم الفهم، الضحلة والمليئة بأخطاء لا تستند إلى الحقائق” على حدّ تعبير مواطنه المؤرخ الإسكتلندي وليام دالريمبل. ووصف هذا غوف بأنّه “معاد للإسلام إلى درجة لا يساويها سوى مقدار جهله للإسلام”. فهل يمكن لسياسي كهذا أن يكافح فعلاً التطرّف والكراهية بما في ذلك “معاداة الإسلام”؟.
كما أنّ مدى ايمان الوزير الكبير بالديموقراطية واحترامه لحرية الرأي يستحق التأمّل. فأقطاب حملة البريكست التي كان مهندسها الرئيسي المشارك إلى جانب بوريس جونسون، درجوا على اتهام خصومهم المؤيّدين لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، بـ”الخونة” لمجرد أنّهم يحملون رأياً مخالفاً لهم! كما أنّ جونسون حاول حل مجلس العموم، بالاتفاق على الأغلب مع غوف، وذلك لأنّه لم يعد يتحمّل تبعات اللعبة الديموقراطية التي تقتضي الفوز بالإقناع ومقارعة موجة المعارضة لمشروعه. وقيل إذا أراد المحافظون العثور على المتطرّفين فما عليهم “إلاّ أنّ ينظروا إلى أنفسهم في المرآة!”.
لكن قل ما شئت، فالحكومة متشبثة بالتعريف. إنّها تعوّل على رضى الناخبين المتشدّدين وأولئك المتباكين الذين يشتكون من أنّ انتظارهم طال للفعل الذي يردّ عنهم الأخطار التي يدّعون أنّها تأتيهم من الإسلاميين الذين يخرجون أسبوعياً لنصرة فلسطين. فإذا ارتاحت هاتان الفئتان لهذه الخطوة سيستعيد سوناك ثقة قطاع مهمّ من الناخبين الذين يشعرون بالخيبة لتردّده وعجزه.
وتجاهلت الحكومة الدعوات التي وردتها للعدول عن قرار الدفع به إلى حيز المناقشة ثم التطبيق، وذلك من أطراف عديدة بمن فيهم نواب محافظون وثلاثة وزراء داخلية سابقون، بينهم بريتي باتيل المعروفة بتصلّبها البريكستي. وجادل الوزراء والنواب بأنّ من غير المقبول استخدام التعريف وسيلة لتحقيق مكاسب انتخابية. وحذّر رئيس أساقفة الكنيسة الانغليكانية الرسمية، جاستون ويلبي، هو وستيفن كوتريل كبير أساقفة يورك، من أنّ التعريف ينطوي على المغامرة بـ”استهداف المسلمين بشكل غير متناسب”. كما سارعت منظمات حقوق الانسان والمجتمع المدني وحماية البيئة إلى مهاجمته والمطالبة بعدم طرحه.
إلاّ أنّ هذه الأصوات لم تلق آذاناً صاغية. فالحكومة مشغولة بهمومها، ورئيسها صار أقل شعبية من سلفه جونسون بطل فضيحة “بارتي غيت”. غوف يصرّ على تجاهل الحقيقة القائلة إنّ “البطل” في عيني شخص ما قد يكون “إرهابياً متطّرفاً” بنظر شخص آخر والعكس بالعكس. وتصنيف الناس على أساس معتقداتهم ليس خاطئاً فحسب، بل هو مستحيل إلاّ إذا كان من يتبع هذا الأسلوب لا يريد تصنيفاً دقيقاً وإنما شكلياً يمكنه استخدامه كذريعة.
والمؤسف أنّ تسييس التطرّف يجعل معالجته بشكل جدّي أكثر صعوبة. ومن يلوم مراقباً ساخراً إذا تساءل ما إذا تعمّد مُعدّ التعريف وصحبه ذلك حتى يضمنوا أنّهم لن يتعرضوا للمحاسبة!.
نقلاً عن “النهار” العربي